ليبيا …وتاريخ المحن

ليبيا القذافي، كانت التعبيرة الحية عن التغريبة الإنسانية المعاصرة، لا تضاهيها إلا تغريبة الفلسطيني الشريد، و إن كانت محنة الفلسطيني في الخروج من الجغرافيا و الدخول في التاريخ، الغربة و المنفى و الوطن الذي استباحه الأغراب الآتون من الكتب القديمة و من “غيتوهات” المدن اللقيطة غربا و شرقا، فإن محنة الليبي أقسى، لأنها غربة في الوطن و امتهان من القريب و ابن العم.



ليبيا …وتاريخ المحن

 

ليبيا القذافي، كانت التعبيرة الحية عن التغريبة الإنسانية المعاصرة، لا تضاهيها إلا تغريبة الفلسطيني الشريد، و إن كانت محنة الفلسطيني في الخروج من الجغرافيا و الدخول في التاريخ، الغربة و المنفى و الوطن الذي استباحه الأغراب الآتون من الكتب القديمة و من "غيتوهات" المدن اللقيطة غربا و شرقا، فإن محنة الليبي أقسى، لأنها غربة في الوطن و امتهان من القريب و ابن العم .

 

 

عندما كان شاعر العربية الحديث محمود درويش يُنشدُ في رائعته مديح الظل العالي :

 

 "والإيديولوجيا مهنة البوليس في الدول القوية
من نظام الرق ّ في روما
إلى منع الكحول وآفة الأحزاب في ليبيا الحديثة "
 كنّا نضحك من هذا المجاز العجيب، و لا يزيد أبلغنا في قراءة الشعر عن التعليق، بكون ليبيا لا خمر فيها، و لا تنادم و لا سعادة. تذكرت هذه الابيات و أنا أتابع، كغيري ما يحصل في ليبيا الحبيبة. تذكرت هذه الأبيات،  و أدركت كم أن الشعراء، كهنة الكلام و أسياد النبوءات. فليبيا القذافي، كانت التعبيرة الحية عن التغريبة الإنسانية المعاصرة، لا تضاهيها إلا تغريبة الفلسطيني الشريد، و إن كانت محنة الفلسطيني في الخروج من الجغرافيا و الدخول في التاريخ، الغربة و المنفى و الوطن الذي استباحه الأغراب الآتون من الكتب القديمة و من "غيتوهات" المدن اللقيطة غربا و شرقا، فإن محنة الليبي أقسى، لأنها غربة في الوطن و امتهان من القريب و ابن العم .

 

فكرت في هذا و سرحت في تاريخ ليبيا، فإذا بي أكتشف انه تاريخ محنة، و ليس الشعب في ليبيا إلاّ تاريخا طويلا من التراجيديا الانسانية الحيّة، لا اعتقد ان شعبا آخر عاشها في تاريخ الشعوب العربية قاطبة. ففي البدء كانت ليبيا و لاسباب تتعلق بالجغرافيا، مجرد مركز عبور للعرب الوافدين و العائدين الى المشرق، و لم تنشأ حضارات و تجمعات سكنية كبيرة، على وجود بعضها، كما هو شأن الأقاليم الاخرى في المشرق و مغرب الاسلام. و كانت ليبيا في طريق الحجيج، و مستقرا لما فيها من خلاء و غلبة لقيم البداوة، من حسن استضافة و اجارة، للزهاد و شريدي الصراعات الدينية و الفقهية. فكثُر فيها التصوفُ، و غلب عليها تديّن بسيط بساطة الحياة البدوية لليبي الطيب.و طور الليبيون الأذكياء، نمطا من الحياة منسجما مع تلك الطبيعة، فتحولوا الى تُجار، و يحفظ التاريح "للطرابلسية" هذه الميزة، و تشابكوا بذلك مع غيرهم من الأقوام، و تعمقوا في داخل افريقيا السوداء و كان لهم الفضل الكبير في نشر الاسلام ذي الخصائص الليبية، الاسلام الصوفي البسيط .

هذه الميزات سرعان ما تحولت في العصر الحديث الى محن قاسية. فقد عرفت ليبيا في بداية القرن العشرين الاستعمار الايطالي، و هو أبشع انواع الاستعمار على الاطلاق. فرغم أن الاستعمار، عامة هو ظاهرة لا انسانية و همجية، فانه أسهم، لتحيق أهدافه و ليس حبّا في مستعمريه، في "تطوير" بعض أسباب الحضارة و مظاهرها، كالمدارس الحديثة و المعاهد العليا و الجامعات، و البناءات والسكك الحديدية و الهاتف و الراديو، و الصحافة و بعض الصناعات التحويلية من خمور و أجبان و نسيج و ترك شبكة ادارية و قوانين و مجلات قانونية، مكنت هذه المستعمرات عندما استقلت من البناء على هذا الرصيد. إلا الاستعمار الايطالي فقد كان فجّا و فظّا و مرعبا، كان استعمارا وحشيا، لا انسانيا، لم يُخلف وراءه الا المآسي و القتل و التشريد. آلاف الليبيين تم الزجّ بهم في محتشدات و معتقلات لا انسانية، ليموتوا عطشا و جوعا. ألاف النساء الليبيات الحرات تم اغتصابهن و تحولن الى مُسرات للجنود الفاشيين. بل ان مئات العائلات تم ترحيلها الى ايطاليا في أكبر حملة تغيير ديموغرافي لخصائص الحياة البشرية في ليبيا. هذا الاستعمار لم يترك وراءه غير الموت و القتل .

 

و عندما انهزمت ايطاليا الفاشية، و مع الانتداب، عرفت ليبيا حكما ملكيا. مع عائلة السنوسي. و رغم المحاولات "التحديثية" للملك السنوسي، فان الملكية في ليبيا كانت أكثر أنواع الملكيات العربية، "تخلفا" حضاريا، فالسنوسي كان سليل الطريقة السنوسية، و هي طريقة صوفية، الملك رأس الطريقة، و كان زاهدا في التحديث بقدر زهده في الدنيا. و ترسخت في عهده على قصره، قيم ترك الدنيا و الاهتمام بالشأن الروحي. لذلك و رغم بروز بعض النخب اللبرالية، المتأثرة بما يحصل في العالم، و بعض النخب اليسارية و القومية المتأثرة بالتحديث الناصري أو البورقيبي، فان ليبيا لم تعرف حقيقة حركية تحديثية مهمة، تمس من البُنى العميقة للمجتمع الليبي، ان على مستوى البُنى القبلية أو على مستوى البُُنى الذهنية و القيمية للمجتمع الليبي .

 

و كانت الثورة، و عكس كل ثورات الدنيا كانت المحنة. بل بلغت تراجيديا الوجود الليبي أقصاها و أقساها. القذافي، لا أجد توصيفا دقيقا له.

كيف نبدأ الحديث على الوهم الكبير؟؟؟ من القذافي نفسه؟ ام مما قام به؟؟؟ ام من حالة شعب ليبيا بعد 42 عاما من "الثورة"؟؟ مئات ألاف البليارات، من الشيئ الوحيد "الجميل" في حياة شعب طيّب، تم اهدارها في كل شيئ، يمينا و يسارا، وُزّعت اكراميات على كل شعوب الـأرض و المغامرين، من أحياء دبلن الى غابات امريكا اللاتينية الى أدغال افريقا الى جزر الفلبين و اندونيسيا. مغامرات طائشة، لرجل أعمته السلطة، و غروره النرجسي المرضي، لا أحد دفع ثمنها غير الليبين. لا مدارس، لا جامعات، لا خدمات صحية تليق بشعب ثري بالنفط يعيش في نهايات القرن العشرين في حظيرة كبيرة يرعاها السيد الزعيم الاوحد. زعيم يعامل شعبهُ باحتقار، و تلك المأساة. عمل القذافي على إغراق الليبين في حياة استهلاكية فضفاضة: سيارات أموال و سوق مفتوحة بلا رقابة لكل أنواع السلع الكمالية….. و بعض الفتات رأس السنة. لكن المهانة التي كان يشعر بها الليبي و هو يتنقل بين المدن في البلدان المجاورة كانت لا تُطاق. دمر القذافي اضافة لكرامة الليبي البدوية، كل مسببات الحداثة و العصرانية. و قضى على كل امكانات قيام الدولة: لا أحزاب و لا جمعيات مدنية و لا منظمات و لا نقابات…. لا شيئ إلا القذافي و لا شيئ غيرهُ. بل و عمل على تعويم الوجود الليبي و ألغى كل العلامات المادية الدالة على الوجود. المدن تغيرت أسناؤها بمناسبات تاريخية بحسب سيرة الزعيم، مدينة البيان الاول، مدينة النقاط الخمس، أي لتعرف الجغرافيا عليك ان تقرأ تاريخ القذافي. و التاريخ نفسه تغير، الشهور ليست الشهور: الطير و التمر و التين ….. بلاد بلا ملامح، غير الملامح الفلكلورية للعقيد الذي صار زعيما فملك ملوك فعميد رؤساء. ان تنامي الاحساس بالعار من الذات و الوجود، كان عاملا مهما في الثورة. و الشعور بالخزي مدخل مهم من مداخل الثورة. و قد ذهب ماركس في رسائله الاولى الى ان "شعبا ما، يثور، بقدر شعوره بالعار "

و محنة المحن "ثورة 17 فيفري" بالدم المغمس بالقنابل، و آمال الحرية و استعادة الكرامة السليبة، الملوثة بأيدي الناتو و طائراته، يرفدهم رجالات "القاعدة" و الاسلاميين من الملل و النحل. كيف اجتمع الغرب "الصليبي"/ الامبريالي مع أعدائه من ثوار بنغازي القادمين من جبال طورا بورا و معسكرات الارهاب في سفوح افغانستان و من الشقق الفخمة في العواصم الغربية. كيف اجتمع هؤلاء الغربان على لحم الليبي الطيب الذي لم يكن يبحث الا عن حريته، و على ان يكون انسانا .

 

تلك تغريبة الليبي. و تلك بداية محنة أخرى. و نحن في محننا، نرقب ما يحصل على حدودنا، و قلوبنا ممزقة. الفرح لشعب ليبيا أي لشعب تونس. و الخوف من الاستعمار و من الارهاب. نرجو انها خاتمة المحن. و المآسي هي التي تصنع الشعوب العظيمة .

 

 

 

المهدي عبدالجواد

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.