الفتوى في زمن البلوى!

يعيش بيننا ويريش فريقان يمكن أن نسمّي أحدهما «كتيبة السائلين» ونسمّي ثانيهما «كتيبة الموقّعين». وللأمانة، فكثيرا ما حُمّل الفريق الثاني، أعني فريق «الموقّعين باسم اللّه»، وزر الدائرة العبثيّة التي وصلنا إليها حين عمّت حياتنا الفتاوى المضحكة المبكية…



الفتوى في زمن البلوى!

 

يعيش بيننا ويريش فريقان يمكن أن نسمّي أحدهما «كتيبة السائلين» ونسمّي ثانيهما «كتيبة الموقّعين». وللأمانة، فكثيرا ما حُمّل الفريق الثاني، أعني فريق «الموقّعين باسم اللّه»، وزر الدائرة العبثيّة التي وصلنا إليها حين عمّت حياتنا الفتاوى المضحكة المبكية.

وما أقلّ التفاتنا إلى كتيبة يتزايد منتسبوها، مع الأيّام، عَنِيتُ «كتيبة السائلين» عن أيّ شيء، الشحّاذين لفتوى، الحائرين دون سبب ولا مشكلة. أليس من تمام الإنصاف القول بأنّ مسارعة المُفتين – من المتربّصين للإفتاء في كلّ شيء، وخصوصا منهم نجوم الفضائيّات – إلى الإدلاء بدلائهم في ما هبّ ودبّ هو استجابة «شرعيّة» لأسئلة الحائرين من هذه الملايين الغارقة في الشعور بالذنب والمشغولة بمقارعة طواحين الهواء. أليس السؤال، في حدّ ذاته، ضربا من الاستدراج والتوريط لأذهان لا يشكّ أصحابها، لحظة، في أنّهم مُنية السائل وشفاء الحائر. هي السوق حربٌ بين عَرض وطلب كما يقال، وكلّما ازداد الطلب على بضاعة نما عرضها وزاد الثمن .

عن هذه البرمجة الماكرة، ازدهرت سوق الفتاوى، فتاوى التكفير والتبديع وأحكام الإباحة والتحريم والندب والكراهة، لتسير بها ركبان السائلين والشحّاذين، وتنشرها في مشارق الأرض ومغاربها. وفي السنوات الأخيرة، صار من الجائز الحديث عن «نكبة الفتاوى»، وقد عمّت لتنقلب إلى بلوى حقيقيّة شكّل الكثير منها مادّة دوريّة لاهتمامات الإعلام ولأحاديث الناس ونِكاتهم .

الصورة، كما أراها الآن، تشبه إلى حدّ كبير مشاغبات الصبيان، كأن يوغر بعض الخبثاء صدر أحدهم على زميل له، أو أن يستحثّ أحدَهما للمبادرة بصفع الآخر، أو أن يسألهما على الملإ: من يغلب الثاني؟؟ وللتوّ، ينقاد المتخاصمان إلى الطّعم، ليستغرقا في مشاجرة تطول أو تقصر، ويسعدُ من أشعل فتيلها بلذّة المشاهدة. كذلك هو الأمر في هذا الباب، وإلاّ ما معنى أن يسأل أحدهم عن حكم تعلّم الإنجليزيّة، أو عن الأكل بالملاعق، أو أن يسأل عن حكم الجلوس على الكراسي وما أشبهها من مقاعد وآرائك، أو أن يسأل الآخر عن حكم القصص الخياليّة أو عن حكم مشاهدة صور«ميكي ماوس» الكرتونيّة؟

لقد تكاثرت الفتاوى بتكاثر المستفتين والمُفتين حتّى صارت حياتنا على الأرض – تلك التي نحياها في الدار العاجلة !– موضع تساؤل، أهي حلالٌ أم حرامٌ، مندوبة أم مكروهة؟ وازدهرت سوق الفتوى، فعمّت البلوى، ولم يعد من الممكن أن نخطو خطوة إلى الأمام إلاّ بفتوى عن أسئلة باردة بليدة سمجة .

 في أحد برامج الانتصاب الدعويّ الفوضويّ، سئِل الشيخ محمّد المنجّد عن الفلم الكرتوني " ميكي ماوس". فتكلّم عن تعظيم الغرب للفأر في مقابل هوانه عند المسلمين والأمر بقتله. وهاجم رجلُ الدين الفئران بشدّة داعيا إلى قتلها في الحِلّ والحُرُم بوصفها من جنود إبليس. وحذّر أطفال المسلمين من الإعجاب بالفئران كما هي في الصور المتحرّكة أمثال " ميكي ماوس " و" توم وجيري ". وأسِف الشيخ المنجّد لأنّ " الفئران تلك الكائنات الممقوتة صارت عند الأطفال حاجة عظيمة ومحبوبة..يعني ميكي ماوس هذا شخصيّة عظيمة مع أنّه يُقتل في الحلّ والحرم شرعيّا ". واستغرب المنجّد هوان المسلمين بقبولهم أفلامًا كرتونيّة للفأر وهو أحد جنود إبليس سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بالفويسقة لخبثه ولخروجه عن الحرمة في الحلّ والحرم وقال: " اقتلوا الفويسقة ".

والحقّ أنّ جناية الفأرة تلك "الفويسقة أمّ خراب" كما كانت تلقّب وتكنّى، لم تقتصر على تحريك فتيل الزيت حتّى أوشكت أن تحرق فراش النبيّ، ولكنّها لم تفعل ذلك إلاّ لأنّ الفئران "أمّة من اليهود" ضلّت ! كما ورد في الصحيحيْن: ".. عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فُقدت أمّة من بنى إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلاّ الفأر. ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته ."

فقد دلّ عدم شرب الفئران للَبَن الإبل الذي هو محرّم على بنى إسرائيل أنّ أمّة من اليهود مُسخت إلى فئران  !

ويبدو أنّ الشيخ المنجّد – ومن ورائه كلّ الذين يتبادلون الشتائم والسباب بوصف خصومهم بالفئران والجرذان أيضا – وقف عند حديث المسخ دون ما طرأ عليه من نسخ، واتّبع العامّة التي زعمت، حسب رواية الجاحظ في حيوانه، أنّ الفأرة كانت يهوديَّةَ سحّارة والأَرَضَة يهودية أيضاً.. وأنّ الضبّ يهوديّ، حتّى قال بعضُ القصَّاص لرجل أكل ضبّاً: اعلمْ أنّك أكلت شيخاً من بني إسرائيل  !

وإذا عُرِف السبب بطل العجب. فأنْ تكون " أمّ خراب " من جند إبليس ومن ضَعَفة الحنّ والجنّ بل وفرقة من اليهود الضالّين (!!)، فهذا كاف ليس لوصف الخصوم بها أو الدعوة إلى قتلها فحسب، ولكن لمطاردتها في شتّى أنحاء العالم الإسلاميّ بالقطط المدرّبة ونشر المصائد وإعلان الجهاد أيضا !

مختار الخلفاوي- اعلامي تونسي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.