حديث الزنزانة رقم واحد بمخفر شرطة منزل تميم

ليس سجن الايقاف مكانا ملائما للتأمل أو التزهّد. فلا يمكنك أن تترشف فيه قهوتك الصباحية وأنت تتصفح جريدتك المفضلة. لا تستطيع بين جدرانه أن تحيي بائع أزهار الياسمين متمنيا له يوما سعيدا

حديث الزنزانة رقم واحد بمخفر شرطة منزل تميم

 
 

ليس سجن الايقاف مكانا ملائما للتأمل أو التزهّد. فلا يمكنك أن تترشف فيه قهوتك الصباحية وأنت تتصفح جريدتك المفضلة. لا تستطيع بين جدرانه أن تحيي بائع أزهار الياسمين متمنيا له يوما سعيدا. فقط تجد نفسك مستلقيا رغما عنك فوق رداء رهيف لا يفصلك عن أرضية القاعة سوى بضعة مليميترات في وسط قاعة تكاد تصرخ من شدة الوحشة. تغمض عينيك لتنسى أنك في سجن فتجد نفسك مجبرا بين استرجاع شريط ماضيك أو ترقب لحظة الوقوف أمام قاض قيل أن لا سلطان فوقه إلا سلطان القانون، أي قانون؟ قانونهم الذي يستوجب عليك تنفيذه دون أن تكون قد ساهمت في سنّه. من هم؟ أصحاب السلطة تختلف عناوينها. سلطة المال، سلطة الدين، سلطة القوة القاهرة. لكن من أين نبعت سلطاتهم تلك؟ فالمرء لا يولد وهو صاحب سلطة، وانما ينتزعها من بين أيدي الجبناء والخانعين والخاضعين.

 

تدّعي النوم وعينيك مغمضتين حتى تتفادى حديث تريد ادخاره لقضاة المحكمة، ولكن تعجز عن حجب نفسك عن الانصات لما يُدار من حولك من نقاش. في ذات الغرفة الكئيبة يجلس أربعة شبان القرفصاء وهم يتبادلون المزح مثل خلان مرّ على التعرف على بعضهم البعض مدة طويلة، بينما كان القدر السيء هو وحده الذي جمعهم في مكان واحد.

 

هم شبان يطأون السنوات الأولى لعمر الكهولة لم تكن يجمعهم بين المجتمع أي شكل من أشكال العداء أو الضغينة، إلى حد لحظة ايقافهم.

 

لم يظلموا مسكينا، ولم يعتدوا على ضعيف، ولم يخدشوا حياء السيدة حميدة وشقيقاتها. جريمتهم أنهم صدّقوا أن للحياة أكثر من وجهة نظر، وأن للمتعة عدة أوجه اختاروا احداها.

 

اعتكفوا على طريقتهم. نسجوا في مخيلتهم الذاتية مقدساتهم ووضعوا لها طقوس وكتبوا من أجلها تمتمات وأذكارا لا يفكك طلامسها سوى أترابهم.

 

لم يعادوا رجالا تتبلس وجوههم قناعا آخر بمجرد ارتدائهم كسوة يُظن أنها تجعل من لابسها يمثل الدولة؛ ذلك الكيان الهلامي الذي لا يوجد سوى في أذهان الناس. غير أن يميز ممثلي الدولة في داخل الدولة أنهم يتصفون بخصال لا توجد لدى أقرانهم في الدول التي من المفروض أن نكون قد التحقنا بها في مشوار الحضارة الانسانية.

 

منفذو قانون لا يعلم البسطاء من الناس ظروف انجازه في ظل نظام سابق لا يهمه من الشعب سوى ما ينتجه من خيرات يبتزها منه، لا يبذلون جهدا لكبح عقدهم النفسية ولضبط مشاكلهم العصبية التي لازمت تكوين شخصيتهم عبر مختلف المراحل العمرية. فالشُرطات في وصفتها التونسية هم رجال غليظي الأجساد، وجوههم مجمهرة وعابسة، حفظوا معجم أكثر الألفاظ سوقية عن ظهر قلب ولا يتوانون عن التقاط أية فرصة لظلم مسكين والاعتداء على ضعيف وخدش حياء السيدة حميدة وشقيقاتها.

 

داهموا هؤلاء الشبان غفلة في صفوة صفائهم لينزعوا عنهم حالة التماهي مع الخالق، وليفسدوا عنهم عزلتهم الوجودية. دخّنوا سجائر لم تُصنع من مواد أولية حرّمها الرب؛ كل أرباب الأرض والسماوات بلا استثناء. سجائر أحلها اله هذا البلد وما جاورها، ومنعها عبيده والمؤمنين به. زكاء نفوسهم أزعجت أصحاب مركبات النقص النفسي في زي الدولة الرسمي، فعزلتهم عن الناس اتقاء لتزهدهم الذي قد يفسد أخلاق العامة. سجن خُلق من أجل تهذيب سلوك قد يكون منحرف عن سلوك المجتمع، فأي انحراف قد يبدر من شبان ذنبهم أنهم وضعوا بين شفائفهم لم يرض عنها صانعو القوانين ومنفذيها.

 

سيتم قضم بضعة أشهر حرية من سنوات عمرهم، هذا أمر مؤكد، الا أنه حان الوقت لفتح ملف "الزطلة" وما شابهها، للنقاش المفتوح حتى لا تذهب أعمار جيل بأكمله في مهب الرياح.

 

بقلم: سفيان الشورابي (صحفي)

 

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.