تونس: احتضار الانتقال الديموقراطي

تعيش البلاد التونسيّة العامرة بالأماني والطموحات اليوم مرحلة انتقالية صعبة، يُجمع الملاحظون والسياسيون على أنّها المحدّد في بناء تونس الغد الساعية سعيا حثيثا إلى التخلّص من ثوب …



تونس: احتضار الانتقال الديموقراطي

 

تعيش البلاد التونسيّة العامرة بالأماني والطموحات اليوم مرحلة انتقالية صعبة، يُجمع الملاحظون والسياسيون على أنّها المحدّد في بناء تونس الغد الساعية سعيا حثيثا إلى التخلّص من ثوب الديكتاتوريّة الذي لفّ البلاد في السواد لسنوات طويلة. ويلعب المجلس التأسيسي الذي تنادت تيارات سياسيّة مختلفة لإقامته، دورا كبيرا في تحصين المسار الديمقراطي، ورفعه إلى مستوى آمال التونسيين وتطلعاتهم.

 

لكن مع مرور الأيّام بدت على هذا المجلس علامات الوهن والتعثّر بعد أن مزّقت وحدته الصراعات الأيديولوجيّة والتناحر السياسيّ.

وكثيرا ما يُرَدِّدُ بعض أعضاء المجلس التأسيسيّ في افتخار أنهم أعلى سلطة في البلد. ويذهب بعضُ مَنْ يعاني مِنْ فائض التفاؤل إلى اعتبار المجلس التأسيسي الحاكمَ بأمره في البلاد، والراسم لخريطة المسقبل.على أن نسبة كبيرة من التونسيين أمست تدرك اليوم أن هذا المجلس الموقر، مالا وعددا، لا حول له ولا قوة، وأنّ كلّ القرارات المصيرية تتخَذ مِن وراء ظهره بعيدا عن قبته الهوائيّة التي فضحتها الأمطار الأخيرة، ورسمت لها مشهدا سيبقى محفورا في الذاكرة السياسية. فعن أيّة سلطة يتحدّث السادة نواب التأسيسي ّإذن، هل اختار أعضاء هذا المجلس، في لحظة واعية، رئيس الوزراء مِن بين عديد المترشحين؟ وهل كانوا قادرين على ردّ قرار مجلس الشورى باختيار السيّد ‘حمادي الجبالي’ في البداية، وتعويضه في الأمتار الأخيرة بالسيّد علي العريض’؟

 

وتثبت الوقائع أنّ كلّ القرارات المصيرية التي صدرت عن هذا المجلس قد وقع الاتفاق عليها في غرف مظلمة، ودُعِيَ النواب- موالاة ومعارضة- إلى حفل صوريّ لتزكيتها، وإضفاء الشرعية عليها في حملة استغباء واسعة ضحيتها الأولى والأخيرة تونس المسقبل.

وبإزاء ما يحدث، أليس من الشرعي التساؤل عن الفرق في الأداء بين هذا المجلس التأسيسي المنتخَب الذي تملك فيه ‘الترويكا’ الحاكمة الأغلبية، وبين برلمانات بن علي؟ فإذا كان بن علي يقرّر، ويصدر الأوامر ليصادق مجلس النواب عليها آليّا مشيدا بإنجازات الرئيس الحكيمة، فإنّ المجلس التأسيسي هو الآخر يضفي شرعية على قرارات ‘الترويكا’، ولا يعصيها، بل كثيرا ما يتحول أعضاؤه إلى مدافعين أشاوس عن هذه القرارات والقوانين.

 

من جهة أخرى، إن الحوار الوطني المزعوم الذي يجري اليوم خارج المجلس الموقّر، بشروط يمليها الطرف القوي هو الذي يحدّد خيارات المجلس التأسيسي لا العكس وما النواب/النوّام إلا أصابع تضغط على الأزرار لتوافق أو لتعارض معارضةَ مَنْ يصرخ في صحراء الوهم لا حول له ولا قوّة.

 

ليس من المبالغة أو التجني الإقرار بأنّ البلاد تشهد ‘سيركا’ يتحوّل فيه الانتقال الديمقراطي إلى لعبة بهلوانية يقفز فيها اللاعب السياسي خارج الشرعية الصوريّة. وغالبية الشعب التونسي اليوم تعرف مَن هو الحاكم الفعلي الذي يعيّن، ويعزل، ويرسم السياسات العامة. وقد اختار هذا الفاعل المرفوع أن يكون بعيدا عن ‘قرطاج’ وعن ‘القصبة’ وعن ‘باردو’ متسليا بلعبة التسيير عن بعد بالريموت كنترول.

 

وإذا كان المجلس تأسيسيّا يروم وضعَ خارطة تونس الغد، فماذا يفعل أصحاب المستويات التعليميّة المتوسّطة فيه؟ هل يمكن لمَن لا ‘بكالوريا’ له، الفاقد إلى أيّ تجربة سياسية أن يؤسّس النموذج الذي يجب أن تكون عليه تونس الغد؟

 

وقد اختار نوَّابُ المعارضة حلا سحريّا سهلا قوامه التمتّع بخيرات المجلس، والتنصّل من تبعات القرارات الصادرة عنه وقد اعتقدوا أنّهم بهذه المنزلة بين المنزلتين سينجون من محكمة التاريخ. وفاتهم أنّ هذه التبريرات العقيمة تسقط بالتقادم، عندما يفتح التاريخ ملفاته ،وينفض عنها الغبار. فالنائب الذي يدرك أنّه قد جِيء به لتأثيث المشهد الديمقراطي دون أن يكون فاعلا فيه، ويواصل – مع ذلك- الاستمتاع باللعبة، شريك في كلّ القرارات المتخذة. والدستور الذي سيوشح صدر تونس قريبا. هو دستور كلّ الحاضرين في المجلس بلا استثناء. فأيّ فائدة ترجى من معارضة أمست ظاهرة صوتيّة في المجلس لا يمكنها أن تغيّر ما اتفقت عليه أحزاب الترويكا في الاجتماعات المغلقة التي تجري خارج المجلس؟

 

تسير البلاد – الآن – في طريق مجهول بلا هيئة مستقلة للانتخابات، وبرئيس معزول في قصر ‘قرطاج’ يحيط به أصفياؤه، مزدوج الشعور نصف قلبه لتونس، ونصفه الثاني لقطر يريد بعض الصلاحيات كي يصدر قرارا بتأميم حبّ قطر، وتوزيعه بالعدل والقسطاس على كل تونسي في الداخل والخارج. أما رئيس الوزراء فشبكة معقّدة من الصلاحيات تمسك بكلّ الملفات وتدفع بكلّ الاتجاهات.

وما يريده التونسي البسيط اليوم هو أن تتوقف الحركات البهلوانيّة لأنّ عرض السيرك الذي طال أصبح مزعجا ومنفّرا. وقد يصل به اليأس إلى أن يقول إلى كل أعضاء المجلس التأسيسيّ من دون استثناء ‘خذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا’ .

محمد صالح مجيد (كاتب تونسي) عن القدس العربي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.