… ولكنْ ما معنى الدولة المدنيّة ؟

قد تكون عبارة «مدنيّة الدولة» الوفاق التاريخي الذي ساعدت عليه الثورات العربيّة للخروج من مأزق التنازع بين أطروحتي دولة الخلافة والدولة العلمانية. الدولة بالمعنى الحديث لا تقوم إلاّ …



قد تكون عبارة «مدنيّة الدولة» الوفاق التاريخي الذي ساعدت عليه الثورات العربيّة
للخروج من مأزق التنازع بين أطروحتي دولة الخلافة والدولة العلمانية. الدولة
بالمعنى الحديث لا تقوم إلاّ بعد علمنة الفضاء السياسي، لكنّ كلمة علمانية ارتبطت
في أذهان كثيرين بالسياسات اللاّدينية أو المعادية للدين التي انتهجها بعض أنظمة
الحكم الشيوعية، حتى أنّ بعض دساتير المنظومة الشيوعية سابقاً كان يقرّ بالشيوعية
عقيدة رسمية أو ينصّ صراحة على دور الدولة في مقاومة العقائد الدينية، ما جعل
العلمانية «مُسترابة» وإن لم يكن هذا معناها الأصلي.

في المقابل، أنشأت حركات الإسلام السياسي صورة عقائدية موازية تقوم على مبدأ
الدولة الدينية وجعل مرجعية المرشد أو أمير الجماعة أعلى من سيادة الشعب، وهي
صورة مختلفة عن السائد في التراث العربي الإسلامي، أقلّه في جزئه السنّي، إذ إنّه
ميّز دائماً بين وظيفة الشيخ ووظيفة الحاكم.

ويقضي مفهوم مدنيّة الدولة بأن يكون الرابط الاجتماعي بين الناس مدنيّاً وليس
عقائديّاً، وأن تكون وظيفة الدولة تنظيم الحياة المشتركة وإدارة التعايش
والاختلاف بما يمنع الصدام والفوضى، بينما تحترم الدولة الحريّات الفرديّة في
الفضاء الخاص. فغاية كلّ التشريعات التي تصدر عنها وتطبّق باسمها تنظيمُ الفضاء
العام، وإذا تجاوزت ذلك أصبحت دولة عقائديّة تتدخّل في ضمائر الناس ووجدانهم.

ومن وظائف الدولة أن تحمي عقائد مواطنيها وتشرف على إدارة ما يترتّب على تلك
العقائد من سلوك جماعي، كالإشراف على التعليم الديني وتنظيم العبادات. ولما
كانت الوظيفة الأمنية إحدى وظائفها الأساسية، فمن حقّها أيضاً التدخّل لمنع كلّ
ما يخلّ بالأمن العام، أي أمن المواطنين لا الحكّام.

لقد توصلت البشرية عبر تاريخها الطويل وتجاربها المتنوّعة إلى أنّ التعدّدية هي
القاعدة، وأنّ وظيفة الدولة هي إدارة التعدّد وليس جعل المواطنين نمطاً واحداً.
فإذا كان الإنسان مدنيّاً بالطبع، كما قال أرسطو وابن سينا وابن خلدون، فإنّ
تعايش البشر بين بعضهم بعضاً يستند إلى قواعد مدنيّة لإدارة الاختلاف بينهم
وليس لإلغائه. لذلك نميل إلى اعتبار فكرة مدنية الدولة قديمة في التراث السياسي
السنّي، لأنّ هذا التراث ارتبط بتجربة فعلية في الحكم وإدارة الشأن العام ولم
يكن مجرّد تأملات طوباوية، مع أنّه لم يبلغ مرحلة إرساء نظريّة سياسية واضحة
المعالم في هذا الصدد، وقد عكس خــبرات تطبيقية أكثر ممّا تجسّد في التنظير
وصوغ المفاهيم.

والمطروح اليوم هو تطوير مبدأ مدنيّة الدولة في مسارات ثلاثة: أوّلها أن يمنح
المبدأ مضموناً إيجابيّاً ومفصّلاً ويترجم في قواعد حقوقية وتشريعية، لئلا يكون
مجرّد دالّ من دون مدلول وشعاراً خاوياً من المحتوى. وثانيها أن يقرن بالمبادئ
العامة للحكم الحديث، مثل المواطنة وسيادة الشعب وفصل السلطات وغيرها من
المبادئ الديموقراطية التي هي النظام الأقلّ سوءاً الذي وجد حتى الآن لتنظيم
التعدّدية داخل المجتمع الواحد. ولئن كانت للديموقراطية نقائص معروفة، فإنّها
النظام الأسلم لتوقّي ما عاشه البشر وما يعيشونه إلى الآن من مآسي النزاعات
المدمّرة المتذرّعة بالدين أو الطائفة أو العرق أو اللّون أو اللغة. وقد جُرّب
هذا الحلّ فنجح، فلم نرَ حروباً أهلية في الغرب منذ الحرب العالمية الثانية
وإقرار البلدان الغربية مبدأ التعايش على أساس المواطنة، كما تضمنه ميثاق الأمم
المتحدة.

أمّا المسار الثالث فإعادة قراءة التراث السياسي العربي الإسلامي في ضوء هذا
التطوّر العام للتاريخ البشري والتجربة الفعلية لأصحاب هذا التراث، بدل أخذه
مجرّداً عن التجارب، ومقنّناً تقنيناً فقهياً مفصولاً عن تاريخيته.

وتواجه مدنيّة الدولة تحدّيات الإسلام السياسي الذي ترفض قطاعات منه هذا المبدأ
من الأصل، أو تقبل الكلمة وتراوغ في المضمون. فالإسلام السياسي ينظر إلى
المبادئ الحديثة في الحكم نظرة شكلانية، وكما يعتبر الديموقراطية مجرّد آلية
انتخابية للوصول إلى السلطة، وليست مجموعة متكاملة من المبادئ وفلسفة سياسية
لإدارة التنوّع الإنساني، كذلك يمانع في ربط مبدأ المدنية بمجموع القيم الحديثة
ويجعله مبدأ شكلياً، فيؤسّس حزباً «مدنيّاً» يكون مجرّد ذراع سياسية للجماعة
القائمة على أساس ديني (نموذج «الإخوان» في مصر)، أو يجعل زعيم الحزب الممسك
بالشرعية الدينية في نظر أتباعه، أعلى مقاماً من الشخصية التي تتولى تسيير
الدولة تفويضاً من الشعب (نموذج «النهضة» في تونس مع الحكومة الأولى). وفي
الحالين يكون «المرشد» أو «الشيخ» هو الأعلى مقاماً والشخصية الأولى في الدولة،
من دون أن يخضع للانتخابات أو يحظى في شخصه بتفويض شعبي. وهذا ما دعوناه سابقاً
ولاية الفقيه السنّي، لأنه شكل مستمدّ من ولاية الفقيه الخمينيّة التي تجعل
المرشد الأعلى للثورة أعلى مقاماً من السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية
والقضائية.

أخيراً، ثمة شكل آخر من المراوغة يتمثل في سوء استعمال كلمة «هوية»، إذ يحوّلها
بعضهم من سيرورة ترابط بين الماضي والحاضر إلى نموذج عقائدي مغلق يراد فرضه بقوّة
الدولة. فالهوية بالمعنى الأوّل معطى ضروري لتماسك المجتمع، فلا يمكن بناء
الحاضر والمستقبل إلاّ بالتفاعل مع الماضي من جهة ومع الآخر من جهة أخرى. أما
الهوية بالمعنى الثاني فمجرّد تحايل لإعادة الأنظمة الكليانية العقائدية التي
تتحكّم بها أقليات باسم هويات مطلقة، قد تكون دينية وقد تكون أيضاً علمانية (الحزب
الطليعي أو الطبقي). وهنا أيضاً يُفرَّغ مفهوم مدنية الدولة من محتواه.

ولئن كانت المرجعية الديموقراطية بأبعادها الفلسفية والإجرائية معاً هي مرجعية
كلّ حكم حديث، فإنّ مبدأ مدنية الدولة يمثّل إضافة ضرورية في المجتمعات العربية
والإسلامية، لتجاوز المأزق التاريخي والثقافي الذي حال دون تقبّل تلك المرجعية
على نطاق واسع، وجعل جزءاً من المستفيدين المفترضين من الديموقراطية في صفوف
أعدائها الأكثر شراسة، فضلاً عن تحويل كلّ محاولة ديموقراطية إلى منازعات دينية
أو طائفية أو قبلية تزيد المجتمعات ضعفاً ودماراً وترسّخ في النفوس مقولة «الحاكم
الغشوم خير من فتنة تدوم». وهذه مقولة تعبّر عن تجارب قاسية لشعوب ذهبت في
السابق ضحيّة المتلاعبين بالدين للوصول إلى السلطة.

نشرت بجريدة الحياة 2 مارس 2014

بقلم الدكتور محمّد الحدّاد

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.