تونس-الاعلام بين المهنية والانحرافات

media

الحديث في الساحة الاعلامية الوطنية يتمحور هذه الايام حول الخروقات المسجلة هنا وهناك وحول وضعية الهايكا وحول ما يستوجب فعله في القطاع لتفادي المزيد من الانفلات والتدهور…
فما بين فيديو برنامج اليوم الثامن حول المرزوقي والعركة الجلية بين مديري الصحف ومجموعة الدعداع في حقل التوزيع إضافة إلى برنامج “البروباغندا الذاتية” الذي اقترفه نبيل القروي صاحب قناة نسمة تضيع البوصلات ويزيد سقوط صورة الاعلام الوطني ككل …
التوزيع بين الاحتكار والمنافسة
كان عديد المتبعين للشأن الاعلامي الوطني منذ الثورة (وفي المصدر فعلنا ذلك أكثر من مرة) قد كتبوا وصرحوا مرارا وتكرارا أن إحدى معضلات الصحافة المكتوبة في تونس تسمى توزيع الصحف في العاصمة الذي يحتكره مسعود الدعداع وجماعته منذ سنين طويلة بحكم عدم تمكن أي منافس من مواجهته أيام بن علي وهو ذو الحظوة الخاصة من قبل النظام النوفمبري . ولذلك فإن الخطوة التي أقدمت عليها بعض المؤسسات الاعلامية بتكوين شركة توزيع وبالمقامرة بمواجهة المحتكر تعد إحدى أهم الخطوات الايجابية في المشهد الاعلامي بعد الثورة…لا شك أن المسألة ستأخذ من الوقت الكثير ولا شك أن الدعداع ومؤسسته لن يتركوا سبيلا لتضييق المنافسة وإفسادها ولكن الجدار قد انكسر والدولة أجبرت على التلويح باستعمال قانون المنافسة مما جعل الدعداع يتراجع عن تهديداته ومضايقاته للشركة الجديدة…المهم هنا أن يتحول المأزق إلى فاتحة لفتح ملفات أخرى أولها بالطبع في هذا المجال طرح ملف التوزيع في كل الجمهورية وليس في العاصمة فقط من أجل مزيد تحسين توزيع الصحف ومن أجل مزيد وصول المعلومة والتحليل والأصوات المختلفة إلى المواطن في كل مكان من بنزرت إلى البرمة …
المادة مشبوهة المصدر وميثاق الشرف
ومن جهة أخرى أثار الفيديو الذي وقع بثه في برنامج اليوم الثامن على الحوار التونسي والذي يقدم مقتطفات من كلمة الرئيس السابق منصف المرزوقي في ندوة في دبي عديد ردود الفعل والشجب حتى أن الهايكا قررت ايقاف بث البرنامج أسبوعا ومزيد النظر في الموضوع. وليس من شك أن مسألة قص وتركيب الفيديو وإخراج الأقوال من سياقها إن ثبت ذلك تعد انتهاكا مهنيا وإخلالا بميثاق الشرف الصحفي لا نتصور أن معد البرنامج قد عمد إليه . ويظل حق التقاضي كاملا للمعني بالأمر وقد عمد الريس السابق ومحاموه إلى تقديم قضية للعدالة في هذا الشأن..ولكن للحادثة أبعاد أخرى أكبر وأهم تتعلق بصفة عامة بالتداخل الشنيع الذي يتوسع كل يوم وليس فس تونس فحسب ما بين وسائل الاعلم والشبكات الاجتماعية…فمعدو برنامج اليوم الثامن اعتمدوا على الفيديو الذي نشرته بعض المواقع الالكترونية التي هي بحد ذاتها غير منضبطة مهنيا وتعتمد الكثير من المواد القادمة من صفحات الفايسبوك أو التويتر كمعطيات اعلامية جديرة بالثقة وبالنشر وهي ليس كذلك البتة. وبالطبع إن أضفنا إلى هذه الممارسات الفوضى الكبرى التي تشهدها الصحافة الالكترونية اليوم والعدد القياسي للمواقع التي تصنف نفسها إخبارية وتعطي نفسها صفة المواقع الصحفية فإننا نعود إلى المربع الأول وهو غياب الاطار التشريعي والتنظيمي للصحافة الالكترونية من جهة وغياب أدنى الاحترام لمتطلبات ميثاق الشرف الصحفي من جهة أخرى. وقد سعت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين لطرح هذا الموضوع على الرأي العام وعلى الفاعلين السياسيين دون جدوى إلى حد الآن …علما بأن كل جهود التعديل الذاتي تظل غير مفيدة في غياب الاطار القانوني الجامع وفي غياب مجلس للصحافة مكتوبة كانت أوالكترونية ينظمه القانون ويسهر عليه الصحافيون بأنفسهم…
رسكلة الامس والبروباغندا الذاتية
لا مجال لمناقشة حرية أية وسيلة اعلام في توظيف من تريد توظيفه كما أنه لا مجال لمناقشة حق برهان بسيس ما لم يتتبعه القضاء في ممارسة أية مهنة يرتئيها بما في ذلك رئاسة تحرير البرامج الاخبارية في قناة نسمة. ولكن المحصلة التي وصلت إليها قناة الأخوين القروي هي هروب أغلب الصحافيين الجيدين من القناة وآخرهم مريم بالقاضي واضمحلال أية قيمة سياسية وإعلامية لما يتصدره برهان بسيس لدى الجمهور لوقع ماضيه في الدفاع عن نظام بن علي وإصراره المتكرر على الاستهانة بالثورة التونسية وبما جاءت به من أفكار ورجالات وحركات سياسية. المشكل أن هذا كله لم يثن العديد من الوجوه السياسية البارزة عن القبول الجلوس إلى برهان بسيس والتعامل معه كأن شيئا لم يكن…
واستغل نبيل القروي الفرصة المتاحة مع حسابات سياسية يتوهم أنه يعدها ليظهر لنا في جلسة ببغائية نافخا ريش “الفاعل السياسي” من الدرجة الأولى ممنتفخ الأوداج بأدوار بطولة يتصور أنه لعبها في الساحة السياسية مبشرا بما يشاء من ظهور خارق له في أدوار جديدة سوف “تنقذ البلاد ” بالطبع …
ولقد كثرت التعاليق في هذا الصدد وكثر الأخذ والرد في المسألة التي لا تحتاج لكثير من التفكيك والتركيب بحكم أنها تمرين للارتقاء الذاتي ل ا يمت للصحافة ولا للعمل الصحفي بأي صلة ..
وفي هذا المجال علق الاستاذ الدكتور محمد شلبي في صفحته في الفايسبوك كأحسن ما يكون وما يليق التعليق ، كتب قائلا :
” مشكل الإعلام في تونس هيكلي. لم نفهم بعد أن المؤسسة الإعلامية، سواء أتعلق الأمر بالمرفق العام أم القطاع الخاص، لا تُدار كمؤسسة اقتصادية. إذا أردتم أن ينقطع ما شاهدتم الليلة على نسمة و ما يمكن أن يحدث في غيرها من القنوات الخاصة الأخرى فالوصفة بسيطة غير أنها مؤلمة.
و للوصفة ركيزتان: الأولى تخص الإعلاميين و الثانية المحيط السياسي بمختلف مكوناته. أما الأولى فلا إعلام إلا بالكفاءة و المهنية و المسؤولية. و أما الثانية فبإعادة هيكلة القطاع بالهدم ثم إعادة البناء.
الكفاءة هي محصلة الإعلامي منذ خطواته الأولى في التعلم. المهنية هي تطويع الكفاءة لمقتضيات المهنة الإعلامية. المسؤولية هي توظيف الكفاءة و المهنية لخدمة خط تحريري يقوم على مصلحة البلاد و العباد أولا ثم الربح ثانيا.
و هذه المعادلة “الربح ثانيا” هي التي تقتضي إعادة هيكلة المؤسسات الإعلامية جميعها بطريقة تفصل بين قرار صاحب المال أو السلطان و صاحب القرار التحريري. ما لم يكن الإعلامي قادرا و آمنا في قوله “لا” لصاحب رأس المال أو للسلطان فلا ترجوا خيرا. و في المقابل لا ينبغي إطلاق يد الإعلامي و هنا تأتي المسؤولية. المسؤولية تكون أولا لهيكل مكلف داخل المؤسسة بفعل أمرين. الأول هو التخطيط لسياسة تحريرية تنظر إلى البلاد و لا تهمل مصالح صاحب رأس المال و الثاني هو السهر على تنفيذ تلك السياسة التحريرية دون تدخل طالما لم يحد عنها الإعلامي.
إعادة الهيكلة تقتضي مشاركة الدولة في تأمين الإعلام العمومي المكتوب كما تفعل مع المرئي و المسموع قصد تطوير أدائه. الخطر الأكبر الذي يهدد الإعلام المكتوب في تونس اليوم هو أن الصحف و المجلات لا تسهم في النقاش العام المفقود أصلا.
و لا يمكن الحديث لا عن جمهورية و لا ديمقراطية دون نقاشٍ عامٍ الصحافةُ جزءٌ مهمٌ منه. أين تبرز مشاكل البلاد الحقيقية؟ من يساهم في التداول في شأنها؟ من أين يستنير المشرّع و صاحب القرار السياسي؟ من يُبْلغه صوت المواطن بالمعنى الديمقراطي الجمهوري للكلمة؟ أهي كواليس البرلمان المغلقة و غرف الأحزاب المظلمة اللاهثة وراء الانتخابات القادمة؟
طبيعي جدا أن تكون نسمة و غيرها منبرا للاتصال السياسي-حتى لا نقول الدعاية- طالما أن القطاع غير مهيكل و طالما يكون الربح و المصلحة بكل ألوانها قبل وظيفة الإعلام في بناء الديمقراطية.
و طبيعي أن تكون المهنة متردية عندما لا يحصل الصحفي على قوت يومه. تريدون إعلاما لا يبعث على القيء؟ تقيؤوا الإعلام الموجود الآن و أسسوا لغيره. ستكون العملية مؤلمة كما قلت أعلاه لأن “مؤسسات” ستضمحل لا محالة و لأن “إعلاميين” سيبحثون عن مهن أخرى و لأن مستثمرين في الإعلام سيستثمرون في ما يرونه أجدى.
الديمقراطية و الإعلام الكفء المهني المسؤول ينهضان معا أو يسقطان معا. للمرة الألف.”
علي العيدي بن منصور

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.