تونس- بعد عملية سوسة خبير أمني يحذر:”مرحلة الإرهاب الأسود الذي يستهدف الجميع قادمة لا محالة”

mazen-chrif

في تحليل لعملية سوسة الارهابية قال  الخبير الاستراتيجي في الشؤون الامنية والعسكرية أن عملية سوسة كارثة وموجعة جدا وقد تم التخطيط لها بدقة.

وأضاف الشريف أن المواطينين الذين نجوا من مجزرة سوسة لا يجب أن يفرحوا لان مرحلة الإرهاب الأسود الذي يستهدف الجميع قادمة لا محالة على حد تعبيره.

وفي ما يلي قراءة الخبير مازن الشريف للعملية:

عقيبات على عملية القنطاوي: لماذا حدثت الكارثة؟

عملية القنطاوي شغلت الرأي العام المحلي والعالمي، ومثلت صدمة كبيرة، وخيبة أيضا، عملية نوعية عميقة، تم التخطيط لها بدقة، ومهما يكن من كلام من يبررون حدوثها بأنه أمر يحدث في أقوى دول العالم، فإن ما حدث كان كارثة بكل المقاييس.

المشهد شبيه بأحد الأفلام الهوليودية، وبرودة دم القاتل والوقت الذي استغرقته المذبحة يطرح أسئلة كثيرة عن طبيعة الدمغجة التي خضع لها وعن قوة المخططين وعدد الفاعلين الحقيقيين، فالأكيد أن له شركاء ساعدوه وراقبوا الأمور عن كثب ثم اختفوا في خضم الفوضى.
إن اختيار الفندق والضحايا وجنسياتهم لم يكن اعتباطيا في اعتقادي، بل متعمّدا، ويبدو أن القاتل كانت لديه معطيات دقيقة، ودرس المكان جيدا قبل قيامه بالعملية بفترة قد تكون شهرا أو أكثر، وكان يعرف جيدا أن القوات الأمنية لن تصل إلا بعد المذبحة، وأن المجال مفتوح له ليقوم بعمليته، ولم يكن

يطلب بعدها الحياة، بل كان يعلم أن سيتم قلته.
الملاحظ أيضا أنه لم يستهدف المواطنين، بل تجنبهم ببرود دم كبير وابتسامة وفق بعض روايات الشهود، مما يعني أنه خضع لتدريبات عميقة في الانضباط التكتيكي حتى ينفذ المطلوب منه فقط دون اضطراب أو خوف أو تراجع.
يُرجع البعض حالة أمثاله من الجهاديين وما يظهر عليهم من برود ولامبالاة وشجاعة، بتعاطي أنواع من المخدرات خاصة حبوب captagon، وأرى أن ذلك عامل مؤثر مع عوامل أخرى من دمغجة وبرمجة عصبية وسواها.

كما أن استهدافه للسياح حصرا يكشف جانبا من المخطط: ضرب الاقتصاد الوطني عبر ضرب قطاع السياحة، لكن الأمر يتجاوز ذلك إلى محاولة تحطيم صورة تونس دوليا، وطمس ملامحها الهادئة. ولعل من غايات العملية أيضا ضرب الدول الغربية عبر قتل مواطنيها، أما إذا افترضنا أن الذين خططوا للعملية يعرفون سلفا جنسيات المقيمين في ذلك الفندق تحديدا، فتكون كل دولة من تلك الدول مستهدفة من خلال قتل أبنائها، ورمبا خلف ذلك رسائل باستهدافها مباشرة لاحقا، وقد تحمل في طياتها تهديدا بضرب بريطانيا في ترابها أيضا، وقد تكون بريطانيا مثلا فهمت تلك الرسالة وعبّر عن ذلك رئيس وزرائها ديفيد كامرون حين صرّح أن داعش تستهدف بلاده وتريد القيام بضربات كبرى. وفي كل الأحوال فعملية سوسة بعد عملية باردو تبين مدى إصرار قوى الإرهاب على تحطيم صورة تونس وضرب سياحتها واستهداف زوارها.

يوم جدّت الضربة الأولى في سوسة، بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2013 كان من ضروري فهم الرسالة: أن الإرهاب سيستهدف المدن، والفنادق السياحية، ومدينة سوسة تحديدا، وكان لابد وفق ذلك من بناء الاستراتيجيات ودعم الأمن السياحي، أمر دعوت له ونبهت مرارا، لكن شيئا من ذلك لم يحدث. والإرهاب تعلم من درس الضربة الأولى، صحح الأخطاء، واستفاد من التجربة، ليكررها على مسافة قريبة وبنجاح كامل.
لماذا لم يتم الانتباه رغم أن الإرهاب حاول مرة؟ ولماذا لم يتم اعتماد مخطط استراتيجي قوي وناجع يحمي السياح ويحصن المناطق السياحية ويسد المنافذ؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة بسيطة جدا: لأن الإرادة كانت غائبة، والوعي كان ضئيلا، هو خلل منهجي بنيوي عميق يسميه علماء الاستراتيجيا: العمى الاستراتيجي أو العمى الكارثي.

لاشيء على الإطلاق، يبرر ترك السياح عرضة لمثل تلك المجزرة، وترك نقاط حيوية مفتوحة لهجوم إرهابي بدائي يقتل بدم بارد. حتى لو تنفذ عملية قبل ذلك في سوسة، وأخرى في باردو، فقد كان يجب التوقي مادام الإرهاب يستهدف تونس، والكلام عن أن ذلك أمر لا يمكن توقعه أو يحدث في أقوى الدول هو كلام فارغ هدفه مجرد التبرير والتنصل من المسؤولية.
لقد تعالت الأصوات بعد عملية باردو بمحاربة الإرهاب والقضاء عليه، وتمت مسيرة كبرى حظرها عدد من قادة دول العالم، لكن ذلك لم يعقبه إلا الغبار، فقط غبار الكلمات الرنانة، والخطب الجوفاء، والوعود الكاذبة. وهذا الكلام ليس مجرد انفعال لكنه مبني على معطيات، وليس أدل على صحته من عملية القنطاوي.

إن ما يجب فهمه بعد كل هذا أن الجميع مستهدف، وأنها سياسة مراحل فقط، والمواطن الذي لم يتم قتله في عملية سوسة يجب أن لا يطمئن لذلك لأن مرحلة الإرهاب الأسود الذي يستهدف الجميع قادمة لا محالة. وليس الإرهاب النوعي، وما اسميته بالإرهاب الانتقامي، وغيره من أنماط الإرهاب سوى مراحل دقيقة وفق منهج مضبوط يتم التحكم فيه حيث لا يلتزم الإرهابيون بالضرورة بمراحل إدارة التوحش ويمكنهم تغيير النسق، وفيما يخص الحالة التونسية فالنسق يبدأ باستهداف من يسمونهم الطاغوت (الأمن والجيش) ثم بعض السياسيين وبعدها السياح والمرحلة الختامية استهداف الجميع وهي الأخطر، والتي يجب الحلول دون وقوعها بأي طريقة.

وبإمكان الدولة التونسية حين تؤسس وكالة للأمن القومي وتجمع الخبراء وأهل العلم في مجالات الأمن الشامل بمختلف أبعاده الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والثقافية والدينية والاستراتيجية وغيرها، وعبر الاعتماد عن التقنيات الحديثة ومنظومات الرقابة الرقمية، وتوفير المستلزمات اللازمة للحرب على الإرهاب، وعبر تقوية المخابرات ودعم الوعي الشعبي واستخدام قوة المجتمع المدني والاعلام، ثم التنسيق مع دول العالم التي يمكن أن تساعد استخباراتيا وتقنيا ولوجستيا، يمكنها أن تحصن البلاد وتحمي العباد وتسد المنافذ وتقلل من الضرر، ثم الأهم من كل ذلك تقوية البعد الاستباقي عبر الاعتماد على علم المستقبليات والتوقع وعلوم الاستشراف ومنظومات الوقاية ودعم القوة الاستباقية، وتوفير الإطار القانوي الصارم، والقيام بما يجب بكل نجاعة وسرعة ضد كل من يبيض الإرهاب أو يدعمه أو يدير نسيجه، ولا حل سوى هذا، وكل اجراء لا يعتمد هذه النقاط سيكون ناقصا أو مشلولا.

عملية سوسة موجعة جدا، وانا كتونسي أشعر بالأسى والخجل: كم من المخجل فعلا أن يقتل تونسي وزوار تونس الذين جاؤوا حبا لها، وكم من المخجل أيضا أن الدولة التي أنتمي إليها لم تقم بما يجب لمنع حدوث ذلك، والمؤسف أني ممن حذروا ونبهوا واستشرفوا ولم يتم الاستماع إليهم.
إن الإرهاب يهدد تونس بشكل كلي، تهديد زوال دولة كاملة، وما يفعله في العراق وسوريا ليس محض خيال، وليست تونس بعيدة عن ذلك كما يتوهم البعض، بل هي تسير نحو الهاوية، والأدهى أن من ينشرون الخراب في الشام والعراق وحتى في ليبيا أكثرهم تونسيون، وأن للإرهاب في تونس بؤرا قوية ومصانع تصنعه وتصدره وتبقي منه نصيبا للبلاد نفسها، وحتى من يتم تصديرهم سيرجعون يوما لإشعال الحريق. وكل هذه الأمور يجب أخذها بجدية والنظر إليها بواقعية والعمل الجدي والدؤوب على منع حدوثها.

 

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.