الأعراض الخمس الكبرى لأمراض تونسية خطيرة

Sans-titre-1

القمقم الذي عشنا فيه طيلة سنوات الدكتاتورية مع بورقيبة ومع بن علي على حد سواء ، كان يمنعنا من الإلمام بصفة شاملة بما يعتري مجتمعنا من أمراض ومن سلوكيات معوجة…ومع سياسة لجم الأفواه وتعطيل حرية التعبير لم يكن ممكنا حتى مجرد التفكير بجدية في نمط مخالف للسائد وللمقبول من الحزب والدولة…

ومع التحول المجتمعي الذي نعيشه منذ 17 ديسمبر 2010 أصبح يتضح بنا يوما بعد يوم أن جوانب كبيرة من العاهات المجتمعية المتفشية فينا كانت خلف حجب بعضها إرادي والبعض الآخر قسري أو تمويهات يفرضها النظام الدكتاتوري هذا علاوة على ما تفشى في سنوات بن علي من ظواهر فساد مقنن تركه النظام يتسع للجميع لإبعاد الأنظار عن الفساد الأكبر للعائلة الطرابلسية وما حولها….

وفي محاولة لتلخيص لما يلم بنا من عاهات رصدنا في ما يلي بعض الأعراض الكبرى التي ينبغي علينا الشروع جديا في معالجتها خاصة وأن أغلبها متشعبة التركيب تتطلب تجند كل فئات المجتمع لمحاولة التغلب عليها يوما ما…

1. النظام السياسي

قد نكون مستعجلين عليهم وهم قادمون مثلنا من تصحر سياسي دام أكثر من 50 سنة ولكن الانطباع الغالب والسائد لدى الناس اليوم هو هذا العجز الفادح الذي تتصف به طبقتنا السياسية وعدم قدرتها على اقناع المواطن بتغيير سلوكه …

ولقد كان لبعض رموز المجلس الوطني التأسيسي دور كبير في غرس هذا الانطباع ولكنه انتقل اليوم إلى نواب مجلس الشعب كما انتقل إلى القيادات السياسية في الأحزاب …

وعدا بعض القياديين الذين برزوا بصدقهم وهم نادرون فإن أغلب الوجوه السياسية يمينا ويسارا ووسطا لا تتمكن بعد من تجاوز الهوة القائمة في ذهن المواطن والتي تعتبر أن السياسيين إنما يعملون أولا وأساسا لمصالحهم الشخصية ولمصالح أحزابهم …

ولئن كان هناك شيء من المبالغة في هذا الاعتبار فإنما مرده عجز كبير في الاتصال السياسي يجعل حتى أفصل المبادرات تضيع ضمن الصورة السلبية المهيمنة على المشهد…

2. قيم المواطنة الضائعة

كان أضعف الايمان عند الكثيرين منا زمن الدكتاتورية هو التمرد الصامت على “الحاكم” عبر رفض ما يمكن رفضه من أشكال المواطنة مثل دفع الضرائب أو آداء الخدمة العسكرية …ولكن مثل هذه التصرفات التي كانت في البداية معزولة استفحلت بشكل كبير في سنوات بن علي مقترنة بالفساد الاداري والرشوة والمحسوبية حتى أصبحت عمليات التهرب الجبائي “رياضة وطنية” كما يسميها الفرنسيون…

وليت الأمر توقف عند هذا الحد لأنه في الواقع تجاوزه لسلسلة من التصرفات التي أفرغت المواطنة من كل محتوياتها …

وأصبح العقد الاجتماعي الذي على أساسه يبنى التعايش الجماعي مفرغا من محتواه . فنحن نشتكي يوميا من نراكم المزابل ومن فضلات البناء الملقاة في كل مكان ومن الحفر في الطرقات التي آلت إلى خراب مفزع وفي الوقت نفسه لم نستطع نحن منذ 5 سنوات ولم نستطع أن نفهم مسؤولينا ضرورة الوصول إلى انتخابات بلدية بأسرع ما يمكن حتى نتمكن من ارساء سلطة محلية يمكن أن تبدأ قي التغيير…

3. الارهاب والتهريب

الارهاب يضربنا بلا هوادة منذ سنوات وقد استفحل وعشش في عديد المغارات في الجبال وعديد المغارات في عقول البعض من مواطنينا الذين استهوتهم شعاراته السلفية …ولا شك أن جيشنا وأمننا برغم كل الهنات والثغرات قد تمكنا من رد الصاع صاعين للقتلة ولكن هذه الحرب كبيرة وواسعة ومعقدة الجوانب في وضعية البلاد الحالية …

وبدا الآن ظاهر للعيان اقتران الارهاب بمسالك التهريب التي تكاثرت وازدهرت في البلاد وخاصة على الحدود الليبية بحكم الوضع في الشقيقة ليبيا …

وكما ينبه لذلك أكثر من خبير ومن ملاحظ سياسي فإن تغلغل التهريب في المسام الاقتصادية للبلاد جعل منا جميعا مورطون في تمويل الارهاب بصفة غير مباشرة عبر كل سيجارة مهربة ندخنها وعبر عديد السلع الأخرى التي تباع في كل الأسواق..مثل العسل اليمني أو “القلوب” المسماة تركية وغيرها من السلع التي تتحكم تنظيمات ارهابية مثل القاعدة في ريعها فتحوله إلى قنابل ومتفجرات ….

4. العمل كقيمة حضارية

نعرف جميعا أهمية العمل وقيمته الحضارية ونعرف أن لا حل لمشاكلنا الاقتصادية بدونه ولكننا لا نتعدى هذا الفهم إلى تطبيقه.

لسنا أول من ابتلي هذا البلاء بالعزوف عن العمل واستمرأ قلة الجهد فلنا في جيراننا اليونانيين المثل الأنسب …وها نحن نرى أين وصل بهم الوضع بالرغم من تجند الاتحاد الاوروبي لحل المشكل اليوناني …

وأما في وضعنا فالأمر يختلف تماما…إن شح مواردنا الطبيعية معروف للجميع كما أن تخلف فلاحتنا وتأخر مكننتها وضعف انتاجها يجعل مستوى الموارد الفلاحية عندنا لا يرتقي للدور الرافد الاقتصادي القوي..ولذلك فإن إي نمط اقتصادي نختاره لا بد أن يعتمد على القيمة المضافة الوحيدة التي نمتلكها وهي الانسان وإنتاجه وذكاؤه…ولكننا طلقنا قيم العمل وانخرطنا في قيم أخرى هي مناقضة له ومنها الثراء السريع والغش المستشري والخداع والغش في كل شيء بدأ من الخضر والغلال وحتى الدروس والامتحانات…فكيف سوف نبني مجتمعا جديدا ونعيد للاقتصاد عافيته ونحن يمثل هذه العقلية ؟؟؟

5. النظام التربوي

التعليم في تونس برغم افتخارنا المستمر بما حققناه في هذا المجال منذ الاستقلال مريض بمرض عضال يحاول كل جيل أن ينسبه للجيل الذي تلاه…وليس الأمر خاصا بنا ففي العالم المتقدم أو الطامح للتقدم يشكل النظام التربوي هاجسا مستمرا للنخبة وللسياسيين ولعامة الناس لما له من أهمية لا مجال هنا للتوسع في شأنها…

والنظام التربوي التونسي في شكله الحالي يرث كل سلبيات عهد بن علي وإصلاح سنة 1992 كما يرث أيضا سلبيات أيام محمد مزالي وسلبيات النظام التعليمي الأول الذي أرساه المرحوم محمود المسعدي برغم أفضلية مكوناته حتى وإن تجاوزها الزمن اليوم…ولكن النظام التربوي التونسي يرث أيضا كما هائلا من المعوقات منها المادية نظرا لتراجع ميزانية التعليم ومنها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتي تؤثر مباشرة في مستوى التعليم المسدى من رياض الأطفال وحتى مدارج الجامعات…

يضاف إلى هذا كله الدور المركزي الذي صارت تلعبه النقابات في التأثير المباشر وغير المباشر على مقدرات المؤسسة التربوية.

ولئن كانت هناك حاليا بوادر للاتجاه نحو حوار مجتمعي شامل حول اصلاح التعليم فإن المأمول أن لا تؤثر التجاذبات العنيفة بين الادارة والنقابات على هذا المسار الاصلاحي الكبير…

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.