تونس: أرشيف البوليس السياسي يعيق الإنتقال الديمقراطي

نظمت جمعية “المختبر الديمقراطي” بالتعاون مع مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية على القوات المسلحة ندوة في تونس تعلقت بكيفية التعامل مع أرشيف البوليس السياسي في فترة الإنتقال الديمقراطي مستندة في ذلك إلى تجارب دولية سابقة سواء في الدولة الاتحادية السويسرية أو في كل من ألمانيا أو …



تونس: أرشيف البوليس السياسي يعيق الإنتقال الديمقراطي

 

نظمت جمعية "المختبر الديمقراطي" بالتعاون مع مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية على القوات المسلحة ندوة في تونس تعلقت بكيفية التعامل مع أرشيف البوليس السياسي في فترة الإنتقال الديمقراطي مستندة في ذلك إلى تجارب دولية سابقة سواء في الدولة الاتحادية السويسرية أو في كل من ألمانيا أو رومانيا أو غيرها إثر سقوط الأنظمة الشمولية. وهذا نص التحليل لفعاليات الندوة كما ورد بموقع سويس انفو.


يتأكد يوما بعد يوم أن الإصلاح الأمني يشكل أحد أبرز الملفات ذات التأثير المباشر على مستقبل عملية الانتقال الديمقراطي في تونس .

ولعله سيكون في مقدمة الأولويات المطروحة على الحكومة الجديدة وذلك بالرغم من الحساسية العالية التي تطبع هذا الملف، وتجعله أشبه باللغم القابل للإنفجار في كل لحظة .

بعد فترة وجيزة من رحيل بن علي، بدأ النشطاء والمعارضون للنظام السابق يطالبون بحل البوليس السياسي. هذا الجهاز الذي أرقهم، وخنق أنفاسهم، وشل حركاتهم، واخترق صفوف النخب التونسية بمختلف مكوناتها من صحفيين ومحامين وأدباء وجامعيين وحقوقيين، وعمل على إضعاف معنوياتهم عبر التهديد والمحاصرة واختراق الحياة الخاصة، واستعمال جميع الوسائل غير المشروعة، مثل التعذيب حتى الموت .


 
وقد اهتز بعض هؤلاء النشطاء فرحا وغبطة ورددوا النشيد الوطني، عندما أبلغهم وزير الداخلية السابق بنفسه أثناء انعقاد مجلس وطني للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، أنه  قد أصدر قرارا بحل جهاز البوليس السياسي. ورأوا في ذلك حدثا تاريخيا يؤشر على نهاية عهد شهد مآس كثيرة. لكن بعد ذلك، عاد كثيرون إلى التساؤل من جديد: هل اختفى فعلا جهاز الأمن السياسي؟ وماذا عن مصير الأرشيف الضخم الذي يختزن مرحلة بكاملها، ويمثل ذاكرة جماعية لا يجوز المسّ منها أو السعي إلى إتلافها؟


لا وجود لوصفة جاهزة

هذه الأسئلة وغيرها كانت محل نقاش وجدل خلال ندوة نظمتها جمعية "المختبر الديمقراطي" بالتعاون مع مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية على القوات المسلحة، الذي لم يكتف بتمويل الندوة، حسبما أفاد به الأستــاذ هيكل بن محفوظ المستشار الرئيسي للمركز بتونس، وإنما شارك أيضا بتقديم تصوراته لحل مسألة الأرشيف السياسي وذلك بعرض الحل الذي اعتمدته الحكومة السويسرية في هذا الميدان. كما تم التأكيد بالخصوص على "جدية الإشكالية المطروحة وضرورة وجود حلول لها وذلك على أساس التجارب التي تم عرضها مثل التجربة الألمانية وكذلك الرومانية وغيرها التي يمكن للسلطة أن تستلهم منها لإيجاد حل يناسب التجربة التونسية ".


 
كان عنوان الندوة التي عقدت بتونس يومي 12 و13 من الشهر الجاري "أرشيف البوليس السياسي: التحدي من أجل الانتقال الديمقراطي ". الحدث شكل فرصة للتفكير في الطريقة الخاصة التي تمكن التونسيين من التعامل مع هذا الأرشيف في ضوء التحديات الداخلية، كما كشفت النقاشات أنه لا توجد وصفة صالحة لجميع الدول التي انتقلت من الاستبداد إلى الديمقراطية. ثم ما الذي يميز محتوى الأرشيف في ظل أنظمة ديمقراطية عن آخر قائم بالدول الديمقراطية؟ ومن له الحق في معالجة الأرشيف الأمني، وبأي منهجية، ووفق أية آليات وقوانين؟ وما علاقة ذلك بمراحل الإنتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية؟


 
عن هذه المسألة بالذات، أكدت السيدة فرح حشاد، رئيسة "مختبر الديمقراطية" أن الهدف من اللقاء تمثل في "البحث عن ديمقراطية خاصة بتونس وسبل إرسائها وتعزيزها وأن اختيار ملف أرشيف البوليس السياسي كأول الملفات التي يتناولها المختبر يعود إلى أهمية هذا الموضوع في مستوى تحقيق الإنتقال الديمقراطي السليم نظرا لارتباط هذا الموضوع بالعدالة الانتقالية". وهي بذلك تتفق مع هيكل بن محفوظ الذي اعتبر أن" التعامل مع الماضي ومعالجته لإعادة بناء الروابط داخل الدولة على أسس سليمة واستعادة سيادة القانون يمثل صميم العملية  الإنتقالية"، على حد قوله .

تجارب أجنبية

هل تعرض أرشيف البوليس السياسي إلى إتلاف بعض أجزائه؟ هذا الأمر اختلف المشاركون في الندوة حول الإجابة عنه. فقد نفى وزير التربية بالحكومة المتخلية الطيب البكوش أن يكون ذلك قد حصل خلال الفترة السابقة، في حين أصرّ ضابط الشرطة سمير الفرياني الذي تعرض للإعتقال والمحاكمة بسبب الإتهام الذي وجّهه إلى قيادات أمنية تعمل في مواقع حساسة، حيث زعم أنها "قامت بإتلاف بعض الملفات التي تتعلق بمسائل خطيرة ".


وفي هذا السياق كانت مداخلات بعض الخبراء الأجانب مهمة. ومن ذلك السيدة داغمار هوفيستادت ممثلة المفوض الاتحادي لمحفوظ أمن الدولة بألمانيا التي أشارت إلى إقدام عدد من المواطنين الألمان على السيطرة على مبنى جهاز "الستازي " Stasi التابع لجهاز المخابرات ألمانيا الشرقية، وقاموا خلال الثورة بحماية الأرشيف السياسي. وهو الأمر الذي تكرر في مصر، عندما تصدى بعض النشطاء للمحتجين أثناء الثورة الذين تمكنوا من اقتحام مقر وزارة الداخلية.وبينت المسؤولة الألمانية أهمية المحافظة على هذا النوع من الأرشيف نظرا لارتباطه الوثيق بتحقيق العدالة الانتقالية .


 
أما في رومانيا، فقد ذكر فيرجينو طارو نائب رئيس المجلس الوطني لدراسة محفوظات الجهات الأمنية، أن إنقاذ لأرشيف البوليسي تم بعد الثورة بفضل التنسيق بين السياسيين ورجال الأمن. في حين أن المؤسسات الديمقراطية بأمريكا اللاتينية بما في ذلك الحكومات المنتخبة لم تتمكن بسهولة من الإطلاع على أرشيفها الأمني حسبما ورد بمداخلة كايت دويل، الخبيرة بأرشيف الأمن الوطني بالولايات المتحدة الأمريكية .


 
في هذا السياق، اعتبر أرنولد لويتهولد، مدير العمليات لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا في مركز جنيف للمراقبة الديمقراطية للقوات المسلحة أن "تمكين المجتمع المدني في إدارة هذا الملف مسألة ضرورية وحيوية". وعلى هذا الأساس دعا المشاركون في الندوة إلى ضرورة الإسراع بوضع تشريعات مُلزمة لحماية أرشيف البوليس السياسي في تونس "كي لا يقع في يد السلطة السياسية المرتقبة وتستخدمه كورقة ضغط في الفترات القادمة وكعنصر فاعل ومؤثر في الحياة السياسية نظرا لخطورة الملفات التي جمعها البوليس السياسي طيلة فترة الديكتاتورية خاصة وأن أغلب الملفات والتهم كما هو معروف كانت ملفقة ومغلوطة ولا تحتوي جانبا كبيرا من الصحـة ".


في سياق متصل، وعد السيد الأزهر العكرمي، الوزير المكلف بالإصلاح لدى وزير الداخلية في الحكومة المنتهية ولايتها، بإصدار كتاب أبيض، حول كيفية التصرف في أرشيف البوليس السياسي، مقترحا "تسليم هذا الأرشيف إلى لجنة مستقلة ترأسها شخصية وطنية يشهد لها بالثقة والكفاءة إضافة إلى ممثلين عن وزارة الداخلية وممثلين عن وزارة الدفاع ومؤرخين وعضوين عن مجلس النواب". واقترح العكرمي أن تتولى هذه اللجنة "معالجة هذا الأرشيف عبر الحفاظ على كل الوثائق والحقائق التي تهم المصلحة العامة وإعدام كل الوثائق المتعلقة بالحياة الشخصية حتى لا يتم استعمال هذه من قبل السياسيين مستقبلا لابتزاز بعضهم البعض ".

 

مقترحات وتوصيات

من أبرز التوصيات التي أسفرت عنها هذه الندوة، وجوب سن قانون لحماية هذا الأرشيف والتصرف فيه، وذلك بعد التشاور مع جميع الأطراف المعنية، وهي السلطات العامة، والمجتمع المدني، والخبراء والأحزاب. كما تمت الدعوة إلى مهاجة هذه المسألة بعيدا عن فكرة الإنتقام، وضرورة ربطها بمفهوم الشفافية عندما يتعلق الأمر بصناع القرار. مع التأكيد على حق المواطن في معرفة ما إذا كان الشخص الذي يرشح نفسه للإنتخابات قد ارتبط سياسيا أو اقتصاديا بالنظام السابق .


 
كما تم التوافق أيضا على حماية المعلومات الشخصية التي تخص أي مواطن، وإبعادها حتى عن سوء الاستغلال لأغراض سياسية أو مالية. كذلك تمت التوصية بحق كل مواطن الإطلاع على السجلات الخاصة به إذا رغب في ذلك. وأن يتم التوصل في أقرب وقت إلى وضع منظومة عصرية من شأنها أن تحمي أمن الدولة والمواطن معا، وأن تضمن في الوقت نفسه بناء الثقة .


 
هذا وقد تعهدت جمعية "مختبر الديمقراطية" بتنظيم جلسات مع المهتمين بهذا الموضوع من أجل التوصل إلى عدد من المقترحات العملية. وفي هذا السياق، تدل مؤشرات عديدة على أن ملف أرشيف البوليس السياسي قد يشهد تطورات إيجابية في قادم الأيام. ومن بينها وجود الدكتور منصف المرزوقي رئيسا للبلاد وهو الذي سبق له أن كان رئيسا للرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، إلى جانب حكومة ائتلافية عانى العديد من أعضائها من ملاحقات ومظالم هذا الجهاز .

 

صلاح الدين الجورشي (عن سويس انفو)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.