من دفاتر الثورة.. تلك اللحظات التي لا تفارق ذاكرة التونسيين

كانت لحظات فارقة دون شك. فما إن أقلعت طائرة المخلوع في تلك الليلة الحاسمة حتى تحولت أغلب الشوارع والأحياء إلى مدن للأشباح وبدأ صوت الرصاص يعلو هنا وهناك واختلطت الأنباء بالإشاعات وأخذت طريقها إلى كل البيوت…



من دفاتر الثورة.. تلك اللحظات التي لا تفارق ذاكرة التونسيين

 

كانت لحظات فارقة دون شك. فما إن أقلعت طائرة المخلوع في تلك الليلة الحاسمة حتى تحولت أغلب الشوارع والأحياء إلى مدن للأشباح وبدأ صوت الرصاص يعلو هنا وهناك واختلطت الأنباء بالإشاعات وأخذت طريقها إلى كل البيوت.

هل طار حقا بلا رجعة؟ هل يمكن أن يموه ويعود؟ أسئلة أخرى أيضا كانت تخامر أذهان التونسيين المشدودين إلى التلفاز يتلقفون بقلق كبير أنباء القنص والحرق والسرقة. هل هناك شيء يبيت في الخفاء لمستقبل البلاد الغامض؟ كانت هناك حالة ترقب قصوى بلا شك مع تضارب التفسيرات والتأويلات بشأن الحلول الوقتية التي يطرحها الفصلين 56 و57 من الدستور لسد الشغور في منصب الرئاسة وفي ظل تصاعد الفلتان الأمني واتساع رقعة الفوضى والفراغ المرعب في أجهزة الدولة.

لقد كانت التجارب المريرة التي عاشها الشعب التونسي في ظل مزيج من الديكتاتورية والأوليغارشية طوال حقبة بن علي وقبلها انفراد الحزب الواحد بالدولة في حكم بورقيبة، تجارب دعت في تلك اللحظة إلى الشعور العام بالتيقظ وعدم الإطمئنان والثقة لما يمكن أن يدبر من جديد في الخفاء. على أية حال لم يكن هناك استعداد للتفويت في انجاز بدى أنه لن يتحقق ثانية إذا ضاع إلا بعد نصف قرن آخر.

لقد علقت الكثير من الثورات التاريخية في ذاكرة القرن الماضي، غير أن شيئا ما يحصل في تونس انطلاقا من ليل الرابع عشر من جانفي 2011 يحمل خصوصية مختلفة. تلاحم الشعب مع المؤسسة العسكرية بعد انسحاب أجهزة الأمن من أجل تأمين البلاد والوصول بالانجاز التاريخي إلى بر الأمان.

حاول التونسيون بكل جهد أن يصمدوا، تبادلوا المؤن وخرجوا إلى الشوارع لحراسة الأحياء والممتلكات والذود عن مصادر أرزاقهم، من مصانع وشركات ومزارع وضيعات. في الأثناء كانت اللجان الشعبية التي تتشكل بشكل عفوي على كامل تراب الجمهورية تعبر عن تجربة فريدة عززت بشكل غير مسبوق المشاعر الوطنية والإعتزاز بالانتماء إلى هذا البلد الذي بات يصنع عناوين الأخبار في وسائل الإعلام الدولية ويطلق شرارة التغيير في الوطن العربي وفي العالم.

كان التونسيون يعلمون أن حربهم الجديدة انطلقت للتو وأن الأمور لن تقف بكل بساطة عند هروب المخلوع. فهناك القناصة والمليشيات والعناصر الأمنية الفاسدة والطابور الخامس والعصابات والمجرمين الانتهازيين فضلا عن السجون المفتوحة على مصراعيها.

صحيح أن الشعب ضمن ولاء الجيش ووفائه وهي المؤسسة التي فرضت حب واحترام الجميع وكانت بمثابة صمام الأمان التي منحت الثقة لكل التونسيين. لكن على الرغم من ذلك لم يكن من السهل أبدا المرور إلى مرحلة انتقالية سلسة دون تضحيات. فمع الإطاحة بحزب التجمع الدستوري "الأخطبوطي" كان لزاما أمام التونسيين اتخاذ اليقظة مما يهمس من إمكانية اختطاف الثورة والالتفاف على مبادئها الرئيسية.

واليوم وبعد انقضاء السنة الأولى من عمر الثورة ورغم أن الكثير لم يتحقق بعد فإنه يحق للتونسيين أن يفرحوا بتلك اللحظات الفارقة التي عاشوها معا وستبقى محفورة بذاكرتهم وذاكرة الوطن. على أن الأهم يظل العمل على تحقيق الأهداف الحقيقية للثورة من تنمية جهوية عادلة والنهوض بالمشاغل الاجتماعية والاقتصادية وضمان العيش الكريم، دون أن ننسى ضرورة تحقق العدالة الانتقالية. بذلك فقط نكون أوفياء لدماء الشهداء.

طارق القيزاني

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.