بين المحافظين والحداثيّين: من سيتجرَّع الكأسَ أوّلا؟

بعد أشهر من تجرُّع الحداثيّين لمرارة الهزيمة الانتخابيّة، وإثر مختلف التّقيّيمات سواء داخل كلّ حزب أو من طرف الخبراء والمتابعين والإعلاميّين بدأ هذا الشّقّ …



بين المحافظين والحداثيّين: من سيتجرَّع الكأسَ أوّلا؟

 

بعد أشهر من تجرُّع الحداثيّين لمرارة الهزيمة الانتخابيّة، وإثر مختلف التّقيّيمات سواء داخل كلّ حزب أو من طرف الخبراء والمتابعين والإعلاميّين بدأ هذا الشّقّ في مراجعة شاملة لآليّات عمله ومخطّطاته أثمرت عن نواتات تحالف أولى تؤكِّد أنّ هذا الطّرف أدرك أخيرا أنّ تشرذمه هو العلّة الأولى لخيبته في موعد 23 أكتوبر 2011.

وتجسيما لهذا الإدراك نظّمت القوى الحداثيّة السبت 28 جانفي 2012 مسيرة كشَفت لهم وللمراقبين أنّهم يمثّلون بتجمّعهم فعلا قوّة وازنة يمكنها أن تُوازِن الكفّة مع المحافظين الماسكين الآن بمقاليد السّلطة.

الدّستوريّون استغلُّوا بدورهم هذا الحراكَ مستفيدين كذلك من الخطوة الّتي قطعها رئيس الحكومة المتخليّة السّيد الباجي قايد السّبسي من خلال بيانه للرّأي العام الّذي دعا فيه إلى توحّد "الإصلاحيّين" فاجتمعوا برعاية السّيد منصور معلّى الّذي سبق وأن مهَّد لاتّحاد الدّيمقراطيّين باحثين عن صيغة تكتّلٍ تُجمِّع تفرّقَهم.

كلّ ذلك استهدَف إيجاد البديل المحقّق للتّوازن المفقود إلى حدّ السّاعة بما أجّل الإطار الدّيمقراطيّ المناسب لتجذير وإرساء ديمقراطيّة فعليّة رغم وجود ممكناته.

من الجهة الأخرى استعاد المحافظون رشدَهم بعد أن أفاقوا من سكرة " النّصر" على إيقاع الاعتصامات والاحتجاجات ومختلف مظاهر الانتقاد لِما بان في عملهم من عجزٍ وتقصيرٍ يُناقض ما حملته وعودُهم الانتخابيّة للشّعب من آمال عراض.

تزامن ذلك مع مجموعة من الأخطاء الفرديّة الّتي وقع فيها بعض رموز "الحزب الأوّل" واضطرّت البعض للتدخّل بغرض التّوضيح والتّصحيح، نعني خاصّة "بشارة" السّيد حمّادي الجبالي قبيل منحه ثقة النّواب لرئاسة الحكومة بالخلافة السّادسة ثمّ تسرّعه لاحقا بُعيد منح حكومته الثّقة من خلال تعيينات فوقيّة مسّت مجموعة من المؤسّسات الإعلاميّة العموميّة، ونعني كذلك التّدخّل الغريب للسيّد النّائب الصّادق شورو والّذي اعتبر فيه المعتصمين أعداء للّه ولرسوله يجوز إقامةَ الحدّ عليهم بالتّقطيع وبالتّصليب.

ويمكن أن نضيف إلى ذلك آخر ما وردت به الأنباء عن تصريحات رئيس حكومة النّهضة لإذاعة إسرائيليّة بدا من خلالها متسامحا إزاء فكرة التّطبيع بما أثار الاستغراب والاستهجان من أطراف عديدة بالدّاخل وبالخارج.

إذن اكتشف الحداثيّون أنّهم ليسوا بالضّعف الّذي توحي به نتائج الانتخابات وتفطَّن المحافظون إلى أنّهم ليسوا الفاعل الوحيد في المشهد. إنّ هذا الإدراك جعل كلاّ من الطّرفين يعيد حساباته في مستوى علاقته بالطّرف المقابل، فبعد موجة تبادل الاتّهامات طوال الأشهر السّابقة وإثر "بروفة" ليّ الأذرع عاودت الحكومة خاصّة من خلال حركة النّهضة دعوة الجميع – وطبعا المعارضة – إلى التّعاون على الشّأن الوطنيّ ولكن بلهجة تجاوزت الدّعوات المصطنعة سابقا.

لم تعد الدّعوة مجاملة ديبلوماسيّة وإنّما باتت أقرب إلى الإلزام بتحمّل واجبٍ وطنيّ، من ناحيتها تبرّأت المعارضة من تهمة تأليب الرّأي العامّ على الحكومة دون التّنازل عن حقّ العمّال والمعطّلين والفقراء في الاحتجاج شرط عدم تعطيل سير دواليب الدّولة ونسق الاقتصاد الوطنيّ.

لقد مثّل خطاب الطّمأنة من رئيس الحكومة السّيد حمّادي الجبالي بدافوس رسالة إيجابيّة للدّول الصّديقة. وهو إلى ذلك رسالة مشفّرة إلى المعارضة حتّى تقدّر جهود الدّيبلوماسيّة التّونسيّة حقّ قدرها فتُسهِم في دعم عمل الحكومة بالدّاخل بما يعود إيجابيّا على المستويين الاقتصاديّ والاجتماعيّ.

المعارضة والحكومة كلاهما يجلسان متقابلين وكلاهما يعلم أنّ مصلحة البلاد في الالتقاء بشكل ما، التقاء يجب أن يتجاوز الرّسائل المشفّرة إلى مبادرة جديّة تقوم على تنازل واضح من أحدهما سيشجّع لا محالة الطّرف الآخر على التّضحيّة بجزء من المصلحة الحزبيّة لفائدة المصلحة العامّة.

ويعلم الطّرفان أنّ الكأس مرّة، غير أنّ التّونسيّين لن ينسوا لمن سيبادر أنّه تنازل إلى التّوافق في سبيل المصلحة الوطنيّة.

صالح رطيبي- كاتب وإعلامي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.