تحامل النهضة على الإعلام: مبرراته كثيرة ولكن ضره أكثر من نفعه

هو “إعلام فاسد” و”إعلام بنفسجي” و”إعلام عار” هكذا ينظر النهضاويون وحتى بعض المحايدين اليوم إلى الإعلام التونسي حتى يبرروا تحاملهم عليه، ولكن هل أن هذه …



تحامل النهضة على الإعلام: مبرراته كثيرة ولكن ضره أكثر من نفعه

 

هو "إعلام فاسد" و"إعلام بنفسجي" و"إعلام عار" هكذا ينظر النهضاويون وحتى بعض المحايدين اليوم إلى الإعلام التونسي حتى يبرروا تحاملهم عليه، ولكن هل أن هذه المبررات صحيحة؟ وإذا كانت صحيحة فهل يجوز التحامل عليه، وإن جاز التحامل فهل تستفيد منه النهضة؟

هذه عينة من أسئلة مهمة سنسعى إلى الإجابة عنها بكل تجرد وموضوعية وحياد تام على أمل أن يكون للنهضاويين والإعلاميين معا رحابة صدر تحول دون غضبهم.

في البداية علينا أن نقوم بومضة ورائية إلى السنوات العجاف الماضية في الإعلام التونسي حتى نفهم واقعه اليوم.

ففي ما مضى كانت هناك ثلاثة أنواع من الإعلام لو نظرنا إليه من حيث طبيعته وهو: أولا: الإعلام الحكومي وهو الذي يمجد النظام السابق بالمغالطة والتضخيم مثلما كانت تفعل قناة تونس 7 وقناة 21 والإذاعة الوطنية والإذاعات الجهوية وبعض الصحف وخاصة منها التابعة لدار "لابراس".

ثانيا: الإعلام الحزبي وهو لسان حزب معين أو حركة معينة مثل صحيفتي "الحرية" و"لو رونوفو" التابعتين للتجمع الدستوري الديمقراطي المنحل. ولكن العديد من صحف هذا النوع من الإعلام لم تكن تكتفي بالتعبير عن حزبها بل كانت تتسابق في تلميع النظام السابق.

ثالثا: الإعلام المستقل أو بالأحرى شبه المستقل وهو يضم الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية ولكن قلة قليلة منها حافظت على استقلاليتها لأن أغلبها صار (تحت الإكراه أو جراء الطمع) بوق دعاية للنظام المنتهية صلوحيته.

وبالمقابل كان هناك إعلاميون موالون استفادوا بما شاء الله من النعم والهدايا والعطايا والتكريم، وهناك آخرون باعوا حرياتهم من أجل مبادئهم، وآخرون لم يجدوا الفرصة أو الشجاعة لتقديم إعلام نزيه ولكنهم حافظوا على قدر من الاستقلالية.

لهذا قد يكون من العيب وضع جميع الإعلاميين ووسائل الإعلام في خانة واحدة فقد قرأت مؤخرا على صفحة مشهورة في الفايس بوك ما مفاده أن جميع الصحفيين "لحاسة" و"صبابة" وصفات أخرى أخجل من نقلها، والغريب أن العديد من "الفايس بوكيين" العاديين تناقلوا هذا الحكم دون روية ولا أدنى معرفة بالشأن الإعلامي.

الإعلام اليوم مريض وهذا يعرفه الإعلاميون دون غيرهم والسبب أنه لم يكن مهيأ للثورة، فما حدث له يشبه ما يحدث لمعصوب العينين عندما يفتحهما فجأة في نور ساطع أي إنه يعجز للوهلة الأولى عن الرؤية فيخبط خبط عشواء زمنا معينا ثم يعود إلى رشده. ولكن هل يبرر هذا ردة فعل الحكومة وخاصة منها  حركة النهضة.

للتذكير فقط نشير إلى الإعلام التونسي أحرج أول رئيس حكومة بعد سقوط النظام (محمد الغنوشي) وأفقد خلفه (الباجي قايد السبسي) صوابه وأعصابه، وهاهو اليوم يثير سخط الحكومة الحالية وأنصارها.

لا شك في حدوث العديد من الأخطاء المهنية لدى بعض الإعلاميين مثل تلك التي تتعلق بالموضوعية والحياد التام وحتى الأخلاق فعندما أختلف مع الجبالي فإني مجبر على استعمال عبارات الاحترام والتبجيل في مخاطبته، وعندما أحاور اليوم الباجي قايد السبسي فإني مطالب بأن أقول له "سيدي الوزير" رغم ابتعاده عن الحكومة. ولمن لا يعلم فإن محاورتي اليوم للرئيس المخلوع تقتضي استعمال عبارة "سيدي الرئيس" وهذا عرف عالمي إما أن أقبل به كله أو ألفظه كله.

لكن ألم تلاحظوا أن هناك اتفاقا بين من توالوا على رئاسة الحكومة في نظرة واحدة مثيرة للانتباه والغرابة تجاه الإعلام. السبب ــ حسب رأيي الذي يحتمل الخطأ ــ أن جميعنا تعود على شكل معين من الإعلام وهو الذي يسند الحكومة في توجهها وبرامجها واختياراتها.

فالحكومة الحالية عديمة الخبرة و"تحكم في فترة انتقالية حساسة جدا وتجد من العراقيل ما توقعته وما لم تتوقعه وتلقى معارضة في الداخل (اليسار خاصة) وفي الخارج (من يرفضون الحكومات الإسلامية) فتكون (على الأقل من وجهة نظرها) في حاجة إلى الدعم الإعلامي المطلق لما فيه صالح الجميع أي أن يدافع عن خياراتها دون أن ينتقدها.

هذا الأمر معقول جدا إذا تعلق بإعلام حكومي ولكن المشكلة أننا اليوم نحتاج إلى إعلام عمومي بدل حكومي فما الفرق بين النوعين؟

قبل الإجابة سأقف عند نقطة على درجة كبيرة من الأهمية، فليلة الجمعة الماضية غطت القناة الوطنية اعتصام المواطنين المطالبين "بإسقاط الإعلام البنفسجي" وتحدث أحد المواطنين في النقل الصحفي فقدم منطقا مثيرا للعجب بل للبكاء إذ قال إن التلفزة مرفق عمومي. والمرفق العمومي في خدمة الشعب. والشعب اختار النهضة وعليه فلا بد أن تكون التلفزة (يقصد القناتين الوطنيتين) مواليتين للنهضة.

هذا المواطن الكريم الذي تجشم أتعاب التنقل والمرابطة وربما الصياح لا يعرف مثل الكثيرين الفرق بين الحكومي والعمومي ولا يعرف بالتالي لب المشكلة ولا القضية التي يدافع عنها. فما نادى به ليس العمومي بل هو الإعلام الحكومي الذي يدافع عن خيارات الحكومة أما العمومي فلا يهمه شيء في هوية الحكومة ولا برامجها ولا توجهاتها.

وحتى نبسط أكثر نقول إن الإعلام الحكومي مطالب اليوم بتلميع حكومة الجبالي وهذا يرضي النهضة وشريكيها (المؤتمر والتكتل) ولا يرضي المعارضة فإذا فازت الأحزاب اليسارية في الانتخابات القادمة ونجحت في تشكيل حكومة فإن ذلك الإعلام الحكومي نفسه يكون مطالبا بالولاء لها مما يغضب خصومها وهذا النوع من الإعلام لا يلائم الأنظمة الديمقراطية على خلاف الإعلام العمومي الذي يتحول إلى سلطة رابعة تراقب الحكومة (أي حكومة) وتحميها من الإنزلاقات ويعبر حقيقة عن الشعب (الشعب الذي اختار النهضة اليوم قد يختار غيرها غدا وقد يعود لاختيارها بعد غد…).

الرأي عندي أن تنهي الحكومة الحالية تحاملها على الإعلام وأن تركز بدل ذلك على النهوض به وتطويره وتطهيره من الفاسدين وإعانته على أن يكون عموميا فعلا حتى لا يكون غدا بوق دعاية لخصومهم إذا كتب لهم الفوز في الانتخابات القادمة.

آدم القروي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.