الحاجة إلى خلق قيادات رأي جديدة في تونس

هيمن على الساحة السياسية التونسية الخطاب السياسي بل السياسوي المتشنج، طيلة المرحلتين الانتقاليتين، الأولى ما قبل الانتخابات والثانية بعدها. وانحسر مقابل ذلك خطاب الفكر والعقل. ويعكس ذلك إيمانا راسخا عند مكونات المشهد ذاته وعناصره الفاعلة، بغلبة …



الحاجة إلى خلق قيادات رأي جديدة في تونس

 

هيمن على الساحة السياسية التونسية الخطاب السياسي بل السياسوي المتشنج، طيلة المرحلتين الانتقاليتين، الأولى ما قبل الانتخابات والثانية بعدها. وانحسر مقابل ذلك خطاب الفكر والعقل. ويعكس ذلك إيمانا راسخا عند مكونات المشهد ذاته وعناصره الفاعلة، بغلبة الرهانات السياسية على حساب الرؤية الفكرية، المتجذرة في عقلنة المقاربات/ المفاتيح لفهم اللحظة ورهاناتها و ترتيب أولوياتها، إنه تغليب لوجهات النظر السياسية على المسارات الفكرية و العلمية، وهو السرّ في اعتقادنا في كل ما يشهده الانتقال الديمقراطي من تعثر، وما يشوب الساحة السياسية من تجاذبات إيديولوجية متشنجة وغير مُثمرة.

 

إن غلبة السياسي للفكري، تعود إلى كون البحث المعرفي والعلمي هو الأداة الأهم، التي تُحققُّ التقدم و النماء الإنساني والاجتماعي في كل الصّعد، إذ لا يُمكن تخيّل قيادات سياسية، قادرة على إنجاح هذا المسار الانتقالي دون وجود آليات دقيقة لتدريبها، وتهيئتها لحمل الأفكار الجديدة والترويج لها والدفاع عنها، بطريقة علمية مُحكمة التنظيم واضحة المعالم والمراحل. ان تهرّؤ النخب السياسية الحالية، الناشط منها في عهد الدكتاتورية مواليا لها أو معارضا، تجلّى بوضوح في عجزها عن صنع بدائل حقيقية تشدّ عموم المواطنين لخطاباتها على اختلافها، وهو ما انعكس في تدني مستوى الجدل السياسي الذي لم يتجاوز إثارة قضايا الهوية و المحاسبة وفلول النظام السابق مع وعود خرافية بــ"جنات" أرض في التشغيل والعدالة والتنمية سرعان ما بان تهافتها. إن هذا التهرّؤ هو نتاج طبيعي لتخلف البُنى المعرفية والعلمية لمجتمعنا، وهو ما ترك البُنى الاجتماعية العتيقة، تظل في وضع كمين غير مُعلن، وسرعان ما أعلنت عن نفسها بأكثر من قناع بعد 14جانفي، جهويات وعروشية وقبلية…

 

لعل من أوكد المهام المطروحة اليوم علينا هي العمل على تثوير البنيات الفكرية من أجل خلق "قيادات رأي" جديدة، قادرة على تفعيل الحراك الاجتماعي والمدني، تقوم بعملية تنوير وإعادة نظر في ما رسب من أوهام وأعراف ومعتقدات في لبوسات متطرفة يمينا أو يسارا. نُخب تُشكلُ وعيا نقديا جريئا، يعمل "معاولا" تكسر الأصنام وتعمق النقاش الفكري والمعرفي في أمهات القضايا، وتجعل من السياسي تابعا للعقل وللفكر، ويُوفر التراكم النقدي التنويري المعرفي للنُّخب السياسية، البحوث والدراسات والآليات اللازمة لحل الإشكالات الخلافية في المجتمع. لا حلول "للاحتراب" السياسي، ولا مجال لتجاوز مآزق التعصب الإيديولوجي إلا بالفكر الخلاق والمبدع، ولا غرابة والحال تلك، أن تستأثر مراكز البحوث الفكرية و الإستراتيجية باهتمام عالمي متزايد إذ يفوق عددّها حسب آخر الإحصائيات الــــ 5000 مركز منها 1780 مركزا في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، فما هو نصيب تونس من مثل هذه المراكز؟ بل ما نصيب العرب والمسلمين مجتمعين منها؟

 

أن الوعي بكون بناء الدولة الديمقراطية التي تُوفر لمواطنيها سُبل الرفاه، يستتبعه ضرورة الإيمان بمشروع مجتمعي مُشترك، الذي لا يُمكن الحديث عليه دون مشروع فكري/معرفي. ولذلك علينا اليوم أن نتحاور لنتفق عن ماهية المشروع المجتمعي الذي نُريده لتونس ونرومه لأبنائها. على كل الفُرقاء السياسيين والفاعلين الاجتماعيين الجلوس معا، لتحديد هذا المشروع. وتنشأ عن هذه الإرادة السياسية الجماعية الحاجة إلى صوت المثقف، الذات العارفة، التي تُؤصل هذا البديل المشترك في أرضية أكاديمية راسخة في التعقلن، بعيدا عن الارتجال في الموقف والتسرع في الرأي والتشنج في التعاطي. من ثمة الحاجة إلى مخبر لصناعة الأفكار، بنك للتفكير ومخزن للاقتراحات والبدائل. أفكار لها قدرة توفير الحلول عند الأزمات واشتداد الخلافات، فلم يعد ممكنا بعد اليوم، القبول بالرأي الواحد، مثلما لم يعد ممكنا الخضوع لمنطق الحزب الواحد. ليس واردا الرضى بالثقافة الواحدة ونموذج الحياة الواحد والثقافة الواحدة. نحن نتنادى بالاختلاف والديمقراطية، وأولى أن يكون ذلك في الفكر والمقاربات والاقتراحات.

 

لذلك، يبدو التواشج بين الفكر والسياسة شديدا. فالفكر يسمح بتشكيل رؤى مُختلفة للعالم، ويفتح مجالات البحث في مكامن الضعف في المجتمع وفي أداء فاعليه. وخلق مثل فضاءات التفكير المبتكرة للفكر والصانعة له، يزيد من تشبيك الكفاءات مع بعضها البعض، ويقتل للابد فكرة "العارف وحده" ويحتضن الكفاءات، مما يقود إلى مراكمة المهارات والمعارف والخبرات، التي على أديمها يُبنى البديل الاجتماعي الجماعي.

 

إن هذا المشروع، لممّا تنوء به الجبال، على حدّ تعبير القدامى، لذلك يتحدد نجاحه بمقدار، إقناع "الفاعلين" السياسيين وخاصة الاقتصاديين، من رجال أعمال وشركات، لاحتضان مراكز البحوث هذه، لأن مجالات نشاطاتها متنوعة، فهي ليست قصرا على العلوم الإنسانية فقط بل تتعداها إلى البحوث الزراعية و الفلاحية والطبية والاقتصادية.. وارتباط هذه المراكز البحثية بالقطاع الخاص يمنحها مرونة كبيرة في التحرك، ويُفر لها استقلالية البحث وحرية التفكير وعمق النقد ومن ثمة قوة الاقتراح. وارتباطها بالجامعات يسمح لها بالاستفادة من القوة البحثية الأكاديمية للجامعيين، ناهيك أن الجامعات عادة، وفي أمريكا خاصة، هي القاطرة التي تقود المجتمع في كل المجالات. وكل ذلك، يجعل هذه المراكز متحرّرة من الرؤى الحكومية و من الاكراهات السياسية، وهي من ثمة ورشات عمل للتفكير، تربي الجميع على العقل والحوار وتنشر ثقافة الاختلاف فتُنشئ جيلا جديدا من الخبراء ومن قيادات الرأي وصنّاع القرار.

 

أرسلان حشيشة – رجل أعمال مهتم بالفكر

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.