من التكفير إلى التخوين إلى الترويع: سياسة “النهضة” التي أعيت آل ساسان!

واضح أنّ “حكومة النهضة” قد وعت جيّدا درس “آل ساسان” في سياسة “صلح الحديبيّة” المسمّى زورا وبهتانا: انتقالا ديمقراطيا.. نعم. ها هي تسوسنا بما وَقَر في صدور قادتها من عِلم الفُرْس في تدبير المعاش والمعاد، تارة بالصدمة وطورا بالترويع…



من التكفير إلى التخوين إلى الترويع: سياسة “النهضة” التي أعيت آل ساسان!

 

واضح أنّ "حكومة النهضة" قد وعت جيّدا درس "آل ساسان" في سياسة "صلح الحديبيّة" المسمّى زورا وبهتانا: انتقالا ديمقراطيا.. نعم. ها هي تسوسنا بما وَقَر في صدور قادتها من عِلم الفُرْس في تدبير المعاش والمعاد، تارة بالصدمة وطورا بالترويع .

لقد جرت عادة الفُرس القدامى إذا مات ملكُهم أن يتركوا الناس خمسة أيّام بلا سائس ولا ملك ولا قانون، حتّى تعمّ الفوضى ويشتدّ العنف وينتشر الاضطراب ويكثر النهب في كامل البلاد ويشمل جميع الطبقات والطوائف. وكانت "الحكمة" من ذلك بديعة عجيبة. بنهاية أيّام الجحيم الخمسة، يصل السلب والنهب والاغتصاب والتحريق والتخريب مداه الأقصى. ولكنّ من خرج سالما من هذا الجحيم، وبعد تلك الفوضى "الخلاّقة" سيكون عبدا صالحا، ويكون ولاؤه للملك الجديد ولاءً أعمى. فالناس قد عركتهم التجربة القاسية المُرّة وعلّمتهم حالةَ الرعب القائم في ظلّ غياب السلطان. وسلطان غشوم خيرٌ من فتنة تدوم  !

الحقيقة أنّ الفيلسوف الإنجليزي "هوبز" قد استفاد، هو أيضا، من هذا الدرس الساسانيّ، وعقد عليه نظريّته في عنف الدولة. فكرةٌ مثل هذه هي تشخيص ممكنٌ للعنف الجاري في تونس، وسط تصامُم الحكومة وتعاميها أو وقوفها تسترق السمع من وراء الأبواب .

وليس يخفى لكلّ ذي عقل وبصيرة الأواصر الخفيّة والظاهرة بين "حركة النهضة" من جهة وقاعدتها السلفيّة من جهة أخرى. ولعلّكم تذكرون أنّ الأرض كانت قد انشقّت لتبتلع "الغرباء" الذين كانوا يفترشون الشوارع للصلاة، ويتسلّقون "القمم الشمّاء" ليثبّتوا فوقها أعلامَهم السود، ويمنعون الطلاّب من متابعة دراستهم وامتحاناتهم. ثمّ، وما أن عادت "الحكومة" عن قرارها حظرَ التظاهر في شارع بورقيبة حتى بُعثت هذه الدُّمى بعثا جديدا، وعادت رايات العُقاب خفّاقة فوق المباني الحكوميّة التي ترجع ملكيّتها الحصريّة للشعب التونسيّ دون سواه .

الجديد في هذه العودة هو العنف الذي مرّت إليه هذه الجماعات ضدّ كلّ من لا يوافقها الرأي. وهكذا، فقد صار المثقفون والحقوقيّون والسياسيّون يُمْنعون من الاتّصال بالناس في الجهات خاصّة. وطريقة الصدّ، تقريبا، واحدة .

تبدأ حملة من التجييش والشحن تقوم بها الرؤوس المدبّرة على شبكات التواصل الاجتماعيّ وفي الإنترنيت والقاعات المغلقة لمنع هذا النشاط الثقافي أو الفكري أو السياسيّ أو ذاك، ولقطع لسان هذا المحاضر أو تلك المحاضرة. وتتداعى إلى النداء الفلولُ إياها من المغرّر بهم و"الصالحين" والمنحرفين التائبين والغوغاء تحت الطلب، والميليشيات المتستّرة بمسمّيات شبحيّة كروابط حماية الثورة النهضويّة بعد انسحاب مؤسّسيها الأصليّين لاستنفاد أدوارها الموكولة إليها بُعَيد 14 جانفي 2011

الخطّة باتت واضحة، وكشوف "أنونيموس"رجّحت الظنون وزادتها برهنة. اشتغلت استراتيجيّة الرفض للآخر والمختلف على مراحل. المرحلة الأولى تمّ فيها شيطنة الخصم بتبديعه وإخراجه من الملّة وهذا هو التكفير دينيّا. المرحلة الثانية تمّ فيها شيطنة الآخر باتّهامه بأنّه يخدم أجندا التجمّع المنحلّ، وهذا هو التخوين سياسيّا. والمرحلة الثالثة هي إقصاؤه عبر ترويعه أو تعنيفه وهذه هي التصفية الجسديّة .

باستيفاء هذه الخطّة الثلاثيّة، يكون الحجر قد أطبق على عقول التونسيّين، فيحرمون من الاستماع إلى وجهات نظر غير روايات "النهضة" وأخواتها. وهكذا، ننتهي إلى القَبول بسلطان غشوم لأنّه أرحم من فتنة تدوم  !

في الأيّام الأخيرة، شهدنا فصولا قديمة جديدة من هذه الخطّة في صفاقس ودوز وسوق الأحد بقبلّي وقليبية. ومساء أمس الاثنين، شهد محيط التلفزة الوطنيّة وأسوارها "غارة" من المعتصمين المرابطين الطاعمين الكاسين أمام بوّاباتها منذ خمسين يوما ويزيد، وفي حضور محتشم إنْ لم نقل غيابا للأمن الذي من المفترض أنْ يحفظ كرامة الإعلاميّات والإعلاميّين الذين يتعرّضون صباح مساء إلى الشتائم والسباب والتشويهات والاستفزازات. (في الوقت الذي أكتب فيه هذه الورقة تعلن وزارة الداخليّة قرارها رفع الاعتصام لعدم الحاجة  !).

 

الغارة على التلفزة الوطنيّة ليست بمعزل عن تصريحات بعض أعضاء "النهضة " بخوصصة الإعلام العموميّ، ولا عن اللافتات التي صارت منصوبة حول مبنى التلفزيون تعرض ما لا تملك للمناقصة والبيع، حتّى قال أحد الظرفاء: لم يستطيعوا شراء الإعلام العموميّ ولا تركيعه، فقرّروا التفويت فيه وبيعه  !

وبقطع النظر عن ذهنيّة الإغارة والغزو  في "تجارة" مثل هذه وعن انتفاء الصفة أصلا لهؤلاء المؤقّتين العارضين الذين يريدون أن يكونوا دائمين مؤبّدين، فإنّ حلقات العنف المنظّم التي تجري ملء السمع والبصر، وفصول الترويع المنهجيّ الموجّه ضدّ بعض النُّخَب والإعلاميّين والسياسيّين لا يمكن أن يعكسا أهليّة سياسيّة ولا كِفاية انتقاليّة لدى من رشّحتهم الصناديق – في ظروف مخصوصة – لقيادة هذه المرحلة

ومع هذا الالتفاف الواضح على مقتضيات "الانتقال الديمقراطيّ" صار من الطبيعيّ أن يتحوّل المسار برمّته إلى مجرّد "إعادة توزيع للسلطة" لنكون، حينها، إزاء تجربة هجينة تستأثر فيها "حركة النهضة" بالحكم، فيما يتراخى ويتلاشى التأثير السياسيّ لشريكيْها المفترضيْن (حزب المؤتمر وحزب التكتّل) واللذيْن صار دورهما يقتصر أو يكاد على الإيهام بديكور ائتلافيّ تعدّديّ، دون أن ننسى بهتة المعارضة الوطنيّة وذهولها الذي طال .

 

حديث يبدأ بـ"آل ساسان" لا يمكن أنْ ينتهي إلاّ بـ"برسيبوليس"  !

 

بقلم مختار الخلفاوي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.