الدروس المصرية للثورة التونسية

كل الذين التقيتهم أثناء تواجدي بالعاصمة المصرية القاهرة لمتابعة سباق الانتخابات الرئاسية فيها، لم يكفوا عن الثناء لتونس ملهمة الشعب المصري في اطاحته بالدكتاتور حسني مبارك. التونسيون الذين لا يتخطى عددهم ثلاثة أرباع سكان القاهرة نجحوا في تأجيج نيران التمرد لدى أبناء أم الدنيا. لا أحد هنا يعرف عن أخبار تونس …



الدروس المصرية للثورة التونسية

 

كل الذين التقيتهم أثناء تواجدي بالعاصمة المصرية القاهرة لمتابعة سباق الانتخابات الرئاسية فيها، لم يكفوا عن الثناء لتونس ملهمة الشعب المصري في اطاحته بالدكتاتور حسني مبارك. التونسيون الذين لا يتخطى عددهم ثلاثة أرباع سكان القاهرة نجحوا في تأجيج نيران التمرد لدى أبناء أم الدنيا. لا أحد هنا يعرف عن أخبار تونس في فترة ما قبل ثورتها إلا النزر القليل، ولكن ذلك الشاب الذي ردّد عاليا في احدى الفيدوهات "بن علي هرب" لم تُمحى عن أذهان المصريين.

 

ومنذ ذاك الحين، انتبه الشعبان التونسي والمصري أن عصرا جديدا تعيشه منطقتهم. انه زمن الربيع العربي الذي شملت أجنحته عدة مناطق عربية. كلا البلدين يقاسيان نفس التحديات تقريبا. فليس من اليسير أن يتم التخلص نهائيا دون ارتجاجات من براثن الفساد واللصوصية والزبونية اللواتي كانت عالقة بنظامين حكما بالحديد والنار لرده طويل من الزمن.

 

حاليا يعكف البلدان على بناء الدولة الديمقراطية ووضع مؤسساتها بعد سنوات عاشا خلالها في ظل نظامين سوّقا لديمقراطيات مزيفة ومغشوشة. وهاهما يؤسسان لمعالم الدولة الحديثة التي ظلت غائبة رغم موجات التحديث التي طالت بقية المجالات الأخرى.

 

البلدان ينظمان انتخابات متواصلة لإضفاء الشرعية على الفريق السياسي الذي يُشرف على تأمين عملية المرور خلال هذه المرحلة الانتقالية فيهما. مخاض عسير يرج المسارين قد يهدده بالتوقف عند المحطة الأولى منه. إلا ان الثورة المصرية بدت وكأنها تُسرع الخطى لتجاوز منطقة الخطر بأخف الأضرار.

 

فبعد اجراء الانتخابات التشريعية التي هيمن على نتائجها الاسلاميون بمختلف أطيافهم، ينجح المصريون في تنظيم الحلقة الأولى من الانتخابات الرئاسية التي أفرزت مرور مرشحيْن اثنين إلى الدورة الثانية التي سيتم خلالها التعرف على الرئيس القادم لمصر.

 

وخلال الفترة السابقة لتلك الانتخابات، شهدت الساحة السياسية المصرية جدلا عميقا ارتبط بتعدد الترشحات التي بلغت ثلاثة عشر مترشحا يمثلون قطاعا واسعا من الطيف السياسي المصري.

 

اهم ما يميز الدولتين انهما يقفان على ارضية فكرية أهلت لتغلغل الاسلاميين بصورة واسعة وتمدد اخطبوتهم الى جانب كبير من مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية. فليس أسهل من استخدام الاسلام للحصول على تأييد الناس واستعطافهم في بلدين عاشا حالة من التصحر الفكري والخواء المعرفي الذين فرضهما نظامي الاستبداد.

 

علمانيو مصر وتونس يواجهان ذات التحديات نفسها. فالبون بين حملة الأفكار التحررية وجمهور الناس واسعى للغاية جراء الجدار النفسي الذي صنعه بينهما السلطتين السابقتين، اضافة الى مشاكل ذاتية تعاني منها النخب المثقفة لكلا البلدين.

 

النتائج شبه الرسمية أفرزت مرور مرشح حركة "الاخوان المسلمين" محمد مرسي ورئيس الوزراء السابق أحمد شفيق إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية. فكلاهما حازا معا ثقة نصف عدد المقترعين المصرين بينما توزعت أصوات النصف الثاني على 11مرشحا آخر. فما هي دلالات ذلك؟

 

يبدو أن الاسلاميين المصريين أخطئوا لما اكتسحوا البرلمان المصري. فبرنامج كل من حزب الحرية والعدالة وحزب النور لا يتجاوز بعض الشعارات الدينية. وجزء كبير اعتقد فيهما لسببين: أولهما ان "الاخوان المسلمين" هي حركة عريقة وتمكنت من بناء جهاز متجذر في المجتمع رغم حالة الحصار  والعرقلة التي كانت عرضة لها تحت حكم الأنظمة السياسية المتتالية. وفي المقابل يغيب بديل متماسك قادر على طمأنة المصريين على مستقبلهم، خصوصا مع تزايد الانتقادات الموجهة الى شباب الثورة" الذين استنزفوا طاقاتهم في مقارعة المجلس العسكري. وهو ما أدى لاحقا إلى وقوعهم في مأزق أفرز الى انهيار طاقتهم التعبوية. فانقسموا بين مساند للناصري صبحين حمدي وبين داعم للناشط الحقوقي خالد علي. بينما فضّل آخرون مقاطعة الانتخابات بعد أن اعتبروا أن الرئيس القادم لن يكون في جميع الحالات إلا "دمية متحركة" بيد العسكر ما لم يقع سن دستور جديد يحدد صلاحيات السلطات.

 

أما السبب الثاني فيتعلق بإيمان قطاع واسع من المصريين الذي تنتشر فيه نسبة كبيرة من الأمية أن الاسلام في خطر وأنه لا بد من منح الاسلاميين الحكم حتى يذودوا عنه من مخاطر تهدد معتقداتهم. وهو تصور ينسحب على بقية الدول العربية تقريبا و لا يخص مصر لوحدها.

 

حالة التوجس التي شابت  5 مليون مصري تقريبا اختاروا التصويت لفائدة أحمد شفيق تعني أن الثقة في قدرة الاسلاميين في حسن تسيير أمور البلاد بدأت تتزعزع. فالحرية التي ينعمون بها لا بد أن ترادف تحقيق الاستقرار والرخاء الاقتصادي. وهو ما لا يمكن انجازه إلا مع شخصية كارزماتية نافذة، حيث تعهد فى بداية برنامجه الانتخابى بتحقيق الأمن، وقال بعد انتهاء الجولة الأولى من الانتخابات: "نحن نرفض أن يغرق بلدنا فى الفوضى، ويبقى القانون ويحترمه الجميع".

 

شباب الثورة المصري يعيش في مأزق مصيري. فمن جهة لا يستوعب العديد منهم مبدأ الدعوة للتصويت للاسلاميين الذين لطالما نفروا منهم، وخبروهم جيدا في فترة النضال ضد العكسر. فخذولهم في العديد من المحطات وتخلوا عنهم في عدة وقفات احتجاجية لم تتلاءم مع الأجندة السياسية للاسلاميين. ومن جهة أخرى، يجد هؤلاء الثوار صعوبة في الدعوة لانتخاب أحمد شفيق الذي علقت في بتاريخه كل أخطاء النظام السابق رغم أنه لم يشغل مهمة رئاسة الوزراء إلا في الأربعة الأيام الأخيرة من حكم حسني مبارك. وهذا التردد بدأ يقوي في صف المقاطعين للانتخابات الذين اعتبروا ان كلا المرشحين يمثلان وجهان لعملة واحدة، حيث كتب أحدهم  "لا أستطيع الخيار بين وجهى عملة فاسدة، وليس من حق أحد أن يرغمنى على اختيار جلادى ومنحه الشرعية.. إنها ليست معركة الثورة بل معركة الثورة المضادة بجناحيها.. سأنحاز إلى الثورة وأقاطع هذه الانتخابات".

 

ولكن لا شك أن شفيق سيكون الأكثر حظا في الفوز بملايين أصوات الناخبين التي ذهبت الى المترشحين المنهزمين، نظرا لأنه يمثل الضمان الأفضل لعدم سقوط مصر في أحضان الفكر الاخواني بشكل نهائي. فالخلافات التي تجمعه مع عدد من القوى السياسية التي نافسته سابقا ستنهار بمجرد احساس المصريين بخطورة تحكم الاسلاميين بكافة دفة الحكم.

 

بقلم سفيان الشورابي (صحفي تونسي)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.