تونس: بين استحقاقات الحراك الثوري ورهانات البنتاغون

“نكاتبك يا سيادة الرئيس للتعبير عن دعمنا الكبير لتعميق عرى الشراكة الأمنية والعسكرية والإقتصادية بين تونس والولايات المتحدة الأمريكية”. مقتطف من رسالة جوزيف ليبرمان وجون ماكين للرئيس أوباما…



تونس: بين استحقاقات الحراك الثوري ورهانات البنتاغون

 

"نكاتبك يا سيادة الرئيس للتعبير عن دعمنا الكبير لتعميق عرى الشراكة الأمنية والعسكرية والإقتصادية بين تونس والولايات المتحدة الأمريكية". مقتطف من رسالة جوزيف ليبرمان وجون ماكين للرئيس أوباما.

 

تحت شعار "تشجيع دول الربيع العربي على مواصلة عملية الانتقال الديمقراطي"، وتدارس الأزمة السورية ومناقشة سلوك إيران ‘المزعزع للاستقرار’ بالمنطقة، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية عن الجولة التي قام بها ليون بانيتا، إلى المنطقة العربية، والتي استمرت لمدة 5 أيام كاملة، شملت تونس ومصر والأردن و’إسرائيل’.

 

إذا كان البعض اختزل تفسير جولة وزير الدفاع الأمريكي بطبيعة ‘التطورات السياسية والعسكرية المرتبطة بسورية والملف الإيراني، فإن ذلك لا يحجب تركيزا أمريكيا بات واضحا ومتزايدا على عواصم ‘الربيع’. فما هي أسرار وغايات هذا الإهتمام المتعاظم والدعم الأمريكي المتنامي لتونس سياسيا وعسكريا؟ وما خلفيات التركيز على المؤسسة العسكرية التونسية تحديدا؟ وما هو الدور أو الأدوار التي يُراد لتونس وجيشها الإضطلاع بها في ظلّ التحولات التسونامية التي يشهدها المشهد الجيو-سياسي والجيو-إستراتيجي العربي والعالمي؟ وما الذي يدفع بجوزيف ليبرمان، وجون ماكين، بتخصيص خطاب رسمي لمناشدة أوباما دعم تونس وليس مصر مثلا؟ ثم وهو الأهم، ما مضاعفات كل ذلك على استقلالية وسيادية القرار التونسي أولا، وعلى الأمن القومي العربي والأفريقي عموما؟

 

إذا كانت لغة الساسة والدبلوماسيين اختزلت زيارة وزير الدفاع الأمريكي في عناوين فضفاضة كالتعبير عن الترحيب وبحث مسارات الإنتقال الديمقراطي التونسي ‘المستقرّ والسلمي نسبياً’، كما تفيد الرواية الرسمية، وكيفية دعم الولايات المتحدة للإصلاحات في تونس، ثم تبادل الآراء ووجهات النظر حول القضايا الإقليمية والدولية ذات الإهتمام المشترك، فإن لغة العسكريين المباشرة، وتحديدا ما ورد على لسان الناطق الرسمي باسم وزارة الدفاع الأمريكية جورج ليتل، قد أوضح أن بانيتا يعتزم خلال هذه الزيارة ‘رسم خارطة طريق للعلاقة العسكرية المقبلة بين واشنطن وتونس’.

 

وزير الدفاع الأمريكي، بعد لقائه مع رئيس الجمهورية، ورئيس الحكومة، ووزير دفاع تونس، كما تؤكّد صحيفة الواشنطن بوست، لم يخف سروره وهو الذي ناقش معهم سبل و’وسائل تطوير التعاون العسكري بين البلدين بالإضافة إلى إستعراض جملة من القضايا الإقليمية والدولية ذات الإهتمام المشترك’. كما نقل للمسؤولين بتونس استعداد واشنطن لمساعدة الجيش التونسي على تطوير قدراته العملياتية والاستخباراتية ‘للتصدي لتنظيم القاعدة’، ‘ودرس معهم سبل التعاون الأمني والآليات الكفيلة لمواجهة التحديات الأمنية في المنطقة خاصة في ظل حالة الفوضى التي تعيشها دولة مالي في الآونة الأخيرة’. لم يوضح السيد بانيتا كيف ولا حتى تعرّض لمسؤولية بلاده في ترك الأمور الأمنية تتدهور، مكتفيا بتوصية مفادها أن تتولّى دول المغرب العربي، بنفسها، تطوير ‘مجهود إقليمي لمجابهة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي’.

 

هذا المعلن من أهداف الزيارة أما ما يخفيه بانيتا فيتعدّى مجرّد التغنّي بـ’تونس الملهمة’ وبـ’الأنموذج الأمثل في الثورات العربية’ الذي يُحتذى به، كما يرد ببيان رئاسة الجمهورية المفاخر، إلى ما هو في لب إعادة ترتيب الأدوار في ظلّ المتغيّرات الإقليمية والعالمية لتتناغم والإستراتيجيات العسكرية والأمنية والإقتصادية للولايات المتحدة الأمريكية وذلك من خلال:

 

– إعادة الإعتبار للمؤسسة العسكرية وتوجيهها من خلال الدعم المادي وبرامج التدريب وطبيعة المهمات ومسارح العمليات.

 

– ربط تونس والشمال الأفريقي بالمنظومة العسكرية والأمنية والإستخباراتية الأطلسية، وتحديدا ما تشرف عليه أفريكوم.

 

– العمل على محاولة تشكيل عقيدة عسكرية لمؤسسة الجيش التونسي بما يضمن توظيفها لتأمين المصالح الحيوية والإستراتيجية الأمريكية.

 

– مواصلة تفعيل وتطبيق برامج أفريكوم التي لم توقف أنشطتها حتى في عزّ الانتفاضات الشعبية.

 

– تأطير الجيوش المحليّة والإقليمية لكي تخوض هي بالوكالة حروب الولايات المتحدة الأمريكية المستعرة والكامنة، بما ينسجم ومقاربة الأفريكوم.

 

تحاول الولايات المتحدة الأمريكية جاهدة الإلتفاف وحرف الإنتفاضات الشعبية عن نهجها الثوري لتدجينها لتسلّم فتركن أخيرا لإملاءاتها، وهي إذ تتربّص بتجارب نُظم الحكم الوليدة، فإنها تستهدف كل المنافذ السياسية والإقتصادية وأخيرا المؤسسات العسكرية من خلال ما تسميه ‘دعما’ أو ‘برامج تدريب’ أو تنظيما لمناورات مشتركة. ذلك استكمال لآخر أشكال الإختراق بالنفاذ نحو المؤسسة العسكرية وإستدراجها نحو شراك المنظومة الأطلسية تسليحا وعقيدة- ومن ثمة توظيفها لخدمة إستراتيجياتها الكبرى. تشكّل بؤر التوتّر الكامنة والملتهبة، التي تديرها الولايات المتحدة ولا تعمل على حلّها، ورقات ضغط وابتزاز ومساومات سياسية وأمنية، للي ذراع من تسوّل له نفسه التنصّل من التزامات الأنظمة المخلوعة، لفرض وصاية جديدة تؤمّن ما كان مؤمّنا، وذلك عبر فخاخ المساعدات والقروض وبرامج الشراكة والتدريب والتأهيل وشعارات الدعم والتبنّي التي تخفي تسفيه استحقاقات الإنتفاضات الشعبية! حين نتحدث عن برنامج لا نقصد بذلك الدعم اللوجستي أو التبادل المعلوماتي أو تسخير الموارد والأجهزة والأقمار الصناعية والمد بالصور والعتاد والعدة، فحسب، إنما يتعدّى ذلك لما ورد بإفادة قائد القيادة الأمريكية لمنطقة أفريقيا ذاته،وليام وورد، أمام لجنة القوات المسلّحة بمجلس الشيوخ، الصادرة بتاريخ 9 مارس 2010، والمترجمة والمنشورة بالموقع الرسمي لأفريكوم، وفيها يعدّد جملة من البرامج والأنشطة التي تعتزم القيادة الأفريقية القيام بها مع جيوش الشمال الأفريقي ودول الساحل ومنها الجيش التونسي، مؤكّدا على: ‘إعادة بناء وهيكلة وتحديث أساليب وطرق أداء قوات من يسمّيهم ‘الشركاء’، تطوير شبكات التواصل والتخابر للتنسيق والتكامل، إنشاء منظومة تبادل معلومات عصية على الاختراق، ضمن خطة ‘مبادرة تبادل المعلومات متعددة القوميات’، برامج التدريب والتعليم العسكري، آيمات، برامج الإعتراض البحري والإتصالات وتبادل المعلومات الذي انخرطت فيه كل من تونس والجزائر وليبيا والمغرب في إطار ما سمّاه الجنرال وورد: ‘تمرين خط العنقاء السريع’، برامج مكافحة ‘الإرهاب’، تدريبات قاعدية على العمل في المناطق الصعبة، وتنظيم دعوات تدريب ومحاضرات تعليمية.

 

إن النفاذ نحو المؤسسات العسكرية لا يشكّل خطرا على عقيدة أبنائها فحسب، بل ويُصادر على استقلالية القرار الوطني وسياديته. صحيح أن الوضع الذي تمرّ به تونس كما الشمال الأفريقي وباقي المنطقة العربية دقيق وعلى غاية من الحساسية، ممّا يقتضي الحكمة وعدم استعداء من لهم مصلحة في اجهاض الحراك الثوري جنينا، ولكن ذلك لا يبرّر مطلقا أن نمارس نفس نهج نُظم مرتهنة وغير شرعية تدين لهم ببقائها ومستعدّة لمقايضات القسمة الضيزى لمجرّد الاستمرار بالحكم! إن القبول ببرامج وتوصيات وإملاءات وزارة الدفاع الأمريكية سينتهي عمليا بالزج بالمؤسسة العسكرية التونسية تدريجيا إلى مسارح عمليات ومهمّات قد لا تخدم بالضرورة الأمن والإستقرار الذي جاء السيد بانيتا من أجل المساعدة على استتبابه.

 

الأسئلة الجمر التي لا تزال عالقة هي ما المطلوب من تونس تحديدا ووفق أية مقاربة وبإتجاه أية إستراتيجيات أمنية وعسكرية؟ ما الدور الذي ستضطلع به المؤسسة العسكرية التونسية التي يشيد بانيتا بدورها وبعمق أواصر علاقتها بنظيرتها الأمريكية، ويغدق عليها البنتاغون ما لا يقل عن 32 مليون دولار؟ ثم هل تراعي الإدارة الأمريكية مصالح تونس الإقليمية والمرحلة الدقيقة التي نمرّ بها؟ هل يحتمل ‘النموذج’ الوليد أعباء تحالف إستراتيجي مُكلف وخطر في ظلّ ما تعيشه منطقة المغرب العربي من إنفلات أمني، وفوضى سلاح، وأقطار فاشلة؟ وما مضاعفات أي دور محوري على علاقات تونس بدول الجوار، خصوصا الجزائر التي يُتربّص بها؟

هل يكفي التعلّل ببعبع ‘قاعدة المغرب الإسلامي’ و’السلفية الجهادية’ والقرصنة للانخراط في برامج أفريكوم الملغومة وتعليماتها المشبوهة؟ هل تكفي تطمينات السيد بانيتا وهو يزفّنا أنباء حرص وزارة دفاعه الأمريكية ‘على مساعدة تونس في جهودها لمكافحة الإرهاب وضمان الاستقرار الإقليمي وتقوية مؤسساتنا الدفاعية’؟ أي إرهاب هذا الذي يصبح محمودا حين يخوض حروبهم بالوكالة فيعبّد الطريق لدبّاباتهم وأساطيلهم؟ أليس ذات الإرهاب الذي يكاد يحوّل سورية اليوم إلى ركام ودولة فاشلة؟ أليسوا هم من فرّخوه ووفّروا له سبل التناسل كالفطر السام يستثمرون فيه ويبتزّون به؟ هذا عن الإرهاب، فماذا عن الإستقرار الإقليمي؟ أليست الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي من أغرقوا ليبيا بالأسلحة، بل وتركوا عمدا مخازن العتاد للنّهب والسرقة دون رقيب أو حراسة وفّروها لآبار النفط أياما قبل التدخّل، حتى بلغ بعضها تونس والجزائر ومصر وغزة، بل ونيجيريا! ألم تعمد وزارة السيد بانيتا إلى رصد ميزانية قُدّرت بحوالي 40 مليون دولار من أجل شراء أو استرجاع صواريخ ستينغر الضائعة والتي بلغ عددها 20 أ لفا، ولا تزال تشكّل كابوسا أمنيا؟

هل يريدون من المؤسسة العسكرية التونسية أن تتولّى دور ‘شرطي المغرب العربي أو الشمال الأفريقي’، في ظل التحلّل والتشظّي الأمني والكياني والسيادي الليبي والصومالي والمالي وتنامي قوة المارد الذي يستنسخونه بحسب أطلس الموارد ومصادر الطاقة، يوظّفونه متى شاؤوا، فزّاعة أو شمّاعة أو أداة أو ذريعة؟

 

من يستغفل السيد ليون بانيتا وهو يوهمنا بأن الإدارة الأمريكية تقدّم مساعدات تحت الطلب وحسب احتياجات الدول المعنية، وهو الذي تجاهل عامدا الرد على سؤال حول ما إذا كانت إدارته طلبت من تونس تمكينها من قاعدة عسكرية تكون مقراً لقيادة العمليات الأمريكية في أفريقيا، أفريكوم؟ ثم عن أية ‘خارطة طريق للعلاقة العسكرية المقبلة بين واشنطن وتونس’ يحدّثنا مهندس مشروع ‘الجهاز الدفاعي السرّي’، الجهاز الإستخباراتي الجديد الذي يعمل على ‘إعادة تنظيم العمل والتنسيق بين الهياكل والمراكز الإستخباراتية الأمريكية وتعزيز جهودها’، وعرّاب مشروع مخطّط توسيع مجال ونفوذ ومسارح وحدات العمليات السرّية الأمريكية، من أراد أن يحفظ أمنه الإقليمي وحدوده فليبدأ بجيرانه لتأسيس منظومة إقليمية مغاربية، ما دام صارت ‘العربية’ طاعونا يتنصّل منه! ثم ما سرّ بوصلة هذه الزيارات المكوكية لمسؤولي الإدارة الأمريكية يستهلّونها بعواصم ‘الربيع’ لتنتهي مخرجاتها عند آخر محطاتها : الكيان الصهيوني،أين يكررون لازمة التزامهم الثابت ب’أمن إسرائيل المقدّس’؟ ماذا تعادل قيمة الدعم الأمريكي لمؤسستنا العسكرية مقابل ما يحظى به حليفها الأساسي بالمنطقة، هذا الذي يحصل على 3 مليارات دولار كمساعدة عسكرية، فضلا عن توقيع أوباما لقانون يسمح له بالحصول على مزيد من الاسلحة والذخيرة الأمريكية؟

 

من لم يقنعه القول بعد، فليطرق السمع لقائد القوات البرّية الأمريكية لمكافحة الإرهاب في أفريقيا ـ أفريكوم ـ الجنرال ديفيد هوغ، وهو يقول: ‘نحن لا نعتزم استنساخ الجيش الأمريكي في كامل دول أفريقيا ولسنا هناك لنربح حروب الأفارقة ولا لفض نزاعاتهم’.

 

بقلم نبيل نايلي (باحث في الفكر الإستراتيجي في جامعة باريس)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.