العنف ينخر الحياة السياسية في تونس

رغم توفر حماية خمسة أنفار من أصحاب العضلات المفتولة، لم يتمكن النائب بالمجلس التأسيسي ابراهيم القصاص من تجنب اعتداء تعرض له يوم الأحد الماضي خلال اعتزامه تنظيم اجتماع عام بمدينة قليبية الساحلية…



العنف ينخر الحياة السياسية في تونس

 

رغم توفر حماية خمسة أنفار من أصحاب العضلات المفتولة، لم يتمكن النائب بالمجلس التأسيسي ابراهيم القصاص من تجنب اعتداء تعرض له يوم الأحد الماضي خلال اعتزامه تنظيم اجتماع عام بمدينة قليبية الساحلية.

 

القصاص الذي انضم حديثا الى حزب حركة نداء تونس اضطر في آخر المطاف، الى الانسحاب من المواجهة نظرا لعدم تكافؤ موازين القوى. بينما عقّب وزير الداخلية علي العريض على تلك الحادثة قائلا إن الأشخاص الذين عنّفوا النائب بالتأسيسي يتبعون جماعة لجان "حماية الثورة".

 

"حماية الثورة" التي لم يشارك في أطوارها سوى فئات قليلة من المجتمع هم في الغالب محسوبين على النقابات العمالية وأبناء الحركة الطلابية والمعطلين عن العمل، أصبحت مطية لأنصار حركة النهضة لاستهداف الخصوم السياسيين بدعوى وقوفهم في صف الثورة المضادة.

 

في الحقيقة، لا بد من التوقف لوهلة للحديث عن أهداف ثورة كان يبغي صانعوها الاطاحة بنظام سياسي جثم على صدورهم طيلة نصف قرن.

 

ثوار تونس الذين تجرؤوا على مواجهة آلة القمع في مختلف أشكالها طمحوا الى الغاء جميع أشكال الاستغلال والتفقير الذي تعرضوا اليه خلال العشريات الماضية. وعملية الالغاء تلك تستوجب حتما تسطير سياسة متكاملة لوضع الأركان القانونية والهياكل المؤسساتية لمنظومة العدالة الانتقالية. وتمر وجوبا عبر قطع نهائي مع نموذج الحكم التسلطي السابق، بما يستوجب الأمر من ضرورة ازاحة جميع الرموز التي ساهمت بطريقة مباشرة أو بالتواطؤ، في ديمومة ذلك النظام.

 

الحكومة الحالية التي احتكرت بمفردها تسيير أمور البلاد بدعوى حوزها على أغلبية المصوتين في انتخابات المجلس التأسيسي انتهى بها الأمر إلى اغفال تنفيذ استحقاقات تحقيق أهداف تلك الثورة. فرغم مرور قرابة السنة على تكوينها، يبدو أنها تراجعت عن انجاز ما عُهد اليها من أمانة، وتحول مرمى اهتمامها إلى توفير العوامل الكفيلة بانتصارها في الانتخابات القادمة.

 

ذلك أنها لم تسن إلى حد الآن هيئة تُعنى بملفات العدالة الانتقالية لمحاسبة الأفراد والأطراف التي أخطأت في حق التونسيين. وأنشأت في الأثناء، وزارة العدالة الانتقالية بغرض بسط السيطرة على هذه القضية الحيوية، والتلاعب بفحواها وحيثياتها وفق مزاجها السياسي الذي يخضع الى معياريْ الولاء والمناصرة. فكلما اقترب الشخص المعني بالمحاسبة إلى قلوب قياديي النهضة الا وازدادت حظوظ تناسي خطيئته، وتعاظمت فرص العفو عن ماضيه.  

 

كما ظل أسلوب الحكم الذي من خلاله سُيرت البلاد هو ذاته، ولم يختلف إلا في جزئيات قليلة. ولعل العنف السياسي الممارس منذ مدة طويلة إحدى أبرز علاماته. 

 

ففي السابق، كان أفراد الشرطة السياسية هم الذين يمارسون العنف بشتى أشكاله تجاه الخصوم السياسين للحزب الحاكم السابق. فهم الذين يمنعون الاجتماعات العامة للأحزاب الديمقراطية والمنظمات الحقوقية، وهم الذين يراقبون تحركات النشطاء الحقوقيين، وهم الذين يمنعون سفر المعارضين، وهم الذين يتجسسون على هواتف ومراسلات البريد العادية والالكترونية للناس، وغيرها من الممارسات التي تلبس أداء حكومة مستبدة بامتياز.  

 

لجان "حماية الثورة" التي لا يُخفي قطاع واسع من أعضائها انتمائه الى حزب النهضة الحاكم،  أسقطت من أجندتها على ما يُستنتج من نشاطاتها من رغبة في حماية ثورة هي منهم براء، وتحول مركز اهتمامها الى متابعة أنشطة أحزاب معارضة للحكومة.

 

فأضحت تلك اللجان تقوم بنفس الدور الذي كان يلعبه البوليس السياسي سابقا. فبدعوى مقاومة عودة أنصار حزب التجمع الى ممارسة الحياة السياسية، طغت مظاهر البلطجة والفتوة على المشهد السياسي الذي تحول الى "رحبة" صراع يتناطح فيها أصلبهم بنية جسدية.

 

وعوض أن تتحول تونس الى مختبر فكري تُنَاقش فيه البرامج والأفكار، أضحت البلاد مرتعا للتطاحن العنيف من جانب أطراف تزعم احتكارها القدسي "لتحقيق أهداف الثورة" وتنزع عن مخالفيها انجاز تلك الأهداف.

 

لا شك أن تدخل وزارة الداخلية من أجل حلّ المليشيات السياسية، وردع أفرادها عن ممارسة العنف تجاه أي كان، هو خطوة لا مفر من تطبيقها بغاية تنقية المناخ السياسي المكهرب حاليا، وبهدف قشع الرهبة والتوجس اللتين انتشرتا لدى قطاع واسع من التونسيين الذين بدأوا ينفرون من الشأن السياسي.

 

فنضج الحياة السياسية لن يستقيم ما دام ساحة معركتها يُسيطر عليه أصحاب البنيات الجسدية القوية، وما على أجهزة الدولة إلا التدخل لحماية الأمن العام، وإلا ستضمحل مدنية الدولة التونسية بشكل لا رجعة فيه.

 

سفيان الشورابي (صحفي)

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.