ما هكذا تُدْفع تهمة العار يا أهل الأخبار !

رغم أنّ الحشو واللّغو والحذلقة من الأمور المذمومة بإطلاق، فإنّ البعض من مذيعي ومذيعات القناتين الأولى والثانية يصرّ إصرارا غريبا على اللغو والحشو وسوق كلام في غير موضعه لملء الفراغ وتزجية الوقت. في هذا الإطار كتبتُ، مرّة، عن مذيع أحد البرامج الحواريّة الإخباريّة على القناة الوطنيّة الأولى. وعبت عليه استشهاده بآية قرآنيّة كريمة في غير موضعها في خاتمة برنامج عن حوادث العنف التي اندلعت في محيط السفارة الأمريكيّة …



ما هكذا تُدْفع تهمة العار يا أهل الأخبار !

 

رغم أنّ الحشو واللّغو والحذلقة من الأمور المذمومة بإطلاق، فإنّ البعض من مذيعي ومذيعات القناتين الأولى والثانية يصرّ إصرارا غريبا على اللغو والحشو وسوق كلام في غير موضعه لملء الفراغ وتزجية الوقت. في هذا الإطار كتبتُ، مرّة، عن مذيع أحد البرامج الحواريّة الإخباريّة على القناة الوطنيّة الأولى. وعبت عليه استشهاده بآية قرآنيّة كريمة في غير موضعها في خاتمة برنامج عن حوادث العنف التي اندلعت في محيط السفارة الأمريكيّة وفي ساحتها – وهي الحوادث المترتّبة على بثّ الفيلم المسيء إلى الرسول الكريم وانتهت بعدد من القتلى والجرحى. وكانت خلاصة الورقة أنّ دفْع تهمة "العار " التي يوصم بها الإعلام عامّة والعموميّ على وجه خاصّ من قبل فئة من مناصري الحكومة المؤقّتة لا يكون باستبداله بعار جديد. ودعوت المذيعين والمحاورين ناصحا إلى تجنّب مناداة رموز الأحزاب السياسيّة بألقاب من قبيل "الشيخ " ، ولكنّهم وعوا النصيحة مقلوبة، فقالوا نكاية فينا "سيدي الشيخ" مرّة واحدة . ثمّ، مضت قناتنا الوطنيّة في سياسة الارتجال والعبث فاستدعت لنا "إماما خطيبا" ليتلو على مسامعنا في نشرة إخبارية (نعم!!) حكم الشرع في الاعتصامات والاحتجاجات الشعبيّة التي تصل حدّ قطع الطريق. وأبلغتنا النشرة – شكر اللّه سعيها يوم النشر – أنّ حكم تلك "النوازل" يضبطه حدّ الحِرابة عليهم جميعا أو نفيهم وتغريبهم في الأرض .

 

ويستمرّ مسار التراجع والانحدار. منذ أيّام، وتحديدا يوم 7 – 11- 2012، بثّت القناة الوطنية الثانية برنامجا بعنوان "حدث في مثل هذا اليوم". واجتهد معدّ البرنامج فذكّرنا بأهمّ الأحداث التي حصلت يوم (7 نوفمبر) بما في ذلك انطلاق تسويق سيّارة من ذوات الحصانيْن (*)  سنة 1949 إلى جانب أحداث أخرى حدثت في أقصى الأرض. على أنّ حضرته لم يجد من المهمّ ولا من الوجيه التذكير بقاصمة من القواصم الكبرى حدثت في هذه البلاد، وهي انقلاب السابع من نوفمبر 1987، وما ترتّب عليه من ديكتاتوريّة عمّرت قرابة ربع قرن من حياة التونسيّين .

 

لا أعتقد أنّ هذا اليوم سقط سهوا من ذاكرة المعدّ إلاّ لتدخّل تحريري أخرق يتصوّر أنّ التذكير بانقلاب 7 نوفمبر 1987 أمرٌ تعافه نفوس التونسيّين بعد 14 جانفي 2011 أو إنّه مجاف للتاريخ المتخيّل الذي يريده حكّام تونس الجدد أو غير ذلك من الاعتبارات الخرقاء التي تقدّم المواقف السياسيّة والمشاعر الشخصيّة على الحقّ في المعلومة وسائر المقتضيات المهنيّة .

ثالثة الأثافي حدثت يوم الأحد 11 نوفمبر 2012 الجاري. قدّمت القناة الوطنيّة الأولى "خبرا" عجيبا عن اجتماع حركة "نداء تونس" صباح ذلك اليوم في نزل بإحدى ضواحي العاصمة. كانت الصور من الاجتماع فيما الخبر يتحدّث عن "حضور أمني مكثف وسط احتجاجات ضدّ رمـوز التّـجمّـع المنـحلّ تقـودها تمثيليـّة عن رابطات حمايـة الثـورة فروع المنيهلة ودوّار هيشر والتضامن .." وتتواصل المشاهد من داخل الاجتماع فيما المذيعة تقول إنّ المحتجّين صرّحوا أنّ "الـغاية من هـذا التّـظاهر هـو التـّـشهير بأزلام النـظام السـّابق، وقـطع الطريق أمـامهم للعـودة من باب "نداء تونس ".. "

 

جرت القاعدة أن يكون الخبر أوّلا، ثمّ تداعياته ثانيا، على أنّ أخبار "الوطنيّة" لم تعترف بهذه القاعدة. لم يعرف المواطن البسيط الذي يتابع أخبار قناته العموميّة ما يكون هذا الحزب، ومن مؤسّسوه ومتى تأسّس، ومن أخذ الكلمة في الاجتماع وماذا قيل؟ ولم يتابع المشاهد لقاءات مع بعض المشاركين، ولم يتعرّف على الأشخاص المقصودين بالرموز التجمّعية أو أزلام النظام السابق في الاجتماع إلخ. أمّا الصورة اليتيمة عن المحتجّين فأظهرت أنفارا قليلين في حدود العشرة (ولكنّهم جاؤوا من المنيهلة ودوّار هيشر والتضامن برواية القناة الوطنيّة  !! ).

تداعيات هذه الفضيحة الإخباريّة واجهتها اعتذارات يمكن أن تكون أقبح من الذنب الأصليّ. سبب المهزلة – حسب من أمكن سماعهم من قسم الأخبار – يعود إلى شحّ في الطاقم الصحفي العامل يومها مع ضيق الوقت ممّا اضطرّ إلى الاعتماد على تقرير "وكالة تونس إفريقيا للأنباء"،  التقرير الذي صِيغ من زاوية واحدة حسب تعبير أحدهم. وظهر من يقول في السياق نفسه، إنّ ما حصل يعود إلى خطإ غير مقصود، وأنّ ذلك ناتج عن نقص الخبرة والحرفيّة (لم يعتذر أحد بضعف التكوين ونقص الموهبة أصلا  ! ).

وبالعودة إلى التقرير المقصود في تقارير "وكالة تونس إفريقيا للأنباء " يتبيّن أنّ الوكالة قد قامت بعملها، وغطّت الاجتماع المشار إليه من داخل قاعة الاجتماع ومن خارجها حيث يقف بعض المحتجّين .

 

لم يبق إلاّ الاعتذار بظروف العمل يوم الأحد ( !!) والتأخّر في وصول الصور وإعداد التقرير المناسب. وهذه من المضحكات المبكيات. اجتماع وقع الإعلام بموعده ومكانه منذ أسبوع، وكان حديث الشارع نظرا للظروف التي حفّت بإلإعلان عنه. ثمّ لا تستعدّ التلفزة الوطنيّة بالطاقم الكافي والتجهيزات المناسبة لتغطية الاجتماع ورصد انطباعات المشاركين فيه وردود أفعال المحتجّين على انعقاده، وإعداد تقرير عن جميع ذلك يكون مدقّقا ومُراجَعا من صحفيّي النشرة ورئيسها، كلّ حسب مسؤوليّته..إلخ .

في بريطانيا، يستقيل المدير العامّ التنفيذي لهيـئة الإذاعـة البـريطانيّـة يـوم 10 نـوفمبـر 2012 مـن منصـبه بسبب ما نسبه صحفيّ استقصائيّ يعمل في برنامج " نيـوز نـايت" الإخبـاري إلى أحد السياسيّين من اتّهام بالتورّط في قضايا جنسيّة دون أن تكون لديه الأدلّة الكافية. هذا الأمر الذي اعتُـبٍـر خـطأ تحـريريّـا يستوجب استقالة المدير العام حفـاظا على ثقـة الجمـهور في مـؤسـسّتـه العموميّة التي يمـوّلـها دافعو الضرائب . أمّا عندنا في تونس، فمازلنا نعتذر بالطقس ويوم الأحد، وموش مشكلة.. وعفا اللّه عمّا سلف، وعند ربّي خير، وهكذا دواليك

 

بقلم: مختار الخلفاوي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.