أفكار حول التنظيم الديمقراطي للصحافة التونسية

لا يزال النقاش حول تنظيم قطاع الصحافة في تونس خاضعا إلى ثنائية القانون والمواثيق الأخلاقية. فمن جهة أولى يدافع البعض على ضرورة أن تخضع الممارسة الصحفية لقانون ينظمها يسنّه البرلمان. ومن جهة أخرى يتمسّك البعض الآخر بالمواثيق الإعلامية باعتبارها الآلية الأساسية (أو الوحيدة) لتنظيم علاقة الصحفي بالجمهور وبالمجتمع عموما…



أفكار حول التنظيم الديمقراطي للصحافة التونسية

 

لا يزال النقاش حول تنظيم قطاع الصحافة في تونس خاضعا إلى ثنائية القانون والمواثيق الأخلاقية. فمن جهة أولى يدافع البعض على ضرورة أن تخضع الممارسة الصحفية لقانون ينظمها يسنّه البرلمان. ومن جهة أخرى يتمسّك البعض الآخر بالمواثيق الإعلامية باعتبارها الآلية الأساسية (أو الوحيدة) لتنظيم علاقة الصحفي بالجمهور وبالمجتمع عموما.

 

هكذا ينحصر النقاش حول تنظيم قطاع الصحافة في حدود هاتين المقاربتين: المقاربة القانونية الخارجية والفوقية التي تفرض على الصحفيين عقوبات تهدّد حسب البعض الحريّات الصحفية ومقاربة أخرى مختلفة جذريا عن الأولى لا تؤمن إلاّ بالتنظيم الذاتي في أشكاله القصوى وغير المؤسّساتية عبر الالتزام الطوعي والعفوي بالميثاق الأخلاقي دون الإشارة إلى اليات عمليّة مساءلة الصحفيين أو المؤسسات الإعلامية التي لا تحترم هذه المواثيق الأخلاقية.

 

والواقع أن التجارب العالمية في مجال التنظيم الديمقراطي للصحافة والإعلام تخبرنا عن أشكال مختلفة من التنظيم متحرّرة من هذه الثنائية لأنها توازن، وفق أشكال متعدّدة ووفق البيئة الوطنية الخاصّة بكل مجتمع، بين مطلبين. أولا : 

مقتضيات حرية الصحفيين وضماناتها واحترام حقّ الصحفيين والمؤسسات الإعلامية بشكل عام في التنظيم الذاتي لمهنتهم.  وثانيا  مقتضيات مسؤولية الصحفيين المجتمعية أي قبولهم الطوعي بمبدإ المساءلة والأخذ بعين الاعتبار حقّ المواطنين في حماية أنفسهم من الإعلام عندما يتحوّل إلى سلطة غير ديمقراطية وغير شفافة تتلاعب بتمثيل الواقع وبالنقاش العام والحياة الشخصية للأفراد من جهة ثانية. وعلى هذا النحو فإن مساءلة الصحافة التي يضع الياتها الصحفيون بأنفسهم تجعل من الإعلام موردا أساسيا للديمقراطية بما أنها نظام تقوم فيها الشرعية، إضافة إلى الآليات الانتخابية، على النقاش العام الذي يتحمّل الصحفيون إدارته في إطار المجال العمومي.

 

وفي هذا الاتجاه تظلّ أشكال التنظيم الذاتي الديمقراطي مثل مجالس الصحافة والوسيط أو الموفّق (médiateur/ ombudsman ) غائبة بالكامل عن النقاش بالرغم من أنها تمثّل الآليات التنظيمية الأكثر انتشارا في المجتمعات الديمقراطية.

 

وفي هذا الإطار فإن التعريف بآلية مجلس الصحافة والوساطة أو التوفيق والآليات التي تفترضها لتنظيم علاقة الصحافة بالمجتمع قد تساهم في إثراء النقاش من خلال الكشف عن المعايير العالمية في هذا المجال التي لا يمكن أن نتجاهلها.

 

فهذه المعايير خلاصة تجارب متراكمة يمكن أن تتفاعل مع خصوصيات السياق التونسي لتشكّل مقاربة تنظيمية تونسية أصيلة وديمقراطية.

 

لا تتعلّق الإشكالية التنظيمية للصحافة إذن بالإطار التشريعي القانوني فحسب أو بآليات توفّر الضمانات الضرورية للصحفيين لممارسة مهنتهم وفق مبادئ الحرية، بل تتّصل هذه الإشكالية كذلك بمقاربة توازن بين مبدإ الضمانات التي يجب أن يتمتّع بها الصحفي التونسي من جهة أولى ومبدإ المسؤولية الذي يقتضي اليات عملية لمساءلة الممارسات الإعلامية والتي لا يجب أن تنحصر في الآليات القانونية القضائية. فالصحفي ليس فاعلا متحرّرا من السياقات المؤسّسية بل هو يمارس مهنته في إطار إكراهات مؤسّسية عديدة وضمن إستراتيجيات متنوعة ليست بريئة لأنها تقوم دائما على المصلحة، والتي تجعل من الإعلام مؤسسة غير فرديّة تحتاج إلى إطار ينظمها. وفي هذا الاتجاه فإن مجلس الصحافة والموفق أو الوسيط يمثلان اليتين أساسيتين لتفعيل المواثيق الأخلاقية وهما، إضافة إلى ذلك، الآليتان الأكثر انتشارا في المجتمعات الديمقراطية العريقة والناشئة.

 

مجلس الصحافة

 

انطلقت تجربة المجالس الصحفية عام 1916 في السويد التي شهدت ظهور أول مجلس للصحافة (the Court of Honour for the Press ). ثم انتشرت مجالس الصحافة في أوروبا وفي باقي دول العالم الديمقراطي باستثناء فرنسا.

 

ويعرّف اليونسكو مجلس الصحافة على أنه هيئة جماعية مستقلّة عن السلطة السياسية، مهمتها اتخاذ القرارات الخاصة بمعالجة شكاوى المواطنين ضد  المؤسّسات الإعلامية أو المتصلة بتجاوزات الصحفيين. ويقوم المجلس بدور هامّ في التوفيق بين الصحفيين والمؤسّسات الإعلامية من جهة والمواطنين من جهة أخرى. ومن مهامه أيضا رصد اتجاهات الرأي العام حول الصحافة والصحفيين في المجتمع ووضع معايير السلوك الأخلاقي للصحفيين واقتراح تعديلات لتطوير مواثيق أخلاقية. ويمثّل مجلس الصحافة الآلية التنظيمية التي تضمن للجمهور الحقّ في جودة الأخبار لأنها تشير إلى مسؤولية الصحفيين أمام المجتمع من خلال قبولهم الطوعي بالمساءلة عبر اليات مستقلة ومحايدة. تتمثل إذن مهمة مجلس الصحافة الأساسية في قبول شكاوى المواطنين والتأكد من أنها تندرج ضمن إطار ميثاق الشرف الصحفي.

 

ويقوم المجلس بدور الوسيط بين الشاكي من جهة أولى والمؤسّسة الإعلامية من جهة ثانية. ويتخذ المجلس قراراته بالاستناد إلى المبادئ التنظيمية والقانونية والأخلاقية ويأخذ بعين الاعتبار مبدأ الإنصاف. وإضافة إلى معالجة الشكاوى يرصد المجلس كل الانتهاكات التي تقوم بها المؤسّسات الإعلامية والصحفيون للمبادئ الأخلاقية كما يلتزم عمليا بالدفاع عن الصحفيين وعن حرية الصحافة ويضع المعايير المهنية للممارسة الصحفية.

 

ويقول وليام غور أحد أعضاء لجنة شكاوى الصحافة البريطانيّة، وهي من أهم نماذج مجالس الصحافة في العالم، أن المواثيق الأخلاقية لا يمكن أن تمثل الركيزة الوحيدة لإطار صلب لتنظيم الذاتي الصحافة. فالتطبيق الفعلي لهذه المواثيق الأخلاقية يفترض وجود هيئة قادرة على مراقبة تطبيقها ومساءلة وسائط الإعلام التي لا تحترمها. كما يبرهن وجود مجلس الصحافة على أن تدخل الدولة غير ضروري وأن الصحفيين مسؤولون وخاضعون تلقائيا وبأنفسهم ودونما إكراه إلى المساءلة.

 

وتمثل مجالس الصحافة آلية من آليات ما أطلق عليه الباحث الأمريكي بارتراند نظام مساءلة الإعلام media accountability system (MAS ). فهو وسيلة غير حكومية لتشجيع المؤسّسات الإعلامية والصحفيين على احترام القواعد الأخلاقية التي وضعتها المهنة. ويرى بارتراند أن مجلس الصحافة هو التجسيد الأمثل لنظام مساءلة الإعلام . ويشير إلى أنه لا يوجد مجلس صحفي يشبه الآخر مما يؤشر إلى تفاعل هذا الشكل المؤسسي مع بيئته المجتمعية. أما التجسيد الأمثل لمفهوم مجلس الصحافة فيتمثل في إحداث هيئة مستقلّة ثلاثية الأطراف تجمع الصحفيين والناشرين وممثلين عن الجمهور أي بتعبير آخر من «يمتلك وسائل الإعلام ومن يخبر الجمهور ومن يمتلك الحق في المعلومات». ولأن مجلس الصحافة لا يمتلك قوة فعلية على إرغام أي طرف على تطبيق قرار ما فهو يستوجب التعاون بين كل هذه الأطراف. وبشكل عام فإن المبدأ الناظم لمجلس الصحافة هو أنه لا يمكن لفرد ما أن يفعل ما يشاء بمؤسسة إعلامية لأنه يمتلكها.

 

وتعتبر رابطة إتحاد مجالس الصحافة المستقلة في أوروبا أن لمجلس الصحافة دورين أساسيين : إدارة تطبيق ميثاق الشرف ومعالجة شكاوى المواطنين. ومجالس الصحافة من هذا المنظور معنيّة بالدفاع عن المواطنين والصحفيين في آن واحد. وهي تستند إلى المواثيق الأخلاقية التي تتجاوز القواعد القانونية. كما تعكس مجالس الصحافة المسؤولية المؤسّسية للأطراف الفاعلين في قطاع الإعلام.

ويؤكّد اليونسكو على ضرورة تبيئة مجلس الصحافة من خلال تفعيل مبدإ التنظيم الذاتي في إطار سياق مؤسّسي وسياسي مخصوص.

 

فبالرغم من وجود مجلس الصحافة في العديد من الدول الديمقراطية فإنه لا يوجد نموذج واحد ينظّم عملها. وفي هذا الإطار لا يحدّد اليونسكو التركيبة المثالية لمجلس الصحافة ويعتبر أن ذلك مرتبطا بتقاليد المجتمع الديمقراطية وبمدى تطور قطاع الإعلام. وفي هذا الإطار  فإن الحل الأمثل يتمثل، حسب اليونسكو، في إنشاء مجلس وطني للصحافة مستقلّ وذي سلطات فعليّة ممثلا لكل الفاعلين تديره هيئة مستقلة ومسؤولة بشكل كامل على  التنظيم الإداري والمالي للمجلس.

 

وبشكل عام فإن مجالس الصحافة تتركب من الصحفيين والناشرين وأصحاب المؤسسات الإعلامية والمواطنين إضافة إلى ممثلين عن الجمعيات المهنية. وتستثني بعض المجالس أصحاب المؤسّسات الإعلامية. ويتكوّن المجلس كذلك من لجان متعدّدة ومنها خاصّة اللجنة التي تتلقى شكاوى المواطنين. ويصوغ المجلس القوانين التي تنظم عمله بشكل مستقل تماما عن الحكومة. ويتخذ المجلس قراراته  بعد مداولة عامة تجمع الصحفيين والجمهور بالاستناد إلى المرجعيات التشريعية والأخلاقية.

 

ويؤكد اليونسكو على أن مجلس الصحافة يعزز من مصداقية الصحافة خاصّة في الديمقراطيات الناشئة من خلال التأكيد على أن حرية الصحافة لا تعني غياب المسؤولية. وفي هذا الإطار  يواجه إنشاء مجالس الصحافة في الديمقراطيات الناشئة بصعوبات عديدة ومنها ضعف تقاليد التنظيم الذاتي والانقسامات السياسية التي تساهم في تشظي مجتمع الصحفيين إلى جماعات متنافرة ومحدودية السوق الإعلامية وإمكانية خضوع بعض المؤسسات الإعلامية إلى سلطة الأحزاب عبر التمويل غير المباشر وتحالف النخب السياسية والاقتصادية للهيمنة على المجال الإعلامي مما يؤثر على استقلالية الصحفيين. وتشير اليونسكو في هذا الإطار إلى نموذج بلغاريا التي ظهرت فيها من 1990 إلى 2002  أكثر من سبعة مواثيق أخلاقية دون أن تكون مصحوبة بآليات عمليّة وتنظيمية لتنفيذها.

 

وفي عام 2004 اتفقت كل الأطراف على ميثاق أخلاقيات ينظم الإعلام البلغاري وقعت عليه كل الأطراف وبعد ثمانية أشهر تم تجسيد هذا الميثاق في إطار المجلس الوطني للأخلاقيات الصحفية. ومن جهة تمويل مجلس الصحافة يؤكد اليونسكو على ضرورة تنويع المصادر لضمان الاستقلالية على أن يبقى القطاع الإعلامي المموّل الأساسي لهذا المجلس من خلال المؤسسات الإعلامية والصحفيين. وفي بعض حالات الانتقال الديمقراطي لعبت بعض المنظمات الدولية دورا هامّا في تمويل هذه المجالس (بلغاريا والبوسنة والهرسك).

 

ويمكن أيضا أن تساهم الدولة بواسطة المؤسّسات الإعلامية العمومية التي تشارك في التمويل حسب حجمها ونشاطها. وبشكل عام يجب أن يكون التمويل شفافا من خلال تيسير معرفة الجمهور بمصادر التمويل من خلال نشر التقرير السنوي الذي يتضمن كل المعطيات حول التمويل ومساهمات المؤسّسات الإعلامية. ويمكن للمجلس أن يضمن مصادر تمويل عديد، إضافة إلى مساهمات المؤسّسات الإعلامية المنخرطة فيه والتي تقبل بتنفيذ قراراته، كالمنشورات وبنوك المعلومات حول قطاع الصحافة.

 

ومن التجارب الهامّة التي يمكن أن نشير إليها مجلس ولاية واشنطن للإخبار الذي يعرّف نفسه على أنه مؤسّسة مستقلة وغير ربحية تشكل موفقا خارجيا، فحسب هذا المجلس فإن مسؤوليات جسيمة تترتّب عن الفصل الأول من الدستور الأمريكي. فبالقدر الذي تقوم فيه وسائط الإعلام بإخضاع مؤسّسات المجتمع إلى المساءلة فإنها هي كذلك يجب أن تقبل بمبدإ الخضوع إلى المساءلة من طرف المجتمع.  أما مجلس ولاية مينوساتا الأمريكية فهو «منتدى عمومي لنقاش القضايا المتصلة بالصحافة يجمع  المهنيين والجمهور ليتعلموا من بعضهم البعض». وتتمثل اليات فضّ الشكاوى على الاعتذار والتصحيح والتراجع أو دعوة الصحفي لكتابة مقال جديد يأخذ بعين الاعتبار وجهة نظر الشاكي كما يمكن للمجلس أن يرسل رسالة إلى الناشر أو إلى الصحفي  لتبليغه وجهة نظر القارئ الشاكي.

 

تتفاعل مؤسّسة مجلس الصحافة مع خصوصيات كل دولة. ففي بلجيكا  نجد مجلسين الأول  خاص  بمقاطعة الفلاندر والثاني خاصّ بالمقاطعات الفرنكفونية والألمانية.  ومن الناحية القانونية  يعتبر المجلسان هيئة غير حكومية ومستقلة مهمتها الإجابة على تساؤلات الجمهور ومعالجة الشكاوى التي يتقدم بها المواطنون وتقديم خدمة مجانية للجمهور لإصلاح الأخطاء التي يقوم بها الصحفيون ويسهر على تطبيق القواعد المهنية. ويشمل عمل المجلس في مقاطعة الفلاندر الممارسات الصحفية للصحافة المكتوبة والإذاعية والتلفزيونية ويموّله الناشرون وإتحاد الصحفيين والمؤسسات الإعلامية إضافة إلى مساعدات حكومية. ويتكوّن المجلس من أعضاء يمثلون الصحفيين والمؤسسات الإعلامية  إضافة إلى شخصيات لا ينتمون لمجال الإعلام. ويقوم الكاتب العام للمجلس بدور الوسيط الذي يعالج شكاوي المواطنين من خلال الآليات الودية أولا ولجنة الشكاوي ثانيا. وفي بلجيكا الفرنكوفونية والألمانية يقوم «مجلس أخلاقيات الصحافة» بمعالجة الشكاوي ونفاذ الجمهور إلى كل ما يتعلّق بنشاطه ليعمل في إطار الشفافية. ولا تنحصر وظيفة المجلس في إصدار الأحكام المعنوية (وليس القانونية أو المالية) بل يقوم أيضا بدور الوساطة (نصف القضايا تحلّ عبر الوساطة) من خلال آليات عديدة:

 

تصحيح خبر أو سحب خبر من موقع وإعطاء حق الرد.  وفي إطار الاستشارات التي ينشرها تعرض المجلس إلى إشكالية تطبيق أخلاقيات المهنة على الشبكات الاجتماعية. وجاء في استشارة المجلس أن الصحفيين عندما يكتبون في صفحاتهم على الفايسبوك أو في المدونات لغايات إخبارية فإن من واجبهم الالتزام بأخلاقيات المهنة الصحفية.

 

وبدأت تجربة تنظيم الصحافة في الهند عام 1954 وفي عام 1966 تأسّست هيئة مستقلة وشبه قضائية تعمل على الدفاع عن استقلالية الصحافة وتم إصلاح الهيئة عام 1979. ويتكون المجلس الحالي من من رئيس و28 عضو صحفيين وأصحاب مؤسّسات إعلامية وناشرون وشخصيات اعتبارية من المجال الثقافي وأعضاء من البرلمان. وللمجلس سلطات وآليات عقابية عديدة منها التنبيه والتحذير وحتى المنع. وأصدر المجلس مدونة سلوك تحدد مجموعة من المعايير الصحفية.

 

الوسيط أو الموفق الإعلامي press ombudsman / médiateur  

 

استحدثت هذه الوظيفة في المؤسّسات الإعلامية منذ بداية القرن العشرين. والموفق الصحفي وسيط بين الجمهور وهيئة التحرير يتلقّى شكاوى وملاحظات الجمهور ويطرحها على الصحفيين ويتابع ردود الصحفيين عليها. ومن أهم التجارب العالمية في هذا المجالس صحيفة لوموند الفرنسية والغارديان البريطانية وبوليتكان الدنماركيّة. وللموفقين الصحفيين أو الوسطاء جمعية عالمية تعرف بوظيفتهم وتروج لها (Ono : ombudsmen news organizations ). وتجمع هذه المنظمة موفقين من كل دول العالم (أستراليا والبرازيل والهند وتركيا الولايات المتحدة…)، باستثناء الدول العربية مما يؤكّد ضعف آليات  التنظيم الذاتي المساءلة والشفافية لدى المؤسسات الإعلامية العربية.

 

وتعتبر «جمعية الموفقين الإعلاميين» أن من خصوصيات عمل الموفّق أنه يقترح حلولا مناسبة لتوضيح الأخبار وتصحيحيها لصالح الجمهور. ويساهم الموفق في تعزيز جودة المعلومات من جهة دقتها وإنصافها وتوازنها. ويساعد الموفّق المؤسّسة الإعلامية التي يعمل فيها لتكون أكثر انفتاحا على الجمهور كما أنه يعزز إمكانات مسائلتها. ويساهم الموفق الإعلامي في تدعيم معرفة الصحفيين باهتمامات الجمهور. ومن جهة أخرى فإن الموفق يساهم في حلّ بعض الشكاوي التي يمكن أن تتطوّر إلى قضايا شائكة يصعب حلّها ويطول زمن معالجتها قضائيا. ويقوم الموفق بمراقبة المضامين الإخبارية من جهة مطابقتها لمعايير الدقة والتوازن والإنصاف. كما يحقّق في شكاوي الجمهور ويحصل على تفسيرات حول الأخبار لصالح الجمهور. ويدير بعض الموفقين نشرات موجهة للصحفيين. ويكتب البعض الآخر في صحيفته حول القضايا التي تهم القراء بشكل عام ويتناولون إشكالات مرتبطة بالمعالجة الإخبارية. وأطلق بعض الموفقين الوسطاء منتديات تجمع الصحفيين بالجمهور لتوثيق الصلة بينهما. ويتم اختيار الموفق عادة من كبار الصحفيين سنا ذوي الخبرة المهنية الكبيرة الذين يحضون بالاحترام والتقدير، لأنهم يدافعون عن وجهة نظر القراء من داخل الصحيفة أو المؤسسة الإعلامية.

 

ومن الموفقين الأكثر شهرة في العالم  الأمريكي مايكيل جاتلر13  الذي أشتغل صحفيا في  الواشنطن بوسط لمدة 26 سنة ثم تحمّل مسؤوليات الموفق الإخباري في الصحيفة ذاتها. وانتقل عام 2005  إلى قطاع التلفزيون العمومي. ويعرّف مايكل جاتلر وظيفته بأنه ناقد داخلي للمؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها ومستقل عنها في أن واحد. ويعتبر أن مهمته تتمثل في تبليغ ونقل ملاحظاته وشكاوي الجمهور ليتأكد أن القطاع التلفزيوني يحترم قواعد النزاهة التي فرضها على نفسه. وعلى هذا النحو فإن إن اختزال التجربة الأمريكية في الفصل الأول من الدستور هو تبسيط شديد لهذه التجربة متعددة الأبعاد والآليات.

 

تجربة جنوب إفريقيا

 

تتسم تجربة جنوب إفريقية بعدة سمات تجعل منها تجربة فريدة جديرة بالتحليل والاهتمام. فالإطار التنظيمي للصحافة المكتوبة يتسم بتفاعل آليات عديدة : أولا تأكيد الدستور على حرية  التعبير باعتبارها حرية أساسية ترتبط بها حرية الصحافة وثانيا  مدوّنة صحفية التزمت بها المؤسّسات الإعلامية بشكل تلقائي ودون إكراه تشريعي وثالثا مجلس للصحافة  يتضمن آليتين : موفق إعلامي خارجي يعمل على حل  النزاعات بين  الجمهور والصحفيين  بشكل ودّي  ولجنة للطعون والاستئناف تعالج القضايا التي لم تحل بالطرق الودية. 

 

ويستند مجلس الصحافة في جنوب إفريقيا إلى مدونة صحفية ذات فلسفة تحررية. وتنظم هذه المدونة العمل الصحفي بل تتناول مسائل دقيقة من العمل الإعلامي. وتستند مدونة الصحافة على الفصل 16 من الدستور الذي يقر حرية التعبير وحرية الصحافة. وساهمت 700 مؤسسة إعلامية في صياغة مدونة الصحافة اعتمدتها  دون أي ضغط أو تدخل من الحكومة أو من جهة مؤسّسية أخرى. انفتح المجلس عام 2007 على أعضاء من الجمهور بعد النقد التي تعرّض إليه.

 

ويلتزم الموفق الصحفي و هيئة الطعون والاستئناف التي تنظر في الشكاوي والنزاعات بين المواطنين والصحفيين بمدونة الصحافة باعتبارها المرجعية العليا للقطاع. ومن أهداف المجلس تعزيز الدفاع عن حرية التعبير ومنها حرية الصحافة ودعم التميّز المهني في الممارسة الصحفية والأخلاقية وتطوير آلية التنظيم الذاتي. ويتكوّن المجلس من عدة جمعيات (ناشرون، صحفيون، مؤسسات إعلامية….). 

 

والمجلس مظلّة تجمع تحتها آليتين : الموفق الصحفي من جهة أولى ولجنة الطعون والاستئناف.  ويتكوّن مجلس الصحافة من هيئة  تضم صحفيين وممثلين عن الجمهور بالتساوي ومن هيئة ذات صلاحيات أخذ القرارات وهي الموفق الصحفي ولجنة الطعون والاستئناف التي تتكوّن بدورها من ممثلين من الجمهور والقطاع الصحفي ويرأسها قاض متقاعد. وعندما يتقدم شخص ما بشكوى ما ضد صحيفة ما أو ضد مجلة يعمل الموفق في مرحلة أولى على البحث عن حلّ وفاقي بين الطرفين. وفي حالة فشل الحل الوفاقي الودّي، ينشأ الموفق الصحفي لجنة استماع تتكون من الموفق الصحفي ومن عضوين من لجنة الطعون يمثلان قطاع الصحافة والجمهور. ويمكن للأطراف المتنازعة أن تطعن في القرار لدى هيئة الطعون من خلال لجنة أخرى يترأسّها قاض متقاعد تتخذ قرارا نهائيا.

 

التجربة الفرنسية الأسوأ في الدول الديمقراطية

 

تأسّست في فرنسا عام 2006 جمعية تعمل على إنشاء مجلس الصحافة association pour la préfiguration d’un conseil de presse . ففرنسا من الدول الديمقراطية القليلة التي لم  يظهر فيها مجلس صحافة وطني (كما هو الحال في بريطانيا والهند وألمانيا) أو مجالس جهوية (كما هو الحال في الولايات المتحدة وبلجيكا وكندا). وإلى الآن لم تفلح هذه الهيئة التي جمعت عدة أطراف (مهنيون، مؤسسات تكوين في الصحافة…) في إحداث هذا المجلس التي تريد هذه الجمعية أن تجعل منه آلية للوساطة بين الصحفيين والجمهور وفضاء لتنظيم النقاش العام حول الإعلام في المجتمع الفرنسي.

 

والواقع أن الصحفيين الفرنسيين يخوضون منذ قرن على الأقل في إمكانية إنشاء هيئة لتنظيم قطاع الصحافة  أي منذ 1898 عندما طرحت فكرة محكمة شرف للصحافة Tribunal d’honneur pour la presse ورغم هذه المحاولات ظلّت فرنسا  بلا هيئة تنظيمية للصحافة15، إذ ينحصر دور المجلس الأعلى السمعي البصري في التعامل مع المؤسسات السمعية-البصرية. ويعزو البعض غياب هذه الهيئة إلى تحالف الصحفيين وأصحاب المؤسسات الإعلامية وتخاذل الفرنسيين  الذين فقدوا الثقة في صحافتهم كما تبين ذلك استطلاعات الرأي السنوية الذي تنظمها صحيفة لاكروا. في حين يرى بعض الصحفيين أن ثقافة المساءلة غائبة عند المهنيين الفرنسيين بسبب الأصول السياسية  للصحافة الفرنسية  التي تقوم هويتها على التعبير والرأي، على حساب الإخبار، بل هي في أحيانا كثيرة صحافة ذمّ (journalisme d’invective )  . وفي هذا الإطار اعتبر العديد من المهنيين  على غرار روبار مينارد أن مجلس الصحافة يمكن أن يعيد للصحافة الفرنسية هيبتها ومصداقيتها في سياق تعيش فيه الصحافة الفرنسية حالة من التردي وصفها ادويل بلانال، مدير تحرير صحيفة لوموند السابق ومؤسس موقع mediapart الإخباري)  بالتدهور الديمقراطي. وعلى هذا النحو فإن النموذج الفرنسي لا يصلح لأن يكون تجربة نهتدي بها أو نستلهم منها مبادئ التنظيم الديمقراطي الذاتي للصحافة التونسية لأنها بكل بساطة تجربة فاشلة باعتراف الصحفيين الفرنسيين.

 

مستويات التنظيم الذاتي الديمقراطي للصحافة التونسية

 

إن النظر في هذا التجارب المتنوعة  يدفعنا إذن إلى الإقرار بأن إشكالية التنظيم الديمقراطي للصحافة متعددة المستويات لا يمكن اختزالها أبدا في ثنائية القانون والأخلاقية أي بتعبير آخر في ثنائية الآلية العقابية التي يستخدمها القضاء لزجر الصحفيين ومعاقبتهم من جهة أولى والالتزام الذاتي للصحفيين بمدونة أخلاقية لا تمثل أداة فعّالة لمساءلتهم من جهة ثانية. وفي كلتا الحالين يفقد المجتمع والصحفيون فرصة ابتكار آلية توازن بين مقتضى حرية الصحافة وضماناتها والمسؤولية الاجتماعية للصحفيين وأشكال المساءلة التي تقتضيها. وفي هذا الإطار فإن التنظيم الذاتي والديمقراطي للصحافة يحيلنا إلى المستويات التالية:

 

ـ أولا : التنصيص الصريح للدستور الجديد على حرية التعبير وحرية الصحافة باعتبارها تجسيدا لهذه الحرية الأساسية للمجتمع الديمقراطي الأصيل الذي يقتضي كذلك ضمانات دستورية للحق في الاتصال والمعلومات. وفي المقابل فإن تعظيم حرية التعبير دستوريا لا يجب أن يؤدي إلى إهمال التشريع لحماية الأفراد والجماعات من الاعتداء على سمعتهم وأعراضهم وحياتهم الخاصّة بواسطة الثلب والتجريح والشتم في سياق تواصلي جديد أضحت فيه فضاءات الإنترنت والفايسبوك على وجه التحديد إلى فضاءات يستخدمها البعض المتخفي وراء الأسماء المستعارة والهويات للاعتداء الرمزي على الأفراد معتقدا أن الفضاء الافتراضي يحرّره من الضوابط الأخلاقية والقانونية.

 

وفي هذا الإطار فإن التشريعات المتصلة بحماية المساواة والتنوع الثقافي ومقاومة التمييز على أساس الجنس والعرق تمثل ضمانات ضرورية لحماية المجال العمومي التونسي الناشئ في سياق جديد نتعلّم فيه النقاش الديمقراطي.

 

ـ ثانيا : صياغة مدونة صحفية تشتمل على القواعد المهنية والأخلاقية الدقيقة التي يلتزم بها الصحفي. ويمكن إن تتكفل الأطراف الفاعلة في المهنة من صحفيين  ممثلين في نقابتهم ومؤسسات إعلامية بصياغة هذه المدونة. وفي هذا الإطار لا بد من الانتباه إلى السياق الجديد لمسألة أخلاقيات الصحافة التي تتجاوز الإطار الصحفي الضيّق في سياق يتسم بنهاية النموذج التقليدي للإعلام الذي كان يستأثر فيه الصحفي بفعل الكتابة والتعبير.

 

فهناك من المدونين التونسيين من ينشر بوتيرة يومية ويبدي رأيه في القضايا العامة ويعلق على ما يكتبه المئات من «القراء» يوميا.

 

ـ ثالثا: إحداث مجلس صحفي يستلهم مبادئه من الدستور ومن المدونة الأخلاقية ومن التجارب العالمية. ويمثل هذا المجلس آلية فعلية للدفاع عن حرية الصحافة وفضاء لتطوير معايير الممارسة الصحفية من جهة أولى وآلية وساطة بين الصحفيين والجمهور من جهة أخرى.

 

ـ  رابعا : تشجيع المؤسّسات الإعلامية المكتوبة والإذاعية والتلفزيونية والإلكترونية على إحداث وظيفة الموفق والوسيط التي يجب أن تصبحا معيارا يؤشّر على انفتاح لمؤسسة الإعلامية على الجمهور والتزامها بمبدإ المساءلة.

خامسا : يتحمّل المجتمع المدني والجمهور بشكل عام مسؤولية جسيمة في مراقبة الممارسات  الإعلامية. ويمكن لهذه المراقبة أن تتجسّد كما تبين ذلك التجربة الأوروبية في إطار جمعيات تدافع عن حقوق مستهلكي المضامين الإعلامية أو في إطار منتديات التربية على وسائط الإعلام التي تسهر على تكوين ثقافة نقدية للمضامين الإعلامية لدى المتلقي وخاصة  الفئات الناشئة.

 

وإذا أضفنا إلى هذه الآليات الدستورية المؤسسية والجمعياتية شبكة الجمعيات المهنية مثل نقابة الصحفيين وجمعية مديري الصحف (التي يمكن أن تتحول إلى جمعية ناشرين) وجمعيات أخرى (على غرار جمعية الصحفيين الشبان التي أنشأت حديثا)  فإن  الإطار التنظيمي للصحافة في تونس يصبح نظاما متعدد الآليات أو نسيجا  متكاملا  يتحول فيه الإعلام إلى مؤسسة ديمقراطية تتحمّل وظيفتين رئيستين :  وظيفية  الإخبار (بأشكاله المختلفة والاستقصائية على وجه التحديد) الضرورية  لمجتمع شفاف قطع مع ثقافة السر ووظيفة إدارة النقاش العام الذي يقوم عليه فضاء عمومي تونسي منفتح.

 

بقلم د.الصادق الحمامي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.