في المواريث وفرائضها وفي زواج التونسية المسلمة مع المخالفة في الدين وفي تناقضات دستور الجمهوريّة الثانية وما أورثته من انقسام سياسي وتناحر إيديولوجي

قبل الخوض في موضوع الحال مع مقتضياته المتشابكة تفريعا وعقدةً وتناقضا أودّ منذ البداية أن أستسمح القارئ الكريم طمعا في صبره عليَّ إطالةً وتفصيلا.

فالموضوع بالغة خطورته معقّد طرحه متشابكة أبعاده مستغلقة أطراف الفهم فيه استغلاقا بدأ يشي ببلوغ خطر تفريق جمعنامداه المقلق. وقبل العرض إلى التجريح والتحليل فإني كذلك التمس العذر سبقا من أصحاب الحساسيّات الفكريّة كلّها لا سيما الدينيّة منها ففي البيان المقبل جرأة على ما قد لا يتجرّأ عليه كثير من أهل الرّأي عند العرب والمسلمين. فالرجاءُ عندي أن تتأكدوا جميعا أن مبلغ العلم وغاية النّظر من وراء القصد في الفهم والتجريح ونقد الذّات رتق ما أصاب أحوالنا من فتق وتدارك ما بدأ يدب فينا من كراهيّة وتحاقد بغيضين ونحن أولاد الوطن الواحد وأبناء الرحم الواحدة.

فما ألقاه على قرائحنا الرئيس السبسي طلبا في التفكير والمراجعة عند أواسط الشّهر من أوت أمر بالنسبة إلى فريق من جمعنا جلل خطر معيب بل مخرج من الملّة طارد من الدين وبالنسبة إلى فريق آخر نتيجة حركة الحياة طبيعةً وجزء من سير التاريخ بداهة وتلك الأيّام نداولها بين النّاس. ولفهم هذا الموضوع ومحاولة طلب حلّ يرضى الأطراف المتنازعة بل المتساببة مع عميق الأسف فيه وعليه ينبغي منهجا تنزيله على محاور فهم أربعة لا بد من التفريق بين منطقها ومنهجها وسجلات التفكير فيها ومفرداته.

ومرّة أخرى أعيد الكرّة في طلب انتباه القارئ صبرا عليّ حتى لا تختلط عليه السجلاّت ومناهج الطّرح فيستغلق عليه الفهم فيضيع عليّ الجهد وتضعف عندي الحجة. فقد تجتمع بسبب حساسيّة هذا الموضوع مواقف متناقضة عند الشخص الواحد والحزب الواحد والنّحلة الواحدة.والفهم الصحيح المؤدي إلى المعالجة السليمة لهذا الموضوع على خطورته يجب أن يبدأ بالنظر إليه أوّلا على المستوى الإجرائي في حياة الناس اليوميّة.وثانيا على المستوى الثقافي الحضاري التاريخي لتركيبه على الآلة التي تدور عليها حركة الأفكار والقيم في تاريخنا لا سيما المعاصر منه.

وثالثا على مستوى الحقيقة القانونيّة والتشريعيّة التي وضعها الدستور الجديد مع ما ينتابها من تناقضات عضويّة منطقا وتأسيسا من داخلها وفهما وتأويلا من خارجها. ورابعا وأخيرا على مستوى الممارسة السياسيّة وألاعيبها في استمالة الأنصار وإضعاف الخصوم. ولا يذهبنّ الظن بكم إلى أن بعضا من هذه السجلاّت مفضّل على بعض.

فقد تبدو المسألة في مستوى الإجراء والسّياسة سطحيّة تافهة عبثيّة لكنّها على مستوى القانون والفكر بالغة الخطورة. ومهما يكن من أمر فالنّظر إلى محصّلة التقاء السّجلاّت الأربعة جميعا بداية حلّ لحالة الانشطار التي نعيشها والتي تصرفنا عن النظر في أولويات التنمية والبناء المستعجلة بل البالغة عجلة. فبلادنا ككل بلاد الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مقبلة على سنوات عجاف جوعا وفقرا ومرضاوخصوصا عطشا ولا وقت لدينا نضيعه في هرطقات السياسة ومجادلات الهويّة وترف المزايدات في الايديولوجا.

ولنبدأ بالمستوى الإجرائي لننظر في أثر دعوة السبسي على حياة الناس اليوميّة ثباتا أو تغييرا. والواقع على الحقيقة في هذا المستوى محيّر والملاحظة داعية للغرابة. فعبثا يتهارش الجمع من الفريقين ذات اليمين وذات اليسار ويتمارشون سُبابًا ومعايرةً في المواريث وفرائضها وفي زواج التونسيّة مع المخالفة في الدّين. والحقيقة أنّ في هذا التّصادم دليل جديد على انقطاع الفكر لدى نخبنا عن حياة الناس اليوميّة وواقعهم المعيش. فالجماعة تكاد تتقاتل فيما بينها وقد غاب عن الفريقين أنّ المشكل إجراءً غير موجود وأنّ القضيّة كلّها مغلوطة من الأساس. فالجماعة يتحاججون فقهً وقانونا ويتصارعون شرعا ومواضعةً وكأن التي قرّرت الارتباط بالأجنبي من المسلمات كرها في استعلاء المسلم بذكورته أو كأن الذي قسّم ثروته على أولاده بوصيّة من قبل أجله أو من بعده للأنثى مثل حظّ الذكر، قد عطلا سير حياتهما ينتظران خطابات رئيسنا الفطحل حماسةً لحقوق النساء وفتاوى علمائنا العباقرة غيرةً على الدين. فالمعلوم المشاهد الواقع في حياة الناس اليوميّة أنّ كليهما وعذرا على وقاحة اللفظ قد أرسلانا جميعا إلى الجحيم إعراضا عن نقاشات بيزنطيّة لا تعنيهما ثم انصرفا في إمضاء أمر كان عندهما مقضيّا. بل قد تجتمع الحالتان في العائلة الواحدة. فالظّاهرة إذن موجودة بغضّ النّظر عن وجود التشريع من عدمه. ولا أشكّ أنّ فيكم كثيرين ممن له معرفة بمن قد تزوّجت من أجنبي وبمن قسّم ثروته مساواة بين الذكور والإناث.

فلماذا كلّ هذا الجدل وكلّ هذا الرّغاء واللغط في قضيّة لا يغيّر وجود التشريع من عدمه فيها شيئا. وحتى إن احتج علينا مخالف فقال إن في زواج التونسيّة عائقا في تجنيس الأولاد على جنسية أمّهم أو في توريثم منها ورغم أنني لست من رجال القانون ولا أدعي الفهم فيهفلسفةً ورغم عدم قدرتي على الجزم بقدرة المنشور الثالث والسبعين على فعل ذلك من عدمها إلا أن طبيعة المقام نفسها ترد احتجاجه.

فمن كرهت في المسلم استعلاءه على الأنثى بذكورته فلا شك أنّها كارهة لثقافته معرضة عن جنسيّته زاهدة في قيمه فلن يضرّها لو انتحل الأولاد على مذهب أبيهم واتبعوا سِمت ملّته بل قد تكون راغبة في ذلك قائمة فيه حريصة عليه.

وقد جمعتني عوارض الحياة وصدفها هنا في كندا بكثير من المسلمات من هذا النوع وبينهن كثير من التونسيات. بل البعض منهن يعيش في تونس. وكلّهن يعشن بشكل طبيعيدون عقد أو مشاكل ويظهرن غير آبهات إطلاقا بهذا الموضوع من أساسه. وحتى استزيد في الدليل على نفاق النقاش الراهن وزيف المضمون منهأود تذكيركم جميعا تلميحا دون التعمق وإشارة لعدم الحاجة إلى التفصيل بحالة الملاحدة من أبناء وطننا وهم على عكس ما تعقلون كثرة.

فهم تونسيون بالمولد عرب باللسان مسلمون بالثقافة والتاريخ لكنّهم منكرون لرسالة الإسلام معرضون عن عقيدته طاعنون في صدقها. فما العمل في حالتهم؟ أتنوون انتداب شرطة ضمير وقضاة أفئدةيطّلعون على المكنون من السّرائر قبل أن تزوّجوا بناتكم؟ فالمسألة في الحالة التونسيّة من أساسها إذن رغاء إيديولوجيّ ظاهره خلاف ومحاججة على طبيعة المجتمع المنشودة إقامته وعلى قيم الأمّة المطلوب تكوينها لكنّ باطنه صراع صريح على السلطة وعلى الثّروة بين اليمين الديني والوسط واليسار العلمانيّين لا يمثل الضمير الديني على صبغته الجمعيّة هدفا عقائديّا عندهم جميعا بل يمثّل كما هو الأمر على العادة منذ أربعة عشر قرنا أداة للمناكفة وخصوصا للتعبئة السياسيّة لا أكثر.

نأتي الآن إلى البعد الفكريّ والتاريخيّ والحضاريّ واعتبارا من هذ المستوى إلى حدود نهاية ما سنورد من بيان مقبل ستتعقد الأمور وسيتركب ما كان بسيطا وسينغلق ما كان منفتحا وسيصعب ما بدا في البداية متيسّرا. وقد أرجعنا هذا المستوى مكرهين إلى مربع الصّراع بين الأصالة والحداثة الذي عقب انتفاضة 2011 بعد طرد الطاغية وعودة الإسلاميين للمشاركة في الحياة السّياسيّة.

ومنذ البداية لا بد من التذكير بأن هذا الطرح قديم قدم الفكر الحديث والمعاصر نفسه. ومع عميق الأسف لا يزال سؤاله شوكة تخز خواصر العقل منّا خزّا عنيفا منذ أن غزا نابليون مصر في القرن الثامن عشر إلى أن خطب السبسي احتفالا بعيد المرأة هذه السّنة. وهنا لا بد من تنزيل الحالة التونسية على الحالة العربيّة الإسلاميّة كلّها.

فسؤال الحيرة يدور حول النّزاع القائم بل دائم القيام على شكل الدّولة المطلوب وهيئة المجتمع المنشود لا بين النخب التونسية وحدها بل بين نخب العالم العربي والإسلامي كلّها وهي لتذكيركم تمثّل ربع الإنسانيّة قاطبة. ولن نتوسّع فيها لذاتها إذ الحاجة عندها إلى مجلّدات في الفكر والدراسة والتجريح. وغاية النظر من العود إليها فهم الحالة التونسية المتفرّدة داخل محيطها التاريخي والثقافيّ ،وهنا عقدة المشكل. فسؤال الحال سؤال هويّة في باطنه وإن تعلّق الظّاهر بمنزلة المرأة وحقوقها. ومن قال لنا أنّ الدستور قد حسم الموضوع فقد كذبنا ولم يصدقنا في قوله. فلا أزيف من هذا الادعاء ولا أكذب منه بل لا أظهر بطلانا منه. وها قد أقامت دعوة السبسي وكلّ الرغاء الصحفيّ الذي لحقهايمنة ويسرة الدليل على أن من ذهب في ذلك الظّنّ قد كان مخدوعا عن رأيه.

فعلى العكس تماما ممّا يدّعيه المزهوّون بالدستور الجديد المفاخرون به فإنّ نصّه لم يحلّ مشكلة الهويّة بل زاد في تعقيدها. وقد كنت بكل تواضع من القلّة التي آثرت الصّمت حين صدوره حتى لا أفسد على التونسيين فرحتهم بفرج المصادقة عليه لا سيما وأن البلاد في تلك الفترة كانت على أبواب الحرب الأهليّة. ومع ذلك الصمت كان الاعتقاد عندي راسخا رسوخ الصّخر أنّ غاية ما فعله الدستور الجديد تأجيل الصّدام وليس القضاء على أصوله. وها قد عاود الصّراع انفجاره بعد عودة سؤال الهويّة ضمنا في مبادرة السبسي تخصيصا على المساواة في الإرث وزواج التونسيّة بغير المسلم.

فعلى عكس غايته نظرًا لم يحسم دستور الجمهوريّة الثانية أمر الهويّة إجراءً بل على العكس تماما فبعد أن زاد في تعقيدها أخرج تناقضاتها من مجال تدافع الأفكار وصراع القيم وتضارب المشاريع المقبول والمشروع بل والمطلوب طبيعةً اجتماعيًّا ليلحقه بمجال القوانين بل بمجال روحها الذي لا يقبل التناقض ولا يجوز فيه التضمين ولا ينبغي فيه التلميحوالإشارة تشريعا.

فبعد أن صعّب حكم البلد بفعل التّذرير المبالغ فيه في توزيع السلطة. ها قد فضح سقمه صعوبة الالتقاء والحياة المشتركة بين القيم التي أسّس لها. وسنعود لتداعيات تلك التناقضات عند العرض إلى أبعاد المشكل القانونيّة حتى لا نفسد على أنفسنا خطابنا بتقديم النتائج على التحليل.
ولنرجع الآن إلى أصل المشكل فكريّا. فالعقدة ليست في تفاصيل من قبيل المواريث وفرائضها ولا في زواج المسلمة مخالفةً في الدين. فالمسألة تخصّ موضع الفقه الإسلاميّ كلّه من حياتنا الرّاهنة. وسأعرض المشكل باعتباري دارس سياسة مع الحياد ما استطعت حتى يتبيّن أهل الرأي في تونس ومن بعدهم ضميرنا الجمعي كلّه تشابك المشكل واقتراب لحظة الحسم في الاختيار بل تحتمها تحتم الفصل بين الحياة والموت.

في بعض المؤتمرات التي جمعتني مع ثلّة من أساتذة القانون المدني هنا في كندا طلب إليّ واحد من أكبرهم ولا فائدة من ذكر الأسماء أن أشرح له منطق الشريعة وفلسفة الفقه. فأوجزت له شرحا في المقاصدوالأصول والفروع ولخّصت له تاريخا في المذاهب والقواعد. وقد كنت أعرف تمام المعرفة أن السؤال مفخّخ وأن الرّجل مطّلع على الفقه الإسلاميّ ضافي الاطّلاع بل قد تكون معرفته أوسع من كثرة من أئمّتنا المتأسلمين زيفا وادعاءً على الناس.

وبعد العرض ابتسم في هدوء العلماء وألقى إليّ بجملة لن أنساها ما حييت. وقد عدّلت عندي كلّ موازين الفكر والمنطق منذ ذلك اليوم إلى اللحظة الحاضرةفيما أقول مدرّسا وفيما أكتب باحثا: فقال: “الأصل في كلّ قاعدة قانونيّة أن تكون استجابة لتغيّر اجتماعيّ معلوم فإن قلبنا العلاقة بينهما فجعلنا القاعدة القانونية حاكمة للمتغير الاجتماعي تجمدت المجتمعات وشلّت حركة الأفكار فيها تماما وثبتت تراوح مكانها بفعل قانونها نفسه”. فوصلت الرسالة كاملة رغم الإشارة دون التلميح. ولمّا قرأت من بعد تلك الجلسة كتب فقيه القانون ميشال فيلاي في دور القوانين الاجتماعيّوكتب جون راولس في نظريات العدالة وكتب جورج بيردو في نظريّة الدّولة فهمت أنّ القانون في الدّولة الحديثة ليس علم شرائع فحسب بل هو كذلك علم تاريخي بتعريفه وإنه من غير الممكن التقاء الدّولة مؤسسة سياسيّة وقانونيّة إراديّة مع فقه ديني منزل ومفارقعلى الإطلاق. وهذا عين ما يعيب الفقه الإسلاميّ من وجهة العلم السياسيّ والقانوني الحديث.

ولست أدعي فيه العيب مطلقا. فالحديث هنا دائر على المقامات والأطر التي تلاقيه فيسري في مناخها. فثبات الأصول فيه ديناوعقيدة وبالإطلاق تمنعه من أن يكون مناسبا للدولة الحديثة سياسة وقانونا مع النسبيّة. وهنا عقدة المشكل في حالنا. وما طرحه السبسي عليكم تفصيل من تفصيلاته. وقد حان الوقت يا بني وطني لتحسموا أمركم عند الاختيار. وأمامكم خياران لكل منهما منطقه وقد بات واضحا عدم الجواز في اجتماعهما ونفاق التحذلق في التلفيق بين البعض من عوارضهما.
فإمّا أن تقيموا دولة المدنيّة وهي بتعريفها علمانيّة خالصة الوضعانيّة صافيتها قانونا وسياسة وإمّا أن تأسّسوا لسلطة الدين وهي ثيوقراطيّة الشرع خالصة العقيدة. والإيمان فيها هو القيمة السياسيّة الوحيدة ومنه الوصاية بالإطلاق على باقي القيم. ولكلّ من الخيارين ثمنه ثقافةً وسياسةً واجتماعًا.
فالخيار الأوّل يعني إنهاء سلطة الدين وإخراجه من الحياة العامّة وحصره داخل دائرة الحراك الفردي والحياة الشخصيّة فلا يتجاوز منها الحدّ إلى ما هو اجتماعيّ من حيث الطبيعة والأبعاد. وثمن هذ الخيار يعني عمليّا تعطيل كل دور سياسيّ وقانوني للعقيدة. ولينتبه الجميع مما يسيؤون فهم العلمانيّة. فعلمنة الدّولة لا تعني علمنة المجتمع. وبمعنى يستزيد في الدّقّة:إن تعطيل الشرائع لا يعني إبطال الشّعائر كما يروّج له مع عميق الأسف كثرة المتأسلمة من أصحاب الأصوليّات الدينيّة عندنا تجاهلا حينا وجهلا أحيانا. وقد جمعتني الصّدف ببعض من منتسبيهم يسبون العلمانيّة. فألححت في السؤال عليهم بأن يذكروا عنوان مؤلّف واحد قرأوه عن العلمانيّة وفي اللغة التي يختارونها فعجزوا عند الرّدّ تلعثما.

فعلمنة الدّولة إذن لا تعني محاربة التديّن والتضييق عليه. بل غاية ما تحويه مضمونا هو كونيّة الناموس القانوني من غير النّظر إلى قناعات مواطنيها دينا وعقيدة. مما يعني خروج الإيمان من دائرة الفعل السياسيّ واستحالته من قيمة سياسيّة واحدة مطلقة كما كان الأمر في الحضارة العربيّة الإسلاميّة وإن شعارا غير الفعل إلى قيمة أخلاقيّة اجتماعيّة الطبيعة فرديّة المجال. فالسلطة في الدّولة الحديثة ليست مؤسّسة أخلاقيّة بل سياسيّة في معنى التعبير عن إرادة الجمع من مواطنيها وقانونيّة في معنى السير تنظيما لحياتهم. وهذا يعني حياد الدّولة الكامل عقائديّا. فالشرائع في هذا النّظام تُتخيّر على أساس التحسين والتقبيح العقليّ. والسّياسات ترتكز على منطق المصلحة وحدها وبلا شريك ينازعها الأمر حتى وإن خالفت الدين والخلق والأعراف.فالدولة العلمانيّة ودولة القانون والدولة الديمقراطيّة والدّولة العقلانيّة تسميات متنوعة لمسمى واحد. وتأسيس دولة من هذا النوع يعني الاعتراف بالفرد بل التأسيس له لأنه مفهوم منعدم الوجود في ثقافتنا الجمعيّة بمولدها وتعريفها وتطوّرها. والاعتراف بالفرد يعني الاعتراف باستقلاله وقيامه بنفسه حرّا.وهذه الأمور الثلاثة مجتمعة على غير توافق مع مبدإ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاعدة الاجتماع الرئيسة في سلطة الدين. مما يعني أنّ الدّولة العلمانيّة تترك لمواطنها أن يختار القيم التي عليها تدور حياته. ولا ينبغي للدّولة ولا لغيرها أن تفرض عليه من القيم ما تراه هي ولا يرضاه هو. فدولة العلمانيّة دولة مواطنين وليست دولة مؤمنين.

أمّا الخيار الثّاني المتاح أماكم فيعني إعادة إنتاج السلطان الدينيّ الذي حكم الأمّة الإسلاميّة من وفاة الرّسول {ص} إلى ما قبل المرحلة الإستعماريّة. ومنذ البداية لا يصح مفهوما أن يسمى هذا النوع من الاجتماع السياسي دولة. فلا علاقة له بالدّولة الحديثة. فلا يصحّ نظرا في علم السياسة أن تقترن الدّولة بدين لتناقض في معنى التركيب إذ وضعتالدّولة أصلا كما يقول مارسيل قوشيه وفرويد من قبله وعذرا على وقاحة التعبير فالعهدة على من وضعه لطرد اللاهوت من السلطة. فكل من يحدّثكم عن الدولة الإسلاميّة لا يعي في الحقيقة من وجهة العلم السياسيّ ما يقول فذلك مصطلح تتناقض فيه معاني التركيب. فلم تعرف الحضارة الإسلاميّة مفهوم الدولة إطلاقا. وهو مفهوم خالص الغربيّة. فقد عرف تاريخنا جماعة وسلطانا دينيّين على رأسهما إمامٌ نظرًا لكنّ السلطة فيها إجراءً كانت قبليّة الوازع قد تبنت المنهج الامبراطوري القديم في عمومه وأخلاقه واقتباسا من الموروث الفارسيّ الكسرويّ وتقليدا له من ناحية التخصيص. فكل من يحدّثونكم عن دولة دينيّة يسخرون من عقولكم أو يخوضون في أمور لا يفهمونها من الوجهة العلميّة ولا دخل في هذا المقام للإيديولوجيات. فهم على الحقيقة كمن يقول لكم بأنّ في البياض سوادا أو أنّ المرأة من الرّجال. فكما لا يصحّ منطقا نسبة النساء صنفًا إلى الرجال جنسًا وكما لا يتيسّر اعتراء السواد للبياض حلولاً فيه لا تجوز كذلك نسبة الدّولة مؤسّسةً إلى الدين عقيدةً بغضّ النّظر عن نوع الدين وطبيعة العقيدةلأن الدّولة ببساطة وضعت فكرا وبنيت تاريخا لتعويض سلطتهما.

وهذا عين ما قصده فقيه القانون وعالم السياسة الفرنسيّ جورج بيردو حين قال في بعض مؤلّفاته بأنّ الشّعوب المعاصرة تطلب في الحضارة الحديثة من الدّولة ما كانت شعوب الحضارات القديمة تطلبه من السّحر والأديان. وحتى لا نعقّد الأمور على قرائنا من غير ذوي الاختصاص،ومهما يكن من أمر،فالواجب في الأذهان رسوخًا أنّ السلطة في هذا التركيب جهاز أخلاقي خالص. وبهذا المنطق تستنبط الشرائع وطرق الاجتماع كلّها على أساس التحسين والتقبيح الخلقي المسطّر سلفا من سراج مقدّس من جهة المصدر لكنّه بشريّ من جهة التأويل.

ومن ثم فلا نيّة عنده في بناء مواطنين وكل ما يعنيه تخريج مؤمنين مع السعي الدائم في إصلاح الإيمان منهم بالنصيحة والتعليم والترغيب حينا وبالقوّة والغلبة والقهر إن لزم الأمر أحيانا. وفي الحالات كلّها يعقد الإيمان في هذا التركيب قيمة سياسيّة عقد الإطلاق ولا مجال فيه إلى التغيير في الأصول فالفروع وحدها تقبل بعضا من التحوير من بعد رضى الأصول على ذلك دائما. مما يعني أنّ الانتماء إلى الجماعة السياسيّة مشروط بالانتماء إلى الجماعة الدينيّة. فتذوب بذلك الملّة في الدّولة {واستعمال الدّولة هنا على غير معناه تجوّزا في اللفظ وترميزا للسلطة} مع صحّة العكس. فالدين والملك في هذا النمط كما يقول الغزالي توأمان لا يفترقان. وهذا يعني خروج المخالف في الدّين من الجماعة السياسيّة وإن كان بحكم الجغرافيّة والدّم والرغبة طامعا في الانتماء إليها. وكما ترون فسلطة من هذا النّوع لا تصنع مواطنين بل تعمل على بناء مؤمنين. وليس سير الحياة فيها لمصلحة المجتمع بل تحقيقا لمشيئة ربّ المجتمع في حركة التاريخ. لهذا كلّه يستطيع المسلمون العيش في بلاد غير مسلمة لكن يصعب على غيرهم الحياة عندهم.

فإن أردتم الإبقاء على للذكر مثل حظ الأنثيين والإبقاء على قصر زواج المسلمة على من سالمها في الدين وحده، فأقيموا صرح هذا الملك. ولكن اعلموا أن لهذا الخيار كذلك ثمنه سياسة وثقافة واجتماعا. فلا أظنّكم تغفلون على خطر وخطورة ما يعنيه هذا الخيار على المستوى الدّوليّ. ولا ألقى الخطاب عليكم في هذا المقام ناصحا أو محذّرا بل دارسا محلّلا بما يمليه عليّ الاختصاص في السياسة وتفرضه عليّ الخبرة بعوارض العلاقات الدّوليّة. فليس خافيا عليكم كراهيّة المجتمع الدّولي والقوى الغالبة على أمرها عالميّا لمثل هذه الأنظمة وحنقهما عليها وخوفهما منها ونفورهما عنها. فإن رأيتم السّير فيه فأبشروا بشرى اليقين بحرب عزلة لا تبقي ولا تذر. ولا تنتظروا منهما عونا ولا مساعدة. فهل لكم الطّاقة على احتمال هذا الثمن؟ فإن كانت لكم القدرة على تحمّل تبعات خيار كهذا -وأنتم تقريبا تشحذون من دول الدّنيا ما به تدفعون رواتب موظّفيكم -فأمضوا فيه أمركم. ولا تظنّوا مخدوعين في ظنّكم أفظع الخداع ولو لثانية واحدة أنه في وسعكم الاعتماد كما يصوّر لكم أهل الإسلام السياسيّ سذاجةًعلى باقي الدول الإسلاميّة لا سيما السنّي منها ممن يدعي حماية الإسلام كدول الخليج. فانظروا في سيرة من كان من قبلكم ترون أن تلك دول لا يمكن الاعتماد عليها إطلاقا. وقد رقبتم ماذا فعلوا في صدّام حسينمن قبلكموفي العراق كلّه من بعده وقد حارب دفاعا عنهم وبذل الدم والمال إن حقا أو باطلا سعيا في حمايتهم.

وليس لهذا الخيار ثمن في السياسة وحدها. بل له كذلك ثمن فيالاجتماعوالثّقافة. فاجتماعا إن جنحتم لهذا الخيار فانسوا الحريّات الفرديّة كلّها نهائيّا وكل ما اعترف به للنساء عندكم من حقوق. أما ثقافةً فيقتضي هذا الخيار كذلك تجديد الدين وأرخنة الفقه وتعصير الشرائع وإعادة النّظر في الشريعة وتحيينها. وكلّ ذلك يقتضي إعادة تأويل النصوص. والمسألة هنا كما ترون لا تقف عند بلدكم وحده. فقد فاضت القضيّة لتصبح مشروع تجديد ثقافة بأسرها كاملة. فإن كان عندكم الوقت اللاّزم والعقول القادرة والجهد الضروريّ لفعل هذا فحكّموا الدين فيما بينكم.

هذان خياراكما يا أهل تونس ولا ثالث لهما. وعلى كلّ واحد منهما تقوم سياسات مخصوصة لائقة بكلّ نوع منهما. فلكل منهما من بعد القيم منهجه في الاقتصاد والتعليم والماليّة وما تبع تلك الأمور مجتمعة. فانظروا أيّا من الثمنين تريدون دفعه وتقدرون على بذله وفي وسعكم تأديته ثم تخيّروا لأنفسكم ما يناسبكم منهما. أما أن تبقوا كما هو الحال من أمركم اليوم مذبذبين بين كرسي سلطان الدين وكرسي الدولة العلمانيّة فليس ذلك من عزم الأمور. فلا تحاولوا التوفيق بين متناقضات لا تقبله. فالترقيع السياسي الذي دأب عليه العقل العربي الإسلاميّ الحديث هو سبب الأزمة وقلب الدّاء وهو المسؤول مسؤوليّة المباشرة عن حالة التخلّف والتكلّس والانحدار والسقوط في عقولنا أولا ثم في مجتمعنا ثانيا. وهذا التلفيق هو الذي جعل الدّولة التونسيّة على شاكلة باقي دول العرب والمسلمين دولة غير مكتملة التكوين مذبذبة بين ذلك في تركيب هجين لا إلى أهل الحداثة ولا إلى أهل التقليد. وتذّكّروا أنّ عدم الاختيار هو أسوا الخيارات. والسّياسيّ الذكيّ والناجح هو الذي يعرف جيد المعرفة مقدار قوته وحدود مجال عملها وحدود قدرة حركتها.وقد رأيتم ماذا فعل المتنطّعون من زعماء العرب من عبد الناصر إلى القذّافي إذ ألقوا بشعوبهم في صراعات لا قبل لهم بها ولا طاقة لمقدار قوتهم عليها. فجرّوا على أوطانهم الخراب والموت والجوع والفقر والمرض والجهل والدمار. ولعله من المفيد هنا التذكير بأن تلك المعرفة الدقيقة بحدود قدرة الذّات والإدراك العميق بحدود مجال حركتها هي السّرّ في عبقريّة بورقيبة على عيوبه في فهم علاقات القوّة دوليّا. ولكم أن تهاجموا بروقيبة ولكم أن تسبوه إن شئتم فلم يكن الرّجل ملاكا حتى تقدّسه الأنفس وليس هو كذلك فوق التاريخ حتى لا يراجع فكره. لكنّه على الحال كلّها قد جنّبنا بدهائه ما وقع فيه غيرنا من مصائب بفعل ذلك الوعي الذكيّ بقدر قوة الذات وحدود مجال حركتها. فاتخذوا من ذلك الوعي دليلا عند الاختيار.

ومن بعد هذا كلّه وقبل أن أعبر إلى أبعاد المسألة قانونا يجب عليكم أن توقنوا جميعا بأن لا شيء في هذا الوجود بلا ثمن. فإن ظننتم ظنّ الوهم في إمكان قيام دولة القوّة واضطراد العمارة وانتعاش الاقتصاد وتجذر العدل عندكم دون ثمن يدفع ومقابل يؤدى فتلك أضغاث أحلام بل الأحلام نفسها لم تعد تجود بمثل هذه الأماني.

ولنأت الآن للجزء الثالث من حديثنا في التحليل والفهم. وهذا الجزء في الواقع أخطر الأجزاء وأفظعها. فحين يرقب الواحد منّا النقاش الذي ألهب مواقع التواصل الاجتماعيّة يرى أن الفرقاء من جمعنا إسلاما وعلمنة يحتجون بدستوريّة مقترح السبسي وبعدمها في الوقت نفسه. وهنا الكارثة الكبرى من المسألة في مجموعها. ولهذا قد قدمت قولا أنّني حين تفاءل القوم كنت من المتشائمين بالنظر إلى نصوص الدّستور الجديد لتناقضها. فحين نقيس مسألة الحال في مساواة الميراث وزواج التونسيّة مع المخالفة في الدّين نرى أن الدّستور الجديد يجوزها ويمنعها في الوقت نفسه. فالفصل الأوّل والفصل السادس يمنعان المقترحين. والفصل الحادي والعشرون والسادس والأربعون يجوّزانهما. فلو أراد الطاعنون من المتأسلمة مهاجمة القانون لو مرّر جاز لهم أن يقولوا أنّالإسلام دين الدّولة وأنّ نفس تلك الدّولة حامية للدين حريصة على المقدّسات واقفة دون إهانتها والطّعن فيها وهذا تعطيل صريح لحكم النصّ وإن في ظاهره دون التأويل. ولو أحبّ المتعلمنة قلوبهم أن يدلّلوا على دستوريّته جاز لهم ما أرادوا كذلك. فنفس الدستور يقول بأنّ المواطنين والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات وبأن الدّولة تعمل على حماية مكتسبات المرأة وتطويرها. وضعوا من الأسطر عشرا تحت تطويرها. فماذا يفعل الواحد منكم لو كان في مكان القاضي المعروضة عليه تلك الطّعون بوجهيها. بل ماذا يفعل الواحد منكم لو كان قاضيا وعرضت عليه امرأة بالنصوص الحاليّة ادعاء المظلمة حين يرث أخوها عن والديه حظّا يربو عن حظها مرتين؟

وتفحشون جميعا في الخطإ أسوأ الفحش لو ظننتم أنّ في مبادرة السبسي غاية الخطر من تناقضات دستور الجمهوريّة الثّانية. فقد تكون أخفّها ضررا وأقلّها خطرا. “فالبلاوي”الممكنة {وعذرا على قباحة اللفظ} بسبب تناقضات هذا الدّستور والقادمة قطعا أدهى وأمرّخطرا وأغور عمقامما ألقاه عليكم السبسي بمبادرته. وأودّ منكم أن تجيدوا النّظر معي فيما سأطرحه عليكم الآن افتراضا وتأمّلوه معي حتى يتبيّن لكم السقم في هذا الدّستور وخطره. وهذا المثل يخصّني ويخصّ كلّ من هم في مثل حالي ممّن يسمون أنفسهم “نخبة أكاديميّة”. فماذا لو {وأكرّر لو دفعا لكلّ التباس واحتراما لمشاعر الناس} أنّني فيما أعدّه الآن من بحوث ودراسات أقررت ما اطّلعت عليه في هذه الأيّام من نظريات وادّعاءات عند عالم الأديان الألمانّي كارل هاينز أوليغ والبعض من تابعيه والتي تقول بأنّ الدّولة الأمويّة كانت دولة مسيحيّة؟ وماذا لو قرّرت زعمهبأنّ النّبي محمّد {ص} شخصيّة وهميّة من صنع العباسيين للاستحواذ على الحكم وأنّ اسم محمّد نفسه قد سرق في الأصل من ترنيمة مسيحية كتبها عبد الملك بن مروان المسيحيّ طبعا على قبّة الصّخرة مادحا فيها المسيح بجملة يتقدّمها شبه إسناد تقول: محمّدٌ، عبد الله ورسوله {أي المسيح وهو عبد الله المقصودحميد وممدوح}؟ وماذا لو أنّني في البعض من أبحاثي أعدت نشر بعض مما يدعيه الباحث الفلسطيني في علوم القرآن سامي الديب والقائل بأنّ القرآن من وضع بعض الحنفيّة المصلحين من أحبار اليهود استولى عليه محمّد ونسبه لنفسه أو لربّه؟ واطمئنوا فلن أفعل. ولكن ما من أحد يضمن أنّ غيري لن يفعلها.

فما يعنيني من قضيّة الحال الآن موقفي القانوني في حالة مفترضة كهذه أمام الدستور التونسي الجديد. فماذا يكون موقفي القانونيّ لو نشرت كلاما كهذا. فأي الفصول تنطبق عليّ؟ فمرّة أخرى يسمح الفصل الأوّل والجزء الثاني من الفصل السادس للدولة بسجني بل لا حاجة للدولة عند مقاضاتي أصلا فقد يقاضيني أصغر إمام في أصغر قرية من أريافنا وله الحق دستورا في ذلك. وفي الحين نفسه وانظروا إلى التناقض في الفصل الواحد يسمح لي الجزء الأوّل من الفصل السادس والقاضي بحريّة الضمير والفصل الثالث والثلاثون كلّه عن الحريّات الأكاديميّة بنشر أفكار من هذا النّوع وبكلّ حريّة.

والتحصيل الراسخ من كل هذا أنني في حالة مثل هذه أكون رهين هوى القاضي فإن كان القاضي إسلاميّ الهوى سجنني ونكّل بي وإن كان علماني النّزعة تركني وخلاّني لأبحاثي ودراساتي. فكيف نؤسّس للعدل بنصوص بهذا الطبيعة؟ فانظروا كيف أرجعنا الدّستور الذي أنتم به مفاخرون الأمم الأخرى من دونكم إلى اعتباطيّة الأحكام وشخصنتها التي وضعت الشّعوب المعاصرة الدساتير بل الدّولة الحديثة كلّها للخروج منها واجتنابها ببناء شرعيّة المؤسّسات العقلانيّة. فهل سمعتم بدستور يؤسّس نظرًا ويُمأسس إجراءً الاعتباطيّةَ في ممارسة السّلطة وقد وضع أصلا لاجتنابها؟ وكما ترون بالنّظر للمثالين الحاصل من عند السبسي والمفترض من عندي يجوز أن يكون الأمر الواحد مخالفا للدستور وموافقا له مرتين.

وها قد فضحت مبادرة السبسي هذا التناقض. فانقسم الشّعب التونسيّ على نفسه من جديد. وعلى غير ما تظنّون فليس السبسي من قسّمكم شيعا على أنفسكم. فقد قسّمكم من قبله واضعوا هذا الدستور المتناقضة فصوله. فهل سمعتم بدستور أمّة يقسّمها نِحلاً وقد وضع في الأصل ومن حيث الغاية للتعبير عن وحدتها الأصيلة. وفي هذا دليل جديد بل الدليل الأوفى على سوء إدارة المرحلة الانتقاليّة وعلى زيف التحالفات التي صنعتها بين ما سمّي زورا الإسلاميين الوسطيين والعلمانيين المعتدلين. وفيه كذلك الدّليل على زيف هذا التوافق الرّاهن الذي يحكمكم الآن أيضا. فالمسألة كلّها حسابات سياسة وألاعيب حكم ضاع فيها العقل والعلم والمنطق. فهل فهمتم الآن لماذا ألححت عليكم في طلب الحسم وعدم ترقيع أنظمة سياسيّة لا تقبل ركوب الواحد منها على الآخر.

ولننظر أخيرا في رابع محاورنا التي اتفقنا بداية على اعتمادها لفهم الموضوع. ومضمون الفهم فيه لا يقلّ مصيبة عن باقي المحاور وإن كانت من طبيعة أخرى. فالبعد السياسيّ للمسألة جزء من تعقيدها. ولا بد من الوقوف عنده فهما وتحليلا لا سيما وأنّ اللغط في الدّين قد صرف عقول الناس عن أهداف السّبسي الحق في السياسة. وقد أخطأ الكثيرون ممن أرادوا الفهم فاتهموا مستشاري السبسي لا سيما من النساء بالوقوف وراء مبادرته. والحق أنّ هؤلاء قد فهموا شيئا وغابت عنهم أشياء. والقناعة عندي أنّ هذه منه وليست من مستشاريه. وحتى إن سلّمنا بأنّ المقترح جاء دفعا من بعض مستشاراته النسوة فقد وافقت الفكرة عنده هوى على غير هواهنّ.

وما جاءه السّبسي دليل جديد على دهاء الرّجل الذي لم يعد يحتاج إلى إقامة الدّليل. وبعيدا عن الإطراء الغبي والمدح المبتذل كالذي أبدته دار الإفتاء في بيانها السخيف والمقرف، فإنه علينا الاعتراف دارسين للسياسة بأنّ مناورة الرّجل كانت في منتهى الذّكاء بل تراودني الرّغبة في القول بأنّها قد بلغت من الخبث منتهاه إذ أسقط الرّجل قبل بضعة أشهر أو تزيد من الانتخابات البلديّة طيورا عدّة برمية واحدة. فقد أعاد تقريب النّساء منه ومن حزبه بعد أن فقد الدعم منهنّ بسبب التقارب البراغماتيّ مع النّهضة. وبالرمية نفسها أرسل النهضة إلى زاوية مغلّقة الضيق لا سعة فيها لمجال المناورة أبدا. وأحلى الخيارات فيها مرّ بمرارة العلقم.

وعلى عكس ما يدعيه البعض من رؤوس النهضة وعلى خلاف ما يتصنّعونه من التوازن فإنّها لم تنجح في اجتناب المطبّ الذي حفره السّبسي لها بمبادرته. وحتى حذلقة مورو وطلاوة اللسان المعهودة منه لم تنجح هذه المرّة في إنقاذ الموقف عندهم. فإن هي قبلت مقترحه في التسوية ميراثا وفي إباحة زواج التونسية مخالفها في الدين فستقضي على ما تبقى لها من بعض الدّعم عند الأوساط الإسلاميّة فعزلها من ثم عن تلك الأوساط عزلا نهائيّا أولا وحوّلها ثانيا وهو ما أراده منذ عودته إلى الحياة السياسيّة إلى حزب محافظ لا غير. فقطع نهائيّا شعرة معاوية التي لا تزال تربطها على استحياء بقواعدها العقديّة. وإن هي رفضته فقد سفّه بذلك خطابها المدّعي بخروجها من عباءة الإسلام السياسيّ وبانخراطها فيما تسميه هي بالإسلام الديمقراطيّ فألزمها حجة النفاق وقرّر ادعاء من يتهمهما من خصومها بطمعها في السلطة مهما كان الثمن بما في ذلك التضحية بمرجعيّتها الإسلاميّة. وهي تهمة لا تنفكّ تلاحقها منذ تحالفها مع النّداء. ومن فوق هذا كلّه بثّ السبسي بمبادرته تلك من جديد الفرقة والخلاف داخل النهضة نفسها على ما تبديه ظاهرا من تماسك. فانظروا كيف أضعف الرّجل وبمنتهى الدّهاء حليفه وهو في الوقت نفسه يستغلّ شعبيّته ونصيبه في البرلمان ليحكم البلد ويدير به شأنه.

وبعد الطّمع في العذر من جديد على الإطالة نرجع لمقترح الرئيس نفسه لنختم بياننا هذا بما قد يسمح بالخروج من هذا المحجّ المغلق إذ كثيرا ما يعيب علينا الرأي العام نحن معشر الأكادميين إيغالنا في التحليل فهمًا وصمتنا عن الحلول مساعدةً. والواقع أن في هذه التهمة بعضا من التجني فليس لأهل الرأي وضع الحلول إذ يقف دورهم عند الفهم والإفهام بينما يترك الحلّ لأصحاب السياسة والقرار. وهذا ما أحسب نفسي قد وفّيته الحق الذي يليق. ومع ذلك فمن الممكن حسم القضيّة واجتباب ما خلّفته من تباغض وكراهيّة جارحة بين أطياف شعبنا. وقد آن أوان تعلّم البراغماتيّة السياسيّة التي لا تستقيم الديمقراطيّة دونها. فللخروج ولو مؤقتا من هذا المأزق القانوني والعقائدي في الوقت نفسه وبما أن المسألة تخصّ المرأة وحدها دون باقي مكونات مجتمعنا فلتستفتى النساء إذن وحدهنّ في الأمر ولتترك لهن وحدهنّ مسؤوليّة الاختيار ولهنّ أن يقرّرن ما يناسبهنّ ويتحمّلن تبعات نتائجه سياسة وعقيدة.

فإن رضين بمقترح التسوية ميراثا وفي الزواج مخالفة في الدين فعليهنّ وزر ما لا يريد أصحاب الدّين والمتأسلمة من فرق شعبنا أن يتحمّل وزره دينا. فبؤن بذلك عن وعي وبمسؤوليّة بالإثم الذي يخاف هؤلاء حمله. ووجب حينها إعادة النّظر في كل توابع المسألة من القيامة والطلاقوواجب السكنى وغيرها من الأمور وذلك حتى لا يتحوّل العدل مع النساء إجحافا على الرّجال. فيحمّلوا ما لا طاقة لهم به. فليس ذلك من عزم الأمور.
وإن رفضنه فقد ألزَمْنَ الحجّة للمتعلمنة من نخبنا ورضين بما يراه أهل العقل من السّاسة إجحافا ودونيّة بالجنس. وعندها قضي الأمر وألزم كلّ حجّته. فإن قال قائل بأن الاستفتاءات تتكلّف غاليا. فردّوا عليه بأن للديمقراطيّة ثمنا. فإن أصرّ على أنه غال مرتفع فأشيرواعليه بأن يجرّب الاستبداد أو يعيد تجربته. ولننظر حينها جميعا أيّ الحالين أبهض ثمنا. وحتى لو مرّر القانون وأحسبه شخصيّا ماضيا وبموافقة النّهضة، فلا شيء يمنع من لا يردن من النساء الالتزام به من تجاهله. فلهنّ أن يجرين على أنفسهنّ فرائض الشّريعة تنازلا منهم لإخوانهنّ عن تراض واتفاق عقدا بينهم. فلا يوجد في الدّنيا قانون يمنع من أراد أن ينزل راضيا غير حانث أو مكره عن حقّ ضمنه له ذلك القانون نفسه. أمّا مسألة الزّواج فأمرها سهل إذ ما من أحد يمكن أن يجبر النساء على زواج لا يرضينه من ابن العشيرة فما بالك بالأجنبيّ.

وهكذا ينحلّ المشكل من نفسه دون أن يورثنا الكره والبغضاء والفرقة في مرحلة الجمع منّا مدعو فيها إلى التلاحم وطنيّا على عمق خلافاتنا العقائديّة. فمهما بلغت الخلافات بينكم لا تنسوا يا بني وطني أنّكم شعب واحد ولن يتيسّر لكم الخروج من الأزمة الراهنة خنقًا إلا إذا كنتم على خلافاتكم المذهبيّة على قلب رجل واحد سياسة وتدبيرا. ولا تغفلوا أبدا على أن السّقف من فوق رؤوس الجميع. فلينزل كل منكم لصاحبه ما استطاع. فإن سقط السّقف فسيكسر الرقاب كلّها. وقد قارب السّقوط: فانتبهوا.”وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”.ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد.

 

د. نعمان الربودي. معهد الدراسات السياسية،جامعة أوتاوا

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.