أدونيس الشاعر العربي السوري لم يستطع هو الآخر أن يصمت أكثر مما فعل وهاهو يكتب هذا النص الجميل مبينا ومنبها للمخاطر والمنزلقات التي تعترض الثورات العربية …
أدونيس ينبه على ضرورة إقامة الدولة المدنية في الوطن العربي |
أدونيس الشاعر العربي السوري لم يستطع هو الآخر أن يصمت أكثر مما فعل وهاهو يكتب هذا النص الجميل مبينا ومنبها للمخاطر والمنزلقات التي تعترض الثورات العربية : -1- اليوم، ينكشف الواقع العربي، عِبْر سورية، على وجههِ الأكثر صحّةً ودقةً. فحيث يكون التاريخ أشدّ كثافة وتعقيداً، تكون تحولاته أكثر إضاءة وكشفاً. وسورية مُلتقى الروافد البشرية والحضارية، منذ أكثر من خمسة آلاف سنة. وهي، إذاً، ملتقى الإبداعات والتخطيات، بقدر ما هي مُلتقى الهشاشات والمخاطر، الانطلاقات والكوابح. تكفي الإشارة هنا إلى أن هذه البلاد هي المكانُ الذي تمّ فيه التأسيس لحضارة الإنسان، كونياً: الأبجدية، الدولاب، افتتاح البحار، القانون، الوحدانيات الثلاث، تمثيلاً لا حصراً. وهي إلى ذلك «واسِطة العِقد» العربي. – 2 – كان لكل مرحلة في تاريخ هذه «الواسطة»، وهذا «العِقْد»، حصادُها – المتألّق، حيناً، والمريرُ، غالباً. وها هو حصادُها في بدايات القرن الحادي والعشرين: منذ أكثرَ من نِصْفِ قرن، يتمّ التفرّق العربي باسم التجمع، والانشقاق باسم الوحدة، والسُّبَات باسم اليقظة، والجهل باسم العلم، وهباءُ العدّة والعدَد، والتخلّف باسم التقدّم.
هل يكتشف، اليومَ، أهلُ اليسار والثورة الذين حكموا البلدان العربية ويحكمونها، منذ أكثر من نصف قرن، أنهم لم يتركوا وراءهم، على أرض الحياة، أرض العمل والفكر، إلا التفككَ والتراجُعَ والانهيار، وإلاّ المرارةَ والعذاب؟ أَنّهم أقاموا سلطة ولم يبنوا مجتمعاً، أَنّهم حوّلوا بلدانهم الى فضاءٍ من الشعارات والرايات، دون أي مضمونٍ ثقافيّ أو إنساني، أَنّهم دَمّروا بعضهم بعضاً، فيما كانوا يدمّرون مواطنيهم – تخويناً، وسجناً، تشريداً وقتلاً، أَنّهم لم يضعوا أساساً عميقاً واحداً لبناءِ مجتمعٍ جديد، أو وطنٍ جديد، أو إنسانٍ جديد، أو عقلية جديدة، أو ثقافة جدية، أو حتى مدرسة نموذجية واحدة، أو جامعة نموذجية واحدة – وأضرب صفحاً عن المعامل والمصانع والمشروعات الاقتصادية العامة، أَنّهم رَذَلُوا جميع القضايا التي يمكن أن تُمهّد للتخلّص من القبيلة، والعشيرة، والطائفة، باستقلالٍ سيّدٍ عن الخارج، ورَفْضٍ نيّرٍ وخَلاّقٍ لجميع أشكال التبعيّة، أَنّهم، في هذا كلّه، كانت شهواتهم السلطوية التسلّطية تزدادُ تكالُباً وتوحّشاً، وكان طغيانهم يزداد توسّعاً وفتكاً، وكانت حقوق الإنسان وحرياته تزداد غياباً وضياعاً. – 3 – هكذا، يبدو الأفق العربي، اليوم، كمثل بيتٍ يسكنه عاشقان: التمرد والحرية. التمرّد على السلطة الفاسدة ومؤسساتِها، تخلّصاً من مخازيها. والحرية، تخلّصاً من القيود التي تشلّ الحياة والفكر. وكان الإنجاز، حتى الآن، مُهمّاً وحيوياً. وهو آخذٌ في الاتساع لكي يشمل المناطق العربية الباقية، بعد تونس ومصر. – 4 – غير أن لدى العرب تجربةً في العراق أثبتت أن مجرّد الخلاص مما هو قائمٌ: من الأحكام العرفية المهينة، وثقافاتها الرقابية الأمنية الأكثر إهانة، ومن السلطة الفاسدة ومؤسساتها وأصحابها، ليس كافياً. لا يتمّ تغيير المجتمع بمجرّد تغيير حُكّامه. قد ينجح هذا التغيير في إحلال حُكّامٍ أقلّ تعفّناً، أو أكثر ذكاءً. لكنه لا يحلّ المشكلات الأساسية التي تُنتج الفساد والتخلّف. إذاً، لا بُد في تغيير المجتمع من الذهاب إلى ما هو أبعد من تغيير الحكّام، وأعني تغيير الأسس الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية. فهل في هذا الأفق الذي نشير إليه، ما يشير إلى هذا التغيير الذي يتخطى السطح إلى العمق، والشكل إلى الجوهر؟ تلك هي المسألة. دوُنَ ذلك، ستتحول المشروعات السياسية في البلدان العربية، من مشروعات لبناء المجتمع والدولة، إلى مشروعات تُستعاد فيها القبائل وانتماءاتها، والمذاهبُ الدينية وتناقضاتُها. وفي العراق ما يُضيء. وفيه كذلك ما يُجيب، ويؤكّد. – 5 – في هذا الإطار، تقول لنا الأحداث الجارية في العالم العربي، بدءاً من الحدث التونسي، أشياء كثيرة، اقتصر هنا على الوقوف عند أمرين: الأول هو ضرورة القطيعة الكاملة، نظراً وممارسة، مع منطق الحِلف الظاهر الفعّال بين الدين والسياسة، (وبينهما المال)، الثاني هو ضرورة التوكيد، جهراً، على بناء المجتمع العربي المدني، والدولة المدنية. وهي، إذاً، أحداثٌ تقول لنا، على مستوى آخر: كلّ «معارضة» أو كلّ «ثورة» لا تَجْهر بضرورة قيام الدولة المدنية، والمجتمع المدني، والثقافة المدنية، لن تكون إلا شكلاً آخر لما «تعارضه» أو «تثور» عليه، ولن تكون إلا استمراراً في «مستنقع الفساد» – لكن، بشكلٍ آخر من «السِّباحة»، قد يكون أقلَّ قُبحاً من الأشكال التي سبقته. وآنذاك، يحق لنا أن نسأل: ماذا يجدي، مثلاً، على المستوى الإنساني الكيانيّ، التغيير في مصر، إذا بقيَ وضعُ الأقباط فيها، كما كان سابقاً: «مواطنين» يقومون بجميع الواجباتِ كمثل غيرهم، لكن ليست لهم جميع الحقوق التي يتمتّع بها غيرُهم؟ ويمكن أن نعطي أمثلةً أخرى متنوّعة في البلدان العربية الأخرى. هكذا، يجب أن يتم تغيير الأنظمة الراهنة في ترابطٍ عضوي مع التغيير، مدنياً، على نحو جذريّ وشامل. دون ذلك نخاطر في ألاّ يكونَ تغيير الأنظمة إلاّ نوعاً من التغيير «المَسْرَحيّ» – الشَّكليّ. – 6 –
يَخْطرُ لي هنا سُؤال قد يكون سابقاً لأوانه: ماذا نفعل إن كان في هذه الأحداثِ ما يُنْبِئ بالعمل على التأسيس لهيمنة ما يُطلق عليه الفكر السياسي العربي الراهن اسم «الإسلام المعتدل»؟ وماذا يعني «الاعتدال» داخلَ الإسلام ذاته؟ وماذا يعني خارجه – في العلاقة مع الآخر الذي ينتمي إلى أقلياتٍ مذهبيةٍ أو إتنيّة أو غير مسلمة داخل المجتمعات الإسلامية؟ – 7 – كلاّ، لن تكونَ الشمس في المجتمع العربي، جديدة بالضرورة كل يوم – إلاّ بشرطٍ واحد: تأسيس المجتمع المدنيّ، والدولة المدنيّة، والحياة الإنسانية المدنية، فيما وراء الانتماءات كلها – الدينية والإتنية واللغوية. ———- أدونيس في ( صفحة الناقد العربي على الفايس بوك) |
|