الثقافة والهوية : الإبداع والبدعة

إن نشر ثقافة تقدمية عقلانية، متأسسة على منظومة قيمية إنسانية، أمر حيوي. و لا نعتقد أن الحديث عن الثقافة، في خضم السباق السياسي المحموم، و الاحتراب الإيديولوجي المهيمن هذه الأيام، مسألة ترفيّة، لجنس من “المثقفين” يتعالون باهتماماتهم عن نبض الشارع …



الثقافة والهوية : الإبداع والبدعة

 

إن نشر ثقافة تقدمية عقلانية، متأسسة على منظومة قيمية إنسانية، أمر حيوي. و لا نعتقد أن الحديث عن الثقافة، في خضم السباق السياسي المحموم، و الاحتراب الإيديولوجي المهيمن هذه الأيام، مسألة ترفيّة، لجنس من "المثقفين" يتعالون باهتماماتهم عن نبض الشارع المتنوع و شديد الفوران و الهياج. إذ إن الثقافة هي صوت الوعي و العقل الذي يستطيع وحده أن يلجُم تهور الوجدان السياسي، و تهور المتعصبين. فالمسألة الثقافية من هذه الجهة، ركنُ من أركان الثورة، بل لا نبالغُ إن قلنا انه شرط نجاحها، فلا ثورة إلا بثقافة ثورة.

• في الهوية الثقافية

لا نعتقد، أن ثورة14جانفي، جاءت بحثا في مسألة الهوية أو انتصارا لها أو نقيضا ضدها. فليس من أسئلة التونسي، من أكون؟؟ ما جنسي؟؟ ما ديني؟ ما لوني؟ ما لغتي؟؟ لقد حزم أمره منذ زمن بعيد. لذلك يبدو لنا ما يجري هذه الأيام من صراع مفتوح بخصوص الهوية مسألة في غاية الخطورة.

نعيش اليوم في تونس، بين مشروعين للهوية. قد أُفاجئ البعض عندما أقول أن السلفية في تونس بجناحيها، تعمل موضوعيا على إجهاض الثورة. إذ أن جعل الصراع بين الإيمان و الإلحاد أو الإسلام و العلمانية… أمر لا يستقيم. فالصراع في جوهره بين منظومتين فكريتين، الأولى منغلقة على ذاتها منكفئة على نفسها، تعتقد أن الهوية مُنجز حالّ في التاريخ قديمه أو حديثه، و ليس لنا من فضل غير استحضاره، وصفة سحرية متعالية على التاريخ تحلّ لنا مشاكلنا و تمنحنا السعادتين، و هو ما تمثّلهُ السلفية اليمينية "الاسلاموية" و السلفية "اليسروية/ العلمانوية". أما المنظومة الثانية فهي تجعل الهوية مشروعا للانجاز. أي عملية مراكمة إنسانية في سياقات تاريخية قائمة على التوافق الاجتماعي و الثقافي و السياسي لبناء مجتمع ديمقراطي يقوم على كونية حقوق الإنسان و قيم المواطنة، تتجلى فيه جدليات المحلّي الخصوصي بالكوني الإنساني. إننا مع هوية غير منغلقة، و لا مكتفية في ضرب من الأحلام المرضي لذوات مهزومة أو مرتبكة تخشى المغامرة في عالم متغير، و المغامرة هي جوهر الوجود الإنساني منذ عصر الكهوف. و الكونية لا تعني إننا ندخل العالم بلا أرض نقف عليها، و لا ثقافة ننطق بها و لا لغة تتكلمنا و تُعلن وجودنا و تحدد كياناتنا في العالم.

نحن عرب و مسلمون، و لنا أجداد في فكر التنوير الحديث الذي كان في عمقه محاولة نبيلة لهضم "عصرانية" العالم المتحول و هضم قيمه اللبرالية، لنا ثوابت في النزعات الفلسفية "العقلية" في التراث العربي الإسلامي القديم، نحن ندافع عن الجاحظ و التوحيدي و ابي العلاء و المعتزلة و ابن رُشد…. و على النقيض ينتصر دعاة "الهوية" إلى أعدائهم من فقهاء كلّسوا إبداعية النص القرآني و تحالفوا مع سلاطين الدنيا للجم العقل المتمرد على سلطة التقليد و القراءة. الخلاف الأول كان في ظاهره اختلاف تأويل لآي القرآن، و لكن قراءة ما، انتصرت و دعمتها سلطة سياسية بالسيف و القهر، لان حاجة الدولة و منطقها يخشيان الاختلاف. نؤمن بهذه الهوية التي كان تاريخها دليلا على الجدل التاريخي و على كونها هوية الإنسان يحكي تغريبته و أحزانه و آماله تحت الشمس، دون أن نجعلها في قطيعة مع الفكر الإنساني المبدع و الخلاق، فكل الناس باحثون عن هوية و لكن بلغات مختلفة.إن قيم الحرية و المساواة و العدالة و احترام الإنسان و قداسة جسده ليست قيم هوية بعينها، الإنسان عامة حالم بالسعادة حيثما وُجد. أليس هذا هوية مشتركة.؟؟؟

• في الإبداع

طُرحت مسألة الهوية في علاقة مباشرة بمسألة الإبداع. و حرية الإبداع من هذه الزاوية ليست مسألة جُزئية مُلحقة بجدول الحقوق المدنية للإنسان، إنها جوهر الثورة و عمق الثقافة و سرّ الوجود الإنساني. إن انهيار نظام مّا، لا يتمّ إلا بانهيار ثقافته و الذهنية التي غرسها في المجتمع، و الثورة – من ثمّة- لا تنجح إلا إذا نجح مشروعها الثقافي العام القائم على العقلانية و النقد و العصرانية و التحرر و التأكيد على كون الإنسان حر و سيد نفسه. و لذلك فلا وصاية على حرية المبدع، مهما كان مأتاها، لا باسم الأحزاب و لا باسم الأخلاق و بُنى المجتمع الذهنية الماقبلية و لا باسم المقدس و لا باسم السياسي أو المؤسساتي. ليس المبدع إلا صوت نفسه، و ليس صدى إلا لصوته. المبدع متمرد، و الإبداع من البدع أي الجدة و الطرافة، و ليس غريبا و الحال تلك، أن العربية قامت على اشتقاق من جذر واحد "الإبداع"/ "البدعة" و بقدر ما تقدم تاريخ العرب، ضاق مجال الأولى و اتسع مجال الثانية. ضاق الإبداع و الحرية و الخلق، و اتسع منطق "البدعة" أي الضلالة، و حُوصر المبدعون و همّش الإبداع، تحت سلطة كهنة الدين و سدنة النصوص و عبدة السلف.

ليست الثقافة من ثمة، ملحق ببرامج الأحزاب، إنها متقدمة على الجميع. المبدع يستشرفُ و ينقُدُ و يتصوّر، بالطريقة التي يراها لنفسه. لذلك فان الثقافة كالهوية تماما، متحركة و متجددة. المبدع عليه حتى يكون، أن يجدد روح الثقافة، ليست الثقافة سُباتا، إنها نقيضه تماما، و على المثقف أن يكون حرا مثل السياسي الذي يجب أن يكون مبدعا. أي أن لا يرتهن السياسي إلى الجاهز من المشاريع و الوصفات عليه أن يتفاعل مع شعبه و آلامه و أحلامه و انتظاراته، شعب تونس سنة 2011 ليس أي شعب آخر غير شعب تونس 2011، له أسئلته الخاصة و يبحث لها عن أجوبتها الخاصة، و لذلك عزف التونسي عن السياسة لأنها ليست مبدعة.

ليست الثقافة إلا حرية، و بمثل ما وجب تحريرها من سطوة المالي و السياسي و الديني و الاجتماعي، وجب تحريرها من هيمنة المثقف نفسهُ، أي من الأشخاص من سلاطين الثقافة. إن ذلك هو الذي أنتج تحديدا، علاقات الزبونية، التي باع فيها كهنة "الثقافة" أرواحهم و أقلامهم للشيطان و أمدوا الدكتاتوريات طيلة التاريخ الإنساني بجرعات أطالت عمرها و بررت قمعها. ليست الثقافة أشخاصا إنها مشروع. لا بد من جعلها نمط وجود، أي قيمة اعتبارية مستقلة، فلا بدّ من الاعتراف بالمثقف رمزيا و ماديا و اجتماعيا، فهو النموذج. لقد راهن بن علي على تهميش المعرفة و الثقافة و المبدعين عموما، غير من شاء ما يشاء، لقد نشر بمعاونة "نُخبه" ثقافة الصدفة، و الربح السريع و الغباء و الولاء و الصدفة. فلا بد من ان يُكرم المبدع، ليس منّة أو مزية، بل حقه على المجتمع و الدولة، فهو روح الشعب و ضميره.

إننا أن كنا نروم مجتمعا ديمقراطيا حرا، و قائما على تساوي الحظوظ و على التشاركية في القرار، مجتمع الإنسان الحر، فلا بديل لدينا عن توقير الثقافة و المعرفة، و عن تبجيل المبدعين، لان في ذلك رفع من شأن العقل أي النقد و الاستشراف. حتى نكون سُعداء علينا فقط أن نكون عُقلاء.

الاستاذ مهدي عبد الجواد , باحث جامعي

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.