على هامش ما يحدث في البلاد من أحداث رفي الآونة الأخيرة وما استتبعها من أفعال وردات أفعال حول “غزوة” كلية الآداب بسوسة من قبل بعض ذوي القمصان الباكستانية وما تعرضت له قناة نسمة وصحافيوها جراء عرض شريط كرتوني لم يرض البعض كتب …
الرسالة الوهابيّة.. وصلت متأخّرة بقرنين ! |
على هامش ما يحدث في البلاد من أحداث رفي الآونة الأخيرة وما استتبعها من أفعال وردات أفعال حول "غزوة" كلية الآداب بسوسة من قبل بعض ذوي القمصان الباكستانية وما تعرضت له قناة نسمة وصحافيوها جراء عرض شريط كرتوني لم يرض البعض كتب صديقنا مختار الخلفاوي هذا النص الرائع دفاعا عن الحرية , حريتنا جميعا وها نحن نعيد نشره تعميما للفائدة :
شرّقت "الرسالة الوهابيّة" وغرّبت، حتى أدركت تونس المحروسة بعد زهاء القرنين من تاريخ ابتعاثها. كان ردّ علماء تونس، وقتها، حاسما قاطعا في رفض تهديدات "أسلم تسلم" التي أرسل بها الملك سعود بن عبد العزيز بن سعود، وصاحبه محمّد بن عبد الوهاب. والرسالة الوهابيّة التي صدرت عن ميثاق جمع زعيما قبليّا طموحا ورجل دين قليل الثقافة تحت اسم "ميثاق نجد" توجّهت، في مطلع القرن التاسع عشر، إلى باي تونس "حمّودة باشا" (1795- 1814 ) وإلى داي الجزائر وسلطان المغرب، وردّ عليها علماء تونس خاصّة ردّا يصلح مرجعا في فهم المذهب الوهابيّ، وفي تفكيك دعوته، ونقده من منظور فقهي دينيّ صرف، وبالقياس إلى مستوى المعارف في ذلك العصر، وردّ عليها الشيخ عمر المحجوب قاضي ومفتي الديار التونسية (ت 1807) ، كما ردّ عليها المفتي المالكيّ إسماعيل بن محمّد باشا التميميّ ردّا معروفا بـ " المنح الإلهيّة في طمس الضلالة الوهابيّة"، فضلا عن ردود أخرى تصلح لتكون جميعا تحت عنوان واحد: الرسالة التونسيّة في الردّ على الدعوة الوهابيّة. وللمستزيد الرجوع إلى (إتحاف الزمان ) لابن أبي الضياف لمعاينة تاريخيّة الرسالة والردود عليها، أو العودة إلى تحليل علميّ رصين في كتاب حمادي الرديسي وأسماء نويرة الموسوم بـ "الرد على الوهابية في القرن التاسع عشر". عن حوادث التكفير والتفسيق والإرهاب التي تزدهر في برّ تونس، اليوم، أتحدّث. وفي البال أنّ الآلة العمياء التي تغذّي العنف وتحرّض على الكراهية والتباغض والاحتراب الأهليّ ليست بمعزل عن تلك الدعوة البدويّة المتشدّدة التي لم تجد لها في تونس مستقرّا منذ قرنين، في الوقت الذي وجدت فيه ذيوعا في البيئات الآسيوية الهندية والباكستانية خصوصا نظرا لتوازنات ديمغرافية إثنية ودينيّة بالأساس. الرسالة لم تأت إلينا هذه المرّة عبر رسول من لحم ودم ينتظر العودة بجواب الباي مع رحلة الحجيج، ولكنّها جاءت إلينا من السماء عبر فضائيّات نفطيّة دعويّة تفاعلت مع معطيات موضوعيّة محلّية لتنتج هذه الظاهرة العقدية والسياسيّة المركّبة التي بدأت تغزو المشهد التونسيّ، في شكل "جماعات" سلفيّة جهاديّة تكفيريّة، في الوقت الذي اضمحلّت فيه أو تكاد تيّارات مسالمة – قبل ثورة 14 جانفي – كانت تُعرف في أوساط الدارسين بالسلفيّة العلميّة. في بحر الأسبوع الجاري، جدّت أحداث خطيرة وقع التغاضي عنها جميعا للتركيز على جزئيّة صغيرة، من أجل التمويه والمغالطة. وشارك في هذه المغالطات ساسة من وراء الحجاب، وجمعيّات، وشخصيّات، ووسائل إعلام. مجموعة من السلفيّين المسلحين بالعصيّ والأسلحة البيضاء يغزون كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة لثلاثة أيام على التوالي، ويقع الاعتداء على الكاتب العامّ، وترهيب الطلبة والأساتذة والموظفين بحجّة فرض ترسيم إحدى المنقّبات في الكلّية، مع رفضها التفاوض حول زيّها المنافي لتراتيب المؤسّسات الجامعيّة والتربويّة. مجموعة ثانية من السلفيّين تجعل، عنوة، من إحدى قاعات كلّية الآداب والعلوم الإنسانية بالقيروان مصلّى، ولعلّ ذلك تمّ على سبيل الغنيمة أو الفيء ! مجموعة أخرى، تتّخذ، يوم الأحد، من أحد المساجد القريبة من المركّب الجامعي بالمنار / تونس معسكرا لتنظيم الهجمة على قناة "نسمة"، وتتمّ ملاحقة أفرادها – وقد التحق بهم بعض الشباب من الأحياء المجاورة – من قبل قوّات الأمن، في الوقت الذي تصل فيه مجموعة أخرى إلى مقرّ القناة تلبية لدعوة قادتها بغلق القناة وإلا حرقها، وقتل العاملين فيها، وتمرّ إلى الهجوم على أبواب المؤسّسة لولا تدخّل الأمن. وإن كان كلّ ذي عقل يرى في الحوادث المذكورة خطّة منظّمة، وهجمة ممنهجة، فإنّ البعض الآخر كان له رأي مختلف. لقد تمّ "فهم" هذه الاستعراضات السلفية الدوريّة وفق منطق أعور يقوم على المغالطة والدمغجة. منطق يبرّر فيه العنف وفق قطعيّات رقابيّة عمياء: الإسلام مستهدف، والمشاعر مستفزّة بقُبلة على التلفزيون، أو بقصيدة مارقة في ديوان، أو بصفحة في كتاب من كتب الباه أو حتّى بصورة من صور الكرتون ! واختُصر الجدل كلّه – وهل ثمّة جدلٌ حقّا أم هو هياج وحالات هستيريّة مستوحاة من سيناريوهات باكستانيّة قندهاريّة؟ – على جزئيّة صغيرة جدا من الفيلم الذي عرضته القناة التلفزيونية، لتبرّر التحرّكات الاحتجاجيّة والدعوات إلى العنف والإرهاب. من أبرز المغالطات تحويل الموضوع من فيلم تحريك يحكي سيرة ذاتية لطفلة إيرانيّة ناضل أبواها ضدّ الشاه، وثارا عليه ضمن من ثار من الشعب الإيراني بمختلف أطيافه، لينقلب الخميني على الجميع، وتؤول بذلك "الثورة" الإيرانيّة إلى أكبر الديكتاتوريات – تحويل كل ذلك باختزاله في مشهد قصير إنساني وشعريّ عميق بين طفلة يزورها إلهها المخصوص (في فيلم من الصور المتحرّكة)..الغاية من هذا التحويل واضحة: حتى لا ينتبه الناس إلى العبرة من الفيلم، وهي أن الثورة لا تكون إلا مقترنة بفكرة التقدّم ! لا ألوم من هبّ ودبّ الذين أضربوا عن شواغلهم ليتفرّغوا للذبّ عن بيضة الإسلام التي لا يهدّدها إلاّ خيال مريض ونفوس مسكونة بعقدة الاضطهاد. ولا ألوم زفرةً حرّى تخرج من صدر "مكلوم" لم يشاهد الفيلم، أصلا، ولم يتابع النقاش حوله، ولا يعرف منازل الرجال والنساء، ولا سياقات الموضوع، ومع ذلك كلّه فهو مصدّق لما "يرويه" بعض ثقاتنا عن بعض ثقاتهم كابرا عن كابر ! – لا ألوم هؤلاء، إنّما أرثي حال جماعة من "المثقّفين"، وأخشى أنّهم بصمتهم عن نصرة الحرّية والإبداع وبمنطقهم الأعور الذي يزيّن الإرهاب والعنف والتعصّب بحجّة أنّ القناة غير بريئة في برمجة الفيلم – أخشى أنهم سيقولون يوما: أكِلنا يوم أكِل الثور الأبيض، ولاتِ حين ندم ! ووفق حبل التنازلات المقدّمة للمتعصّبين والغوغاء تارة باسم الوفاق وطورا باسم الوحدة الوطنيّة وطورا ثالثا باسم التهدئة، ولمن يستمرئ استعراضاتهم، وفي ظلّ هشاشة الدولة، لنتصوّر ما ستؤول إليه الأمور إذا تمّ القبول بهذا المنطق الخطير، وبهذا الاعتداء السافر على الديمقراطيّة التي لولاها لما تمكّن هؤلاء "الغرباء" من القيام باستعراضاتهم. وسنرى قريبا دعوات إلى حرق ألف ليلة وليلة، وإلى حرق ديوان أبي نواس، ورسالة الغفران وغيرها. مادامت الديمقراطيّة هي الحلّ، فلتكنْ ديمقراطيّة كاملة لا على مقاس المتزمّتين والمتعصّبين، ولا ديمقراطيّة بلا حرّية، ولا حدّ للحرّية إلا إذا وصلت إلى الاعتداء على الآخرين أو حرّضت على العنف والكره والتمييز، فصارت تحت طائلة القانون. إنّ الصدأ يعلو العقول من قلّة الاستعمال، فلا بدّ من شحذها مرّة بعد مرّة، و إنّ إصرار الوهابيّة على تبليغ رسالة رفضها التونسيّون منذ قرنين ليس تخفى بواعثه وغاياته في علاقة بالثورة التونسيّة التي ينظر إليها "ميثاق نجد" بكثير من الريبة والحذر !
|
|