كتب الدكتور شكري المبخوت النص التالي ونشره على مدونته ” الحاشية والمتن على الرابط التالي : (http://chokri-mabkhout.blogspot.com/ ) وهو يتحدث عن شاعر تونس الأول أبو القاسم الشابي ونحن نعيد نشره مع سالف شكرنا للصديق شكري المبخوت…
أسطورة الشابي , عودة إلى الشعري والسياسي |
كتب الدكتور شكري المبخوت النص التالي ونشره على مدونته " الحاشية والمتن على الرابط التالي : (http://chokri-mabkhout.blogspot.com/ ) وهو يتحدث عن شاعر تونس الأول أبو القاسم الشابي ونحن نعيد نشره مع سالف شكرنا للصديق شكري المبخوت… وفي ما يلي النص الكامل :
1 تعود ذكرى أبي القاسم حاملة معها صدى بعيدا جدّا من بيت شعري له مفعول السحر سرعان ما امتزج بأصوت مبهرة مجلجلة تردّد صرخة الشعب وتجسّد معاني القصيدة على قارعة الطريق. وما الصدى كالصوت وما الخبر كالعيان.لحظة فاتنة تختزل ما كان وما هو كائن وما سوف يكون كأنّ الثورة تعيد من خلالها ما قالته ، في يوم غائم من أيام ألمانيا بعيد الحرب الأولى على لسان روزا لوكسمبورغ: "كنت وها أنذا وسأكون".صدقت النبوءة ،وستصدق كلّ حين، ما دامت رحى حرب الطبقات دائرة وجلّت الشعوب، وستظلّ أبدا بهيّة جليلة، ما دام فيها عرق من الإرادة ينبض.
2 أصغينا في أواخر سنة 2009 بكليّة الآداب والفنون والإنسانيّات إلى باحث شاب يتحدّث، في ندوة مخصصة للاحتفال بمائويّة الشابي، عن أسطورة الشابي شاعرا وطنيّا.والحاصل من حديثه أنّ الشابي لم يكن شاعرا متمرّدا أو شاعرا ثوريّا بل لم يكن شاعرا وطنيّا إذا قورن بمفدي زكريا الجزائري ، فقراءة "أغاني الحياة" لا تكشف عن شاعر يحمل مشروعا وطنيّا بما يسوّغ رفعه إلى مصاف الشاعر الوطنيّ. ولمزيد التشفّي ، قتلا للأب ( الشعريّ ) أوقلّة فهم للأدب، لم يتورّع الباحث الشاب عن الزعم أنّ الاحتفال بمائويّة الشابي في تلك السنة كان من باب المزحة أكثر منه من باب النشاط الشعري أو الفكري أو العلميّ مقارنة بمشروع الشاعر يانيس ريتسوس اليونانيّ الذي احتفل العالم سنة 2009 أيضا بمائويته. لقد اكتملت الدائرة عند باحثنا ذي الفكر النقديّ الوقاد أو هكذا شبّه له:لا وطنية حقّا في شعر الشابي عربيّا و عالميّا.إنّه أسطورة صنعتها السياسة ووظّفتها.والمعلوم أنّ ما قيل ترديد لفكرة عن الشابي روّجها بعض من يعمل بمبدإ خالف تعرف ولكنّ باحثنا الشاب كان " شجاعا" في طرحها في ندوة علميّة وإن كان ما اعتبره بحثا في علاقة السياسي والشعري لا يستند إلى نظريّة نقديّة ولا يحتكم إلى منوال أو منهج مما تعتدّ به المؤسسات الأكاديميّة.
3 يكذّب التاريخ الثقافي لتونس مزاعم الباحث الشاب وأضرابه.فلم يكن من باب الصدفة أن يلقي الشابي محاضرته عن "الخيال الشعريّ عند العرب" سنة 1929 بعد أن أصدر الثعالبي " تونس الشهيدة " سنة 1920 وكتب محمد الصالح مزالي كتب " تطوّر تونس الاقتصادي" في السنة نفسها وأصدر الحدّاد " العمال التونسيون وظهور الحركة النقابيّة" سنة 1927 ثم كتابه " إمرأتنا في الشريعة والمجتمع" سنة 1930. إنّ نظم الأحداث التاريخيّة يكشف لنا أن الشابّي، ابن الجامع الأعظم، حين طرح سؤال اللّغة بمحمولها الرمزيّ والخيالي وهي تتوق إلى أن تقول تحوّلات العصر و أوجاع الإنسان التونسيّ وآماله لم يكن إلاّ صوتا قويّا ضمن أصوات ارتفعت لتعبّر عن المشروع الثقافي التونسيّ نذكر منها صوت الحدّاد ، ابن الجامع المعمور،الذي طرح سؤال المجتمع بوجهيه العمّال والمرأة وصوت الثعالبي الذي ألقى سؤال التحرّر الوطنيّ وصوت العلاّمة الإمام محمّد الطاهر بن عاشور الذي سعى منذ سنة 1910 إلى الإجابة عن سؤال تحديث التعليم الزيتوني وصوت محمّد الصالح مزالي الذي تناول سؤال شروط النهضة الاقتصاديّة. كان الزمن زمن الأسئلة الحارقة الجوهريّة عن الفكر والثقافة والمجتمع والاقتصاد والسياسة: أسئلة ملحّة قلقة صيغت بلغة بدت متجاوزة لعصرها أحيانا أو متخلّفة عنه ولكنّها لم تخرج البتّة كالنباتات الشيطانيّة من أدمغة أصحابها بما أنّ " الإنسانيّة لا تطرح على نفسها إلاّ الأسئلة التي تستطيع أن تجيب عليها" كما قال كارل ماركس ذات تأمّل فلسفيّ.
4 تفاعلت الأسئلة والتقت الإرادات الجامحة في ضرب من الشوق إلى التحديث العميق والبحث عن سبل أخرى للعيش والإقامة في العالم.
5 لم يكن أبو القاسم بروحه القلقة وغريزته الشاعرة ونشدانه للحرية والانعتاق ونزعته إلى التمرّد والانشقاق إلاّ صورة من تحوّلات عميقة في النسق الثقافيّ السائد اتخذت فيه تلك النخبة النيّرة التي جمعت أبناء جامع الزيتونة المعمور إلى أبناء المدرسة الصادقيّة من الثقافة والفكر أداة لمقاومة الهيمنة الاستعماريّة وتغيير مجرى التاريخ وصياغة مكوّنات الهويّة ، عروبة وإسلاما، صياغة تقوى بها على مواجهة العصر.وربّما كان في هذا بعض ما يشرّع ترسيخ صورة الشابي شاعرا وطنيّا وبعض ما أتاح للتونسيّين أن يصنعوا منه رمزا لمشروعهم التحرّري وأن يُحِلُّوه في نفوسهم وضمائرهم محلاّ رفيعا وأن يُحَلُّوا نشيد ثورتهم ( نشيدهم الرسميّ بعد ذلك ) بذاك البيت البسيط العميق: إذا الشعب يوما أراد …
6 إذا صحّ هذا فإنّ خصوصيّة التجربة الفرديّة للشابيّ لا تنفصل عن السياق الثقافيّ العام لتكتسب من معنى التاريخ وشرعيّته معناها ومشروعيتها.
7 ليكن قولنا مستندا إلى منطق غائيّ قابل للدحض والنقض ولكنّنا أمام ميتافيزيقا المعنى وقد تجسّد في الواقع وحلم الفكرة التي استحالت قوّة ماديّة حين تغلغلت في روح الشعب ونخبه.
8
9
10 ومن قلب هذه المفارقة أيضا تشكّلت أسطورة الشابيّ بالمعنى التأسيسيّ الخلاّق الذي صوّره شاعرا وطنيّا ثوريّا استثنائيّا يلخّص توقا جارفا عارما إلى التحديث في الشعر والثقافة والحياة. وسرّ المفارقة هيّن بسيط لو ندريّ:إنّ الشابيّ من طبقة نادرة في طبقات الشعراء المحدثين عندنا وعند غيرنا وهي طبقة شعراء التجربة الذين يختلط عندهم جيّد الشعر بما دونه وتعجز الأساليب أحيانا وطرائق الكتابة عن قول ما في ضمائرهم المتلجلجة وخيالهم الجامح .فأفق التجربة عند الشابي وأضرابه من طبقته العالية هو كينونة الشعر التي لا تختصر في قصيدة تفرغ في قوالب لغويّة ولا تختصر في حزمة من النصوص الشعريّة يسمّيها الناشر أو الشاعر ديوانا .ولكنها تجربة تتأسّس على سؤال الإقامة الشعريّة في العالم .وهي تقتضي خوض تجربة على نحو جذريّ لا تكون معه النصوص المنجزة إلاّ أطلالا وآثارا باقية تشهد على أطياف غائمة من تلك التجربة دون أن تكون قادرة على قولها قولا بيّنا مفصّلا مدقّقا.فقد جعل الجهد والاجتهاد والمجاهدة للإجابة عن سؤال الكينونة بما هي إقامة أبا القاسم الشابيّ صاحبَ مشروع شعريّ منفتح بعيد المدى صنع في أعطافه عالما شعريّا فاتنا بلا ضفاف: هو أفق لا حدود وهو تعدّد واختلاف لا تنميط وتماثل.
11
12 هل كان الشابي رمزا وطنيّا؟ نعم فبشعره صنعت لحظة ثوريّة تاريخيّة فاتنة. هل كان الشابي شاعرا ثوريّا؟ نعم فقد كان واقعيّا فطلب المستحيل الذي أخرجه مخرج الممكن. لقد كان الشابيّ ببساطة هي من تحصيل الحاصل شاعرا وكفى.
|
|