نشر موقع الأوان (http://www.alawan.org/) هذه المقالة المتميزة للأستاذ الدكتور الحبيب الجنحاني التي صدرت في الأصل بمجلة العربي الكويتية في عدد نوفمبر 2011 ولمزيد التعريف بفحواها نعيد نشرها في ركن “المساهمات” …
المواطـــنــــة والحــــريــــة |
نشر موقع الأوان (http://www.alawan.org/) هذه المقالة المتميزة للأستاذ الدكتور الحبيب الجنحاني التي صدرت في الأصل بمجلة العربي الكويتية في عدد نوفمبر 2011 ولمزيد التعريف بفحواها نعيد نشرها في ركن "المساهمات" إن قضية المواطنة والحرية مطروحة سياسيا وفكريا في الفضاء العربي الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد حاول كثير من رواد الحركات الإصلاحية تنبيت المفهومين بمعناهما الحديث في التربة العربية، مفيدين من التجربة الغربية التي عرفوها عن كثب، وأود قبل تناول الموضوع في أدبيات الفكر السياسي العربي الحديث الإشارة إلى أن مفهوم المواطنة قد برز في المجتمع الغربي (عام 1783) في أوج نضج فلسفة الأنوار، وعاشه الناس في عالم الفعل أيام الثورة الفرنسية، وقد ألغت ألقاب عصر الإقطاع، وقلصت من سيطرة الكهنوت الكنيسي، وأصبح الناس يخاطبون بمواطن، أومواطنة، ثم تطور المفهوم عبر ثورات متعددة، وفي خضم صراع سياسي واجتماعي عاشه القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وأسهمت في ذلك تيارات سياسية واجتماعية، وفكرية متعددة، وبخاصة التيار الليبرالي، والتيار الماركسي. – مقولة لا سلطان على العقل إلى العقل نفسه. – المقولة الثانية: تدمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية والحرية، والعدل السياسي الاجتماعي. – المقولة الثالثة: تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتمية. – المقولة الرابعة: تتعلق بشرعية السلطة، فلم تنشأ حركة الأنوار باعتبارها تيارا فلسفيا أو فكريا مجردا، بل ولدت، وشقت طريقها في خضم صراع مع الواقع المعقد، وهو واقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكهنوت الكنيسي وقوة النظم السياسية الاستبدادية، فليس من الصدفة إذن أن يكون أخطر سؤال طرحه فلاسفة عصر الأنوار، وأبلغه أثرا في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها للتحكم في مصير الشعوب؟ وجاء الجواب فيما طرحه روسو من نظريات في "العقد الاجتماعي" فليس من الصدفة أن يوليه أحد رواد النهضة العربية الحديثة رفاعة الطهطاوي (1801-1873) عناية خاصة، فمن المعروف أن ايمانويل كنت (1724-1804) لم يقر أي تناقض بين الإيمان والعقل في فلسفته، وفي حياته، ولكنه يقول عن مؤسسات الكهنوت الديني، وعن السلطة الاستبدادية أنها مؤسسات "تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدسة". ونعود لنؤكد أن هذه المقولات قد انعكست بدرجات متفاوتة في كتابات المفكرين العرب ابتداء من الطهطاوي إلى فرح أنطون (1877-1922)، وأديب اسحق (1856-1885)، وسلامة موسى (1887- 1922)، وأحمد لطفي السيد (1871-1963)، وطه حسين (1889-1973)، فالحداثة التي تأثر بها التنويريون هي حداثة عصر الأنوار التي دشنت عصر الإنسان، وحررت إرادته ليعي أنه صانع تاريخه، وبالتالي فهو مسؤول عن اختياره، وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم بعد أن افترى زبانيته على الشعوب قرونا طويلة، فالسلطة شأن إنساني دنيوي، فالإنسان وحده، وعبر نضاله الطويل له الحق في اختيار أفضل أنماط الحكم لتسيير شؤونه، وله وحده الحق في تغييرها، إذا لم تستجب لمصالحه، والحداثة المطلة من عباءة فلسفة الأنوار تعني العلاقة الوثيقة التي لا انفصال لها بين مفهومين: العقلانية والتحرر، فالعقلانية لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرر، ويضحي التحرر، وما يقارن به من حريات، وحقوق، وديمقراطية ومواطنة بدون عقلانية مستحيلا. وهكذا أصبحت ممارسة الفكر العقلاني هي المحك، وحجر الزاوية، وبرزت وظيفته النبيلة في قيادة التقدم والتحرر، فلا حداثة دون تحرير الإنسان من كل المسلمات والبديهيات، والميتافيزيقيات، والأساطير، وتحرير التاريخ من مقولة الحتمية. ولعله من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أن رواد الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر قد ميزوا تمييزا واضحا بين وجهي الغرب: الغرب الاستعماري الذي قاوموه داخل أوطانهم، وغرب التقدم الذي حاولوا الاقتباس منه، فتحدثوا عن الحريات العامة في أوروبا، وعن الدساتير، وعن حقوق المواطنة، وعن دولة المؤسسات، وتبين أن حديثهم في رحلاتهم إلى أوروبا عن هذه القضايا لم يأت صدفة، بل كان هادفا إلى إطلاع الرأي العام العربي والإسلامي يومئذ على مظاهر التقدم التي يتمتع بها الغرب، وهي مظاهر أفرزها عصر الحداثة. وعندما نعود إلى الفضاء العربي نجد أن المفهوم السائد إلى مطلع القرن العشرين هو مفهوم الرعية، ولم يكن الناس رعايا الدولة، بل هم رعايا الخليفة، أو السلطان، أو الإمام، أو الأمير، وبعد ميلاد النظم الجمهورية بقوا رعايا السلطة، ورعايا الحاكم بأمره رغم المظاهر الشكلية من دساتير، ومجالس نيابية، وانتخابات. برز مفهوم الوطن والمواطن بالمعنى الحديث في أدبيات الفكر الإصلاحي العربي ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر، فلم يتحدث رواد الإصلاح عن المواطنة، ولكنهم استعملوا مفهوم حب الوطن وربطوه بالحرية، وبالحكم المطلق الاستبدادي الذي زهد في الوطن بالأمس، ويزهّد في المواطنة اليوم. كتب أحمد بن أبي الضياف (1802-1874) في كتابه "إتحاف أهل الزمان …" منددا بالحكم المطلق، ومعللا ضعف الممالك الإسلامية قال: "ومن المعلوم أن شدة الملك القهري تفضي إلى نقص في بعض الكمالات الإنسانية من الشجاعة، وإباءة الضيم، والمدافعة عن المروءة، وحب الوطن والغيرة عليه حتى صار بعض الجهات من المسلمين عبيد جباية ليس لهم من مسقط رؤوسهم وبلادهم، ومنبت آبائهم وأجدادهم إلا إعطاء الدرهم والدينار على مذلة وصغار، والربط على الخسف ربط الحمار حتى زهدوا في حب الوطن والدار، وانسلخوا من أخلاق الأحرار، وهذا أعظم الأسباب في ضعف الممالك الإسلامية وخرابها". وما أشبه الليلة بالبارحة! إن المواطنة مرتبطة بحب الوطن والذود عنه، ولا يتم ذلك إلى إذا شعر المواطن أنه يتمتع بحقوقه، والتي هي متلازمة مع الواجبات. وأود الإشارة في هذا الصدد إلى أن المواطنة مرتبطة بالقدوة والنموذج كذلك، فلا يمكن أن تطالب السلطة المواطن باحترام قيم المواطنة، والدفاع عن المصلحة العامة وهي غارقة إلى الأذقان في الفساد والسمسرة، وقاطعة أرزاق الناس ورقابهم، إذ أن المقولة القديمة "الناس على دين ملوكهم" ما تزال مؤثرة في المجتمعات العربية. من المنطقي والمؤمل أن يتجذر الشعور بالمواطنة، وتتوارى عندئذ النعرات العشائرية والأثنية، والطائفية بعد مرور قرن ونصف على نص ابن أبي الضياف، ثم بروز حركات تحرر وطنية عارمة في الوطن العربي طيلة النصف الأول من القرن العشرين مرتكزة أساسا على الشعور بحب الوطن، والاستماتة في الذود عنه، ثم تلت ذلك موجة السياسات التربوية، وتنشئة أجيال جديدة من المتعلمين، وما ارتبط بذلك من التدرج في السلم الاجتماعي، كل هذه العوامل كان من المؤمل أن تفضي إلى تعمق الشعور بالمواطنة، ولكن هذه النتيجة المنطقية لم تتحقق في جل الحالات، كما يشهد على ذلك الواقع العربي اليوم، وهنا يطرح نفسه السؤال التالي: ماهي الأسباب؟ إن وقوع الأقطار العربية في كثير الحالات تحت نير المحنتين معا: العسكر، ونظام الحزب الواحد لم يلحق الضرر بالمواطنة في مستوى الوطن الصغير فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الوطن الكبير، فقد حلم عدد كبير في صفوف النخبة المثقفة العربية أن يتحول الشعور بالمواطنة في المستوى القطري بعد المد العارم الذي عرفه التيار القومي في الخمسينات إلى ترسخ ظاهرة المواطنة العربية، خصوصا وأن أسسها السياسية والحضارية عريقة في التربة العربية، ولكن انعدام المواطنة السياسية للأسباب التي ألمعت إليها عصف بالأسس، وأدى إلى ضعف الشعور بالهوية القومية، بل أفسح المجال لبروز هويات ضيقة متناقضة مع الهوية الوطنية والقومية معا، وأعني الهويات القبلية، والإثنية، والطائفية. أ- المواطنة وثيقة الصلة بالتضامن، فلا مواطنة حقيقية بدون وجود روح تضامن قوية تذود عن الوطن عندما يهدده خطر خارجي، وتذود في الداخل عن المصلحة العامة التي تجمع بين سكان الوطن الواحد، وهنا يبرز حاليا في الوطن العربي أخطر عائق أمام نشر روح المواطنة، فمن المعروف أن الطبقة الوسطى مثلت الدعامة الصلبة لحركات التحرر العربية، ثم كان لها أثر بعيد المدى في بناء الدولة الوطنية غداة الاستقلال، هذه الطبقة تدحرجت نحو الأسفل منذ مطلع الثمانينات بصفة خاصة، وبرزت فئة اجتماعية من كبار الأثرياء أصبح لها دور خطير في صنع القرار السياسي، وارتبطت برأس المال العالمي حماية لمصالحها في الداخل، ودعما لنفوذها، بل أصبحت في بعض الحالات متحالفة مع قوى أجنبية ضد المصلحة الوطنية. إنه من الطبيعي أن يحتد في هذا الوضع الجديد الصراع الاجتماعي ليصبح معوقا خطير الشأن لفكرة المواطنة، فمن الصعب في هذه الحالة أن يركب نفس السفينة سكان أحياء الصفيح وسكان أرخبيل الأثرياء في المدن العربية، وهذا الصنف هو أقرب إلى سكان أحياء الأثرياء في العواصم الغربية منه إلى سكان أحياء الفقراء المتاخمة لهم. ب- تتصل القضية الثانية بالمواطنة والكونية، فمن الجوانب الإيجابية للعولمة سقوط الحدود والمسافات، وتحول العالم إلى قرية كونية بفضل الثورة الاتصالية، فليس من المبالغة القول: إن صنفا جديدا من صنوف المواطنة قد ولد، وأعني المواطنة الكونية والسمة الأساسية لمحتوى المواطنة الكونية هي حقوق الإنسان بشتى أصنافها، إذ أن الإنسان في هذه الحالة يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة إلى فضاء أرحب نتيجة التمسك بهذه المواطنة، ويصبح حينئذ المس بهذه الحقوق في أي منطقة من مناطق العالم مهما كانت نائية وقصية يجد رد الفعل في مستوى العالم. إن مفهوم الجماعة الكونية يمثل الملامح الجنينية لمفهوم المواطنة العالمية المطروحة اليوم سياسيا وفكريا. فقد تجاوز الشعور بالحرية، والأمان من الظلم لدى هذا الشيخ الزيتوني المستنير، وهو يتجول في باريس قبل ما يربو عن قرن ونصف حدود الوطن، وما ارتبط به من هوية منغلقة، متمنيا أن تمتزج الأنا بهوية الآخر ليتنفس هواء الحرية في وطنه. مجلة العربى الكويتية نوفمبر 2011 من هو الحبيب الجنحاني:
|
. |