ها أن الثورة التونسية تطوي سنتها الأولى وهي تسير بخطى حثيثة لاستكمال مسار انتقالها الديمقراطي من شرعية توافقية إلى شرعية انتخابية منذورة لصياغة دستور يضبط ملامح النظام السياسي الجديد للجمهورية الثانية ولمجابهة تحديات عاجلة هي بمثابة …
بعد عام على الثورة التونسية “النخبة بين العمى الإيديولوجي وفوبيا المصطلح” |
نحو قيم إنسانية مشتركة : ها أن الثورة التونسية تطوي سنتها الأولى وهي تسير بخطى حثيثة لاستكمال مسار انتقالها الديمقراطي من شرعية توافقية إلى شرعية انتخابية منذورة لصياغة دستور يضبط ملامح النظام السياسي الجديد للجمهورية الثانية ولمجابهة تحديات عاجلة هي بمثابة تركة ثقيلة من العهد البائد جاءت الثورة وما اكتنفها من انفلاتات أمنية واجتماعية زادت الطين بلة فتضاعف عدد العاطلين ولا سيما بطالة أصحاب الشهائد وارتفعت نسبة الفقر واتسعت تبعا لذلك قاعدته الاجتماعية إضافة إلى الارتفاع الجنوني للأسعار والذي تآكلت تبعا له القدرة الشرائية للمواطن لمعالجتها . في خضم كل ذلك ولا سيما في الفترة السابقة من الحملة الانتخابية وأثناءها أثيرت مسائل مثيرة للجدل كمسالة الحرية حرية الإبداع وعلاقتها بالمقدس ثم مسالة العلمنة والدين ثم مسألة الهوية وهي أسئلة حارقة لم يكن الوقت آنذاك كافيا لان يدار حولها نقاش معمق يستوفي مختلف جوانبها وينتشلها من الاستقطاب الثنائي ذي التوظيف الإيديولوجي حيث يتمترس كل طرف حول قناعاته وستميت في الدفاع عنها في حين أن هذه القناعات في حد ذاتها في حاجة غلى المراجعة و النقد على ضوء المستجدات والأوضاع الجديدة. إن ما يلزمنا الآن هو شيء من الانزياح نحو أرضية مشتركة يقدم فيها كل طرف من أطراف الصراع. رؤية جديدة مبنية على مراجعات نقدية للتصورات والأفكار على ضوء الأوضاع المستجدة في الفكر وفي نمط الحياة الجديدين تكون صدى صادقا لهوية الشعب ولإرثه الحضاري وفي الآن نفسه تنأى به عن كل شوفينية منغلقة فيتفاعل مع مكتسبات العصر تفاعلا إيجابيا يؤهله لان يكون قادرا على صياغة نموذج خاص به يمكنه من لعب دور على الساحة الإقليمية والدولية فمن المسائل التي تقتضي معالجة عاجلة مسالة النمط الاجتماعي الحديث المراد صياغته والاتفاق حوله. هذا النمط الذي سيتكفل الدستور بضبط ملامحه ويستدعى من القوى الاجتماعية الفاعلة وهي الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني والمثقفين والجامعيين التفكير العميق في الرؤى والبدائل المزمع طرحها ومناقشتها وذلك حتى تنأى بمجتمعنا الديمقراطي الوليد من التجاذبات السياسية . والاستقطاب الثنائي والذي قد يقذف بنا في متاهات الفوضى والاضطراب من ذلك إشكالية العلمنة ودور الدين في مجتمعنا . قوى العلمنة والعمى الفكري لطالما اكتسى الاستقطاب الثنائي بين العلمانيين والإسلاميين صراعا حول المواقع داخل المجتمع و تجلت الحرب بينهما في مدى قدرة كل طرف من الأطراف على جر منافسه إلى الموقع الذي يريده حتى يجبره على تقديم تنازلات تمثل له نوعا من الانتصار. في الوقت الذي لا ينفك فيه العلمانيون على نعت المشروع الإسلامي بالمتخلف والظلامي والرجعي وذلك انطلاقا من مبادئ ورؤى مستمدة من الفكر الغربي ومن نظرته للكون و للإنسان و للمجتمع يغيب عن هؤلاء أن هذا التمشي يحمل في داخله أسباب تهافته . فلئن كان الإسلاميون مدعوون إلى مراجعة عميقة لتصوراتهم فالأمر كذلك ينسحب على العلمانيين لان ما يطرحونه هو عملية إسقاط مسار تاريخي ذي ملامح مخصوصة على مسار تاريخي آخر مختلف تماما .
فطرح نمط دولة لائكية تفصل الدين عن الدولة طرح مغلوط من أساسه لأنه حتى توجد لائكية فإنه لا بد أن توجد أولا مؤسسة دينية مهيمنة تقوم واسطة بين السماء والأرض وتنطق باسم الله : تحرم و تحلل تعزل وتنصب تحارب وتصالح (1) فاللائكية لا يمكن أن تفهم إلا في سياق تاريخي خاص يحتدم فيه صراع بين مؤسستين واحدة دينية شمولية و الثانية سياسية نازعة إلى التحرر.إ نّ الدولة الغربية الحديثة تبنت اللائكية قصد تحييد الكنيسة التي حالت طيلة القرون الوسطى دون انتشار أفكار التحرر والمساواة والأخوة ومن هنا جاء شعار فصل الدين عن الدولة مستجيبا للثورة على المتحكمين في الأرض باسم السماء فهل كان هناك ما يبرر تحييد الإسلام ومؤسساته؟ فاللائكية بهذا المعنى والتي تصر إلى الآن قوى العلمنة كالأحزاب اليسارية والليبرالية على تبنيها جعلتنا نعيش تجارب تحديثية "مشوهة" و"عرجاء" لم تفض بنا إلى التقدم المنشود الذي ظلت هذه الأحزاب والتيارات تبشرنا به . فهذه النظرية المستنسخة عن اورويا مازالت إلى الآن تفعل فعلها في بعض النخب التونسية .إن ما عاشته تونس منذ الاستقلال غلى الآن في خصوص علاقة الدولة بالدين هو خليط غريب من اللائكية والتيوقراطية والمعاداة . للدين لقد أخذت من اللائكية قوة النظام السياسي غير المستند إلى عقيدة دينية و من التيوقراطية اعتبار الحكومة نفسها المرجع الأصلح و الوحيد لفهم الإسلام و تحقيقه وإن ما عاداه من المفاهيم والتحركات ليست إلا وهما وظلاما ومن المعاداة للدين رفض جوانب رئيسية من معتقدات المؤمنين وتحقيرها باعتبارها عوامل إضعاف وتأخر وكان من جراء هذا الخلط العجيب المفتقد لأي نسق داخلي بروز الاحتجاج الإسلامي وتنامي الظاهرة الدينية بمختلف أشكالها (2). إضافة إلى المغالطة التاريخية l’anachonisme التي وقعت فيها النخبة التونسية عند معالجتها لمسألة العلاقة بين الدين والدولة فإنها أيضا أصيبت بالعمى الإيديولوجي الذي جعلها تغمض عينيها عن المراجعات الفكرية التي حدثت و تحدث في الغرب ولا سيما في علم الاجتماع الديني والانتروبولوجيا هذان العلمان ما انفكا يراجعان مفاهمهما و يعمقان تحليل الظاهرة الدينية في علاقتها بالفضاء الاجتماعي . فإميل بولا Emile Poulat يرفض بشدة مفهوم الحقل الديني le champ religieux الشهير والمتداول بكثرة في علم الاجتماع ويؤكد هذا الباحث على أن الديني le religieux لا يمكن اجتماعيا حصره في موضع ما إنه موجود في كل مكان ويفلت من تعريفاتنا ومن أطرنا ومن معاييرنا ويتفصّى من مقولاتنا ومن عناويننا(3).
في نفس الكتاب يذكر إميل بولا المؤرخين و علماء الاجتماع وحتى علماء اللاهوت والقساوسة أن الأفكار المعاصرة حول "العلمنة" والتي أضحت من المسلمات التي لا تقبل النقاش والمراجعة إنما تنطوي على ثلاثة أمور يمكن دحضها من ذلك أن العلمنة عملت على وضع حدود نهائية بين المجال الديني و المجال الدنيوي وهو أمر ليس بالبساطة التي يتصورها البعض حسب المؤلف فالمسالة في نظره تتعلق برؤية غربية للمشاكل المطروحة ثم حتى في فرنسا المنزوعة من نصرانيتها « déchristianisée » يبدو التقليد الكاثوليكي وذلك حسب نتائج عملية سبر الآراء أكثر صمودا مما قد توحي به بعض التراجعات المذهلة مثل نسبة حضور قداس يوم الأحد وكذلك عدد الكهنة المرسمين أما بيتر بيرقرpeter Berger صاحب التعريف الأكثر شهرة والأكثر دقة للعلمنة على حد عبارة الأستاذ عبد المجيد الشرفي(5) فإنه قد اشرف على كتاب جماعي قدم له و يبدو عنوان الكتاب مستفزا كما أن ما احتواه من بحوث ودراسات تسير في مسار مضاد لما عرف على العلمانيين من تنظيرات ارتقت إلى درجة البديهيات والمسلمات غير القابلة للنقاش ولا سيما تلك التي تعني بالعلاقة بين الدين والسياسة والقائمة على الفصل الحاد بين المجالين. هذه البحوث عملت على رصد الظواهر المتعددة التي تتجلى فيها حيوية الظاهرة الدينية على الساحة السياسية العالمية وقد شملت هذه الدراسات الإسلام والبروستانية والهندوسية. ويعترف بيتر برقر في هذا الكتاب "بان العالم اليوم هو أيضا شديد التدين أكثر من أي وقت مضى إن هذا الرأي الصادر عن احد عتاة المنظرين للعلمنة هو نوع من الاعتراف بان نظريته كانت خاطئة. فالفكرة التي راجت والتي تعتبر أن تحديث المجتمع يؤدي بالضرورة إلى زوال الدين من الفضاء العمومي ثم من المجال الخاص، تبين –حسب رأيه- أنها كانت زائفة فالوقائع كشفت –و على عكس المتوقع – أن هناك استمرارية نشيطة وفي بعض الأحيان تطوير لدور الأديان في المجتمعات الإنسانية (7). يسجل الكتاب أيضا تنوع العلاقات التي تقيمها الأديان مع الحداثة وهي تبدأ من موقف معاد لها. وهو الذي يمثله الإسلام حسب زعمه وهذا رأي فيه كثير من التجني لأنه مبني على جهل بحقيقة الإسلام و تاريخه إلى موقف يعلي من شان الديمقراطية والفرد وهو موقف التيار الإنجيلي le courant évangélique ومهما تكن الإستراتيجيات التي تعتمدها الأديان للتأقلم مع الحداثة فإن الأديان تحافظ على مساهمة هامة في شؤون العالم سواء كان ذلك في المجال السياسي الاقتصادي الاجتماعي والإنساني طالما أن الشعور الديني يظل سمة إنسانية خالدة(8) . في دراسة حديثة أنجزت سنة 2007 عمد صاحبها إلى العودة إلى إميل دوركهايم Emile Durkheim عالم الاجتماع الفرنسي (1858-1917) وإلى نظريتة حول العلاقة بين العلمنة و الدين والمجتمع ويرى صاحب الدراسة بيار حياة pierre hayet أن رؤية دوركهايم حول الظاهرة الدينية تقوم على ثلاث أطروحات: الأطروحة الأولى ترى أن الدين موجود وهو نظام من المعطيات الفعلية في كلمة هو حقيقة وكيف يمكن للعلم أن ينفي هذه الحقيقة؟ ! الأطروحة الثانية تعتبر أن الحدث الديني le fait religieux هو بالأساس حدث اجتماعي وحتى عندما يعاش كعقيدة خاصة وفردية فإن له حقيقة مستقلة عن الوعي الفردي. الأطروحة الثالثة ترى أن الدين أو الحدث الديني ليس محصورا في مجال محدد و لكنه وبأشكال مختلفة يؤثر في الوجود الاجتماعي برمته (9).إ نّ دور دوركهايم يرى في الدين الصيرورة التي بمقتضاها يمكن لكل مجتمع أن تتغير ملامحه وأن يتأمل نفسه رمزيا وأن يظهر بتبصر ما نسميه اليوم بالوظيفة النفعية للرمزية الدينية. إنّ الحدث الديني حسب دوركايم ليس إذن تعبيرا عن خير محض في ذاته وبذاته إنه يتجلى حسب طريقة رمزية وكتقوية للأحاسيس الجماعية وهذا يفترض أنه في حالة غياب الدين فإن الرابط الاجتماعي ينحل. يبدو دوركايم مهووسا بشبح حالة الحرب المرعبة و التي قد تعود ثانية في أية لحظة لذا يرى أن موت الشعوب أمر محتوم عندما تموت الآلهة (10). تلك بعض المراجعات التي تحدث داخل الفكر الغربي و المتصلة بمنزلة الدين في الفضاء الاجتماعي.لقد تبين لنا أن هذه المراجعات شملت النصوص التأسيسية لعلم الاجتماع في تعاطيه مع الظاهرة الدينية و التي ظلت النخبة التونسية في غفلة عنها و قد يعود ذلك إلى أنها ظلت أسيرة النموذج الفرنسي المستوحى من مسار العلمنة المناضلة و التي عرفت أوجها في القرن التاسع عشر ثم انقلبت إلى عقيدة إيديولوجية تضبط الأمور و تحد من حرية التفكير مما جعلها في مرمى سهام النقد لأنه آن الأوان لممارسة تفكير جديد ذي نظرة متطورة إزاء العامل الديني ينقلنا من علمنة مناضلة إلى علمنة متفتحة . II – علمانية الدولة / مدنية الدولة فوبيا المصطلح :
يعرف علم الاجتماع اللبناني حليم بركات العلمانية"بأنّها نظام عقلاني يتساوى أمامه جميع أعضاء المجتمع في الحقوق والواجبات ويشمل فصل الدين عن الدولة وإلغاء الطائفية السياسية وتوحيد قانون الأحوال الشخصية ووضع السلطة في يد الشعب واعتبار القوانين نسبية تتغير بتغير الأحكام و الظروف والأزمنة و تعزيز الثقافة العلمية وتحرير الدين من سيطرة الدولة (11). ولكي نفهم العلمانية يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أبعادها الأساسية الثلاثة: بعدها السياسي وهو الديمقراطية وبعدها الديني وهو حرية المعتقد وبعدها الحقوقي وهو كونية الطبيعة الإنسانية. إن ما بلغته العلمانية في مسارها التاريخي الطويل وهي جملة هذه القيم الإنسانية التي أصبحت كونية غدت مطلبا لشعوب عديدة مازالت ترزح تحت نير الاستبداد. هذه القيم هي وليدة خلفية فكرية فلسفية مؤسسة على جوهر العلمنة باعتبارها احدى فتوحات الروح البشرية وهي مرادف للحرية وهي موقف أمام المعرفة يحاول أن يكون منفتحا وحرا إلى أقصى حد تسمح به ليس فقط الشروط السياسية والاجتماعية وإنما أيضا التقدم المنهجي والمعرفي والتقني السائد في زمان ما ومكان ما (12). لم يوجد عند المسلمين في القديم فكر سياسي نظري باستثناء ما وجدناه عند الفلاسفة وعند "ابن خلدون" يبحث في فلسفة الحكم كما مورست في الواقع التاريخي فلم يبحثوا في ماهيته و آلياته كما لم يتناولوا وسائل تطوير الحكم و الخروج به من دائرة التغلب والتمرد في العصر الحديث وبفعل احتكاك العالم العربي والإسلامي بالغرب وما نتج عنه من صدمة حضارية اهتزت لها الأطر الاجتماعية والثقافية في عالمنا وجد مفكرو القرن التاسع عشر أنفسهم مجبرين على إعادة النظر في المسلمات جميعها بما في ذلك دعائم الفقه السياسي كما وردت في كتاب "الأحكام السلطانية " للماوردي (ت 450هـ/1058 م) والتي كانت موزعة في كتب علم الكلام والفقه محاولين العمل على تفكيك السنّة الثقافية الإسلامية المنغلقة وخلخلتها. وقد شعر دعاة الإصلاح الديني التغيير أن تبني جهاز الحكم لدعواتهم من أقوى العوامل على بلوغ الغايات التي رسموها فتعددت بسبب ذلك الكتابات السياسية و احتل البحث في نظم الحكم مكانة مركزية في مشاغل المفكرين على اختلاف نزعاتهم (13). لقد كان رواد الإصلاح أثناء تعرفهم على النظم السياسية الناشئة في الغرب مبهورين بما اكتشفوه معاينة واطلاعا . وما يلفت الانتباه هو أنهم لم يشعروا قط بان هذه النظم تتعارض مع مبادئ الإسلام وعقيدته. فمن خلال هذه النظم اكتشف هؤلاء المصلحون ثقافتهم السياسية في بعدها الإنساني والتي افتقدوها بسبب قرون من الاستبداد والتخلف كرست قيما معادية للإنسان و سالبة لحريته ولكرامته . يعتبر رفاعة الطهطاوي (ت 1873) أول من كتب في السياسة في العصر الحديث وكان كتابه "تخليص الابريز ( ط 1، 1834، ط2،1849) أول أثر يعرف القراء العرب بأنموذج في الحكم مخالف لما عهدوه من خلال ترجمته للميثاق الدستوري الفرنسي لسنة 1814 ووصفه لأحداث ثورة 1830 التي عايشها و تعريفه بالتيارات السياسية السائدة في فرنسا مدة إقامته بها. وقد أدرك أن فكرة الميثاق الدستوري المنظم لهذه العلاقة ثمرة جهد إنساني يقوم على أساس الفكر السياسي لا على أساس مصادر التشريع الإسلامي فيقول "حكمت عقولهم بان العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد. وانقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم فلا تسمع من يشكو ظلما أبدا." ورغم أنه لاحظ أنّ غالب ما فيه (اي الميثاق الدستوري ) ليس من كتاب الله تعالى ولا سنة رسوله "فإنه يرى مشروعية الأخذ بالنظام السياسي و القانوني للدولة الحديثة، إذ أنه لا يتناقض مع الإسلام بل يحقق المثل التي جاء بها (14) . أما الوزير خير الدين التونسي ( ت 1889) فقد استمد آراءه في اصلاح نظام الحكم من تجربته في ممارسة شؤون الدولة من ناحية و من اطلاعه أثناء سفراته على النظم الغربية من ناحية أخرى وقد ضمن كتابه "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك "(ط1.1867، تونس) برنامجه الإصلاحي مبتدئا بالتأكيد على ضرورة الاقتباس عن الغرب وأخذ تنظيماته "المؤسسة على العدل السياسي وتسهيل طرق الثروة واستخراج كنوز الأرض بعلم الزراعة والتجارة. وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم " إلا انه يرى أن هذا الاقتباس ليس إلا رجوعا إلى القيم الإسلامية المندثرة وانتبه خير الدين مثل الطهطاوي إلى أن الحقوق المدنية من دعامة الدولة الحديثة .فتحدّث عن الحرية الشخصية " وهي إطلاق تصرف الإنسان في ذاته وكسبه مع أمنه على نفسه وعرضه وماله "وعن الحرية السياسية "وهي تطلب الرعايا التداخل في السياسات الملكية والمباحثة فيما هو أصلح للمملكة "(15). وعلى خطى الطهطاوي وخير الدين،.ابن أبي ضياف (ت 1874 ) في "الاتحاف" (ط .تونس 8 أجزاء 1963-1966 ) فخصص في مقدمته فصلا عن " الملك و أصنافه في الوجود " ( ج1 ص6-77) و قسم الملك إلى ثلاثة أصناف : الملك المطلق والملك الجمهوري والملك المقيد بقانون و لئن كانت معارضته للصنف الأول متوقعة فما يلفت الانتباه في حديثه عن الملك المطلق انه مثله في ذلك مثل أهل السنة عموما –لا يرى مشروعية الخروج على الحاكم الجائر ….أما "الملك الجمهوري " فيتمثل عنده في"أن الناس يقدمون رجلا منهم باختيارهم يلي سياستهم ومصالحهم لمدة معينة، و لما تتم يخلفه غيره باختيارهم أيضا وهلم جرا. وقد يستحسنون سيرة أحد فيطلبون منه زيادة مدة.وهو يعترف بان "في هذا الصنف نفعا دنيويا للعامة والخاصة حيث كان أمرهم شورى بينهم "ولكنه يرى أنّ قواعد الملة الإسلامية لا تقتضي هذا الصنف الجمهوري لان منصب الإمامة واجب على الأمة شرعا "(المرجع نفسه 1/28) و لعل مرد موقفه خشيتة من رد فعل الباي فلم يتجرأ على التصريح باستحسانه للحكم الجمهوري. لم يبق لابن أبي الضياف إذن إلا الثناء على الملك المقيد بقانون فيعرف بالخصوص النظام النيابي في اوروبا ويدعو إلى انتخاب " مجلس الشورى " وهذا المجلس هو الوكيل عن العامة، ولذلك يكون بانتخابهم ليحمي حقوقهم الإنسانية و يدافع عنها..وبمقتضى هذا التوكل ساغ لهذا المجلس سؤال الوزراء ومعارضتهم. وبهذا يكون هذا المجلس معتبرا في الشرع الإسلامي …" ويستند في ذلك إلى رأي "ابن خلدون " أن الممالك لا تكون على نهج استقامة إلا إذا كانت الدولة طالبة ومطلوبة " (المرجع نفسه 1/67-68)(16). كان الشيخ محمد عبده ( ت 1905م ) مهتما بالإصلاح الأخلاقي والاجتماعي والتعليمي أكثر من اهتمامه بالإصلاح السياسي في معناه الاصطلاحي إلا انه طرق بعض الأغراض الدينية السياسية طرقا عابرا وعبر عن آراء تتسم بالجرأة في معارضة الفكر السائد في عصره و ابرز هذه الآراء ما يتعلق بمدنية الحكم في الإسلام خلافا لما شاع من أن الخليفة أو الإمام "ظل الله في أرضه" وانه يحكم بتفويض إلهي فيقول في هذا الصدد " فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصبه ( أي الخليفة ) والأمة هي صاحبة الحق فيالسيطرة عليه وهي التي تجعله متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني في جميع الوجوه " ويقابل بين هذا الحكم المدني والحكم التيوقراطي الذي عرفه العالم المسيحي فيقول: "ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج "تيوكراتيك" أي سلطان إلهي" …فلا غرو أن يقرر بصفة باتة أن " ليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه "(17). إن الإسلام السياسي مدعوّ اليوم إلى البناء على ما وصل إليه دعاة الإصلاح في القرن 19 و لا سيما ما راكموه من نظريات حول الإصلاح السياسي المتعلق بنظم الحكم وذلك بتعميق المسائل المتصلة بقيم الحرية والديمقراطية و التداول السلمي على السلطة وذلك من مستلزمات النجاح في صياغة فكر سياسي حديث يكون وفيا لروح الإسلام وملائما للحداثة والعلمنة. يبدو أن الالتقاء بين العلمانية والإسلام اليوم يصدر عن وضع ابستمولوجي خاص قائم على استحالة المطابقة بين المعني المستفاد والمستنبط من المرجعية الإسلامية وبين المقصود الإلهي أي الحقيقة الربانية المطلقة فكل تصور ديني كما يؤكده الأستاذ سامي براهم مهما كان مجاله هو علماني بالضرورة أي صيغ ضمن اكراهات الزمان والمكان والأفق المعرفي والتدافع التاريخي. فالعلمانية هنا نسبة إلى العالم وهي تعني في شرع الكنيسة الرومانية "رجوع" رجل دين أو قس إلى العالم. وهذه العودة تعني الزمانية أي أن يكون الإنسان في التاريخ محكوما بالشروط الموضوعية والذاتية وموازين القوى والحاجات والإكراهات الراهنة التي تحدد فعله في الشأن العام و تضفي عليه صفة النسبية والقصور وتخضعه لقابلية المراجعة والنقد والنقض بهذا المعنى يصبح الإسلام دينا علمانيا بامتياز لأنه يفصل بين القصد الإلهي وتحصيل البشر لذلك القصد كما يفصل بين نص التنزيل واجتهاد الناس في تحصيل دلالات التنزيل (18).
إن إدخال معطى "التأويل" وهو وجه من وجوه الاجتهاد يجعل من الدين نفسه خاضعا لتجاذبات الواقع أي أن الشأن العام بما هو مجال التدافع و لحسابات المصالح والمنافع يصبح فيه الدين احد الروافد التي يستلهمها الفعل السياسي في سياق بناء تصوره للدولة والنظام السياسي لذلك بإمكان الإسلام السياسي أن يقدم مقاربة مستلهمة من المرجعية الإسلامية دون أن يدعي احتكاره لهذه المرجعية ويقدم اجتهادا بشريا تقتضيه الظروف التاريخية والاجتماعية ويخضع لمبدأ الخطأ و الصواب . إن خوف الإسلام السياسي من الاعتراف بأنه قد يلتقي مع العلمنة على أرضية مشتركة جعله يرفض تسمية الأشياء بأسمائها وقد يعزو البعض هذا الخوف من إعلان تبني العلمنة لان المصطلح أصبح مفهوما إيديولوجيا مثقلا بالمعاني وتم توظيفه في معارك ضد كل ما هو مقدس، إلا انه آن الأوان اليوم أن نكتشف هذا المصطلح من جديد وتخلصه مما علق به من شحنة سلبية فالفرار من مصطلح علمانية الدولة إلى مصطلح مدنية الدولة أصبح أمرا عبثيا لأنهما في نهاية المطاف وجهان لعملة واحدة . هكذا يلتقي كل من الإسلام والعلمنة في جوهرهما على العمل من أجل تحرير الشأن العام و المعرفة من القداسة والاطلاقية اللتين تضفيان عليهما العصمة والوثوقية مهما كانت مرجعية تلك القداسة وهويتها وبذلك تتحقق قيمة المواطنة باعتبارها من أهم ثمار العلمنة بما تعنيه من مسؤولية الفرد الحر أمام ذاته وأمام مجتمعه في ما يتعلق بضميره ومعتقده وخياراته في الشأن العام لا فرق في ذلك بينه وبين أي من مواطنيه مهما كانت الاعتبارات . لقد حان الوقت أن نتحدث عن قيم إنسانية مشتركة يحددها الواقع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والسياسي ولكن ذلك لن يتحقق إلا إذا تخلينا جميعا عن البنى الثقافية التي ترتهن إلى الوثوقي بما هو نص إلهي مقدس أو إيديولوجيات فكريه متكلسة. إن الانتروبولوجيين وعلماء الاجتماع الديني يدعون إلى ضرورة انفتاح الانسية العلمانية على الانسية الدينية وبهذا الشكل يمكن أن تطور العلمنة الإسلام التاريخي و تنخرط به في مسار التنوير كما يمكن لقيم الإسلام التنويري أن تثري مسار العلمنة وترسخه في الوعي الجمعي . بقلم: رمضان بن رمضان
الهوامش والمراجع : 1- حميدة النيفر " الدولة الاسلامية حديثة و اكثر …مجلة 15/21 العدد 16 السنة الخامسة تونس 1408هـ السنة الخامسة ، تونس 1408هـ/1988 .ص 9 2- نفس المرجع ص 9-10 Emile Poulat : directeur d’études à l’école des hautes études en science sociales il est également directeur de recherche au CNRS et historien de l’église contemporaine .il est l’un des membres fondateur du groupe de sociologie des religions , ses recherches portent surtout sur le conflit entre culture catholique et culture moderne il est spécialisé sur la question de a crise moderniste et s’est également intéressé à l’antimaçonnisme et la laïcité. 3- Voir : présentation du livre d’Emile Poulat , l’eglise , c’est un monde l’ecclésiographie Paris , ed du cerf 1986, 280p dans l’archives des sciences sociales des religions N°63-2/32è année Avril-Juin 1987 P284-285.
4- Voir revue de l’histoire des religions , CCIV-4/1987.P455
6- Berger ( peter -2) , the désécularisation of the world , Resurgent religion and world politics, grand rapids , Eudmans , 1999 .p.2 8- Ibid , pp 13-14 9- Pierre Hayat , “ Laïcité , fait religieux et société retour à Durkheim » , archives des sciences sociales des religions , N° 137-Janvier –mars 2007.P.12 10- IBid , p 13/14 11- ملفات جريدة الصحافة ، حول جدل العلمنة و الإسلام جريدة الصحافة أفريل 2011 ص 9 12- محمد أركون ، العلمنة و الدين ، الإسلام ، المسيحية .الغرب دارالساقي لندن ط1 1990 13- عبد المجيد الشرفي الإسلام و الحداثة الدار التونسية للنشر تونس 1990 ص 190 14- ن.م ص 192 15- ن.م ص 195 16- ن.م.ص 197 17- ن.م ص 199 18- سامي براهم ضمن ملفات جريدة الصحافة ك جدول حول العلمنة و الإسلام جريدة الصحافة 5 أفريل 2011 |
عن موقع الأوان |