تمرّ بلادنا بمرحلة تاريخية بالغة الأهمية، إذ نعيش مرحلة تأسيسية يُصاغ فيها دستور جديد للبلاد يُحدّد بشكل مّا تاريخها المستقبلي لمدة ليست بالقصيرة في كل الأحوال…
المرأة منظورا إليها من “حزب التحرير”: من التّغييب إلى الإلغاء |
تمرّ بلادنا بمرحلة تاريخية بالغة الأهمية، إذ نعيش مرحلة تأسيسية يُصاغ فيها دستور جديد للبلاد يُحدّد بشكل مّا تاريخها المستقبلي لمدة ليست بالقصيرة في كل الأحوال.
وتشهد تونس تبعا لذلك تجاذبات سياسية بين أطراف حزبية و تيارات فكرية و إيديولوجية مختلفة ناشطة في المشهد السياسي التونسي. وتكون عُطلُ نهايات الأسبوع في مختلف المناطق، مدنا و رى، مسرحا لتظاهرات وندوات و تحركات، تعمل فيها تلك القوى السياسية على الاتصال المباشر بجمهور المواطنين لشرح طروحاتها ومناقشتها وتقريبها من الناس ومن ثمة العمل على استقطابهم للدفاع عنها، وهو ما كنت شاهدة عليه يوم السبت 3مارس بمنطقة المروج، حيث حضرت تحركا لحزب التحرير هو الثاني الذي يُصادفني في نشاطات هذا الحزب، بعد إن اعترضتني مسيرته بشوارع بورقيبة يوم الجمعة 2 مارس، والتي كانت مُوزّعة الشعارات من مطلب الخلافة الاسلامية وصولا الى اصلاح الاعلام مرورا بالتهجم على الاتحاد العام التونسي للشغل وأمينه العام.
لم أتردد كثيرا في الاقتراب من جمهرة الحضور، لأن الرغبة في التعرف على هذا الحزب و طروحاته كانت قوية. كانت فرصة جديرة بالاقتناص..
أول ما استرعى انتباهي اقتصار الحضور على الرجال، إلا من فتاتين صغيرتين لا يتجاوز عمرهما العاشرة في أقصى الحالات. لم يكن الامر أكثر من مغامرة بالنسبة لي خاصة وأن "السلفيين" أغلقوا أبواب جامعتي منذ نوفمبر و يُعطلون فيها دروسها و غيروا طابع الحياة فيها. هل هؤلاء من أولئك؟ إن نعم ماذا يُريدون؟ إن لا، ما هي الاختلافات بينهم؟ و فيم يلتقون؟
لماذا كان حضور النساء باهتا في هذه التحركات الميدانية التي تُعدُّ أرقى أشكال الممارسات الديمقراطية وأعمقها تجذيرا لها؟ هل الأمر عائد الى غياب الانخراط النسوي في هذا الحزب أم هو عائد لاعتبارات مذهبية "تمنعها" من الظهور والبروز والمجادلة مع "الأغراب" في الأماكن العامة؟
مهما كان التبرير فإن النشاط السياسي ليس حقّا مقصورا على الرجال، فالنساء عدديا نصف المجتمع أو أكثر، و هنّ مدعوات للمشاركة الفاعلة في الحراك السياسي في هذه اللحظة الفارقة دفاعا عن وجودهن و كرامتهن و حريتهن، و هن قبل هذا و بعده مدعوّات لأن يكنّ عُنصرا فاعلا في الحياة التي لا تكون حياة بغير "جهاد الحي يكون أو لا يكون" لذلك فإن إنخراط نساء بلادي في العمل السياسي والمدني و النقابي أمر حيويّ.
لقد زال عصر كانت فيه المرأة عنصرا مسلوب الإرادة، تكتفي في أجمل الحالات بالانبهار بالرجال الذين يُدافعون على حقوقها، الرجال نفسهم الذين يسلبونها ايّاها، نريد نساء شرسات في الدفاع عن ذواتهن و انسانيتهن، ضد القهر و العنف والاستغلال المادي والمعنوي و الرمزي.
نريد نساء يصرخن عاليا، ضد الدعيين من شرق الارض و مغربها، يتوافدون علينا دعاة، لتكثير الضرائر و تعدّد الزوجات، أنصارٌ للزواج العرفي و المتعة و المسيار، في إلباس "بسيكوباتي" للنزوات الجنسية الرجالية لبوسا دينيا، لا نعتقد أن الله منّ به على الرجال على حساب النساء. إن غياب النساء من كل هذا، يُكرّس شئنا أم أبينا صورتها وحقيقتها في المجتمع، باعتبارها كائنا ناقصا "آلة لانجاب الأطفال" و مربية لهم و مُدبرة لشؤون المنزل.
إن غياب النساء على الساحات العامة وعن المشاركة الفعالة في مناقشة قضايا الانتقال الديمقراطي و المسائل الدستورية، مثلما هو بائن في تقرير رصد الإعلام في المرحلة الانتقالية الأولى الذي قامت به مجموعة من الجمعيات بتنسيق مع جمعية النساء الديمقراطيات، حيث كانت نسبة حضور المرأة في المشهد الإعلامي ومن ثمة مشاركتها الفاعلة سياسيا متدنية إذ لم تتجاوز حدود الــ5 في المائة، ستكون له نتائج وخيمة على نساء بلادي الموجودات واللائي مازلن مشروعا قادما.
إن "الرجال لا يحفلون كثيرا بأن تكون القوانين ضد النساء، لان القوانين من وضع الرجال" هكذا قالت فاطمة المرنيسي. ويُصبح غياب المرأة من ثمة تغييبا مقصودا، إنه إعادة انتاج لفكرة الحريم، غير أنه "حريم لامرئي" موشوم في العقول، و مبثوث في كل مكان، قواعد صارمة بعضها مادي و أغلبها رمزي، تُحدد للنساء ما يجب و ما لا يجبُ، العيب و الحرام، و الممنوعات، حرية هي غالية على الرجال مضنون بها على النساء. تسميات مختلفة و"حيل فقهاء" و "مكبوتات رجالية" تتزيا بأقنعة ملونة.
لذلك، فإن نساء بلادي مدعوات الى تحدي كلّ ذلك، و كسر القيود المادية، و انتاج رمزيتها لاختراق الحجب التي تكثفت لحرمانها من وجودها المادي و الرمزي، و من الاستمتاع "بطيّب الوجود" الذي وهبه الله لها. إنه نضال من أجل تحقيق شرط الوجود الانساني والخوض في الحياة، متجاوزة الرواسب الفكرية والعقائدية الموغلة في القدم، عليها أن تُعقلن وجودها.إنَّ كرم وجودها في "صرختها" من أجل "مواطنيتها" و تحررها من الرجل/الاله. إنّ تونس و شعبها ثارا من أجل الحرية و الكرامة، فلم يُضنُّ بهما على نسائها؟
كثير من نساء بلادي، يرضين هوان العيش و مهانته، خاضعات لرغبات الرجال و نزواتهم، خضوع ناشئ في أغلبه عن "دين كاذب" و قراءات مريضة لنصوص تجعل "أكرم المخلوقات أحرارا"، خضوع لأعراف بدائية هي في جوهرها تعبيرات عن علاقات اجتماعية شديدة التخلف.
لم أجد في المروج نساء يُدافعن عن طروحات سلفية، لم أراهنّ يصرخن في الشارع مناديات بالخلافة وبسقوط الاتحاد وبالموت للاعلاميين والكفرة، رأيتهن في كلية الآداب، موشحات بالسواد، حريصات على منع زميلاتهن من "غيرهن" من نيل العلم، رأيتهن يتهجمن على أستاذات فاضلات، بَارزن الرجال في العلم و المعرفة وتفوّقن على أغلبهم، آمال غرامي، ألفة يوسف، رجاء بن سلامة، فضلية لعويني، سناء بن عاشور…. "نساء و نصف" سافرات، عالمات ومتفوقات، يُهنّ و يُشتمن، لأنهن "نزعن الخيمة" و كسرنا القيد المادي و الرمزي.
ليس النقاب غير "لباس" منتم الى فضاء مكاني ولحظة زمانية مُعينة، بل هو سابق للاسلام وحضارته، أنه تعبير مادي عن فكرة "التملّك" الرجالي لجسد المرأة، هي حاجته ومتاعه ومتعته، هو شكل من أشكال "بُغض" الآخر و تحريك حسده " أنا أمتلك جسدا مثيرا، استمتع به، لكنك لا تراه".
إنّ المرأة بارتدائها للنقاب، تُعلن رغبتها في التّخفّي، كأنها تُنكر أنوثتها و تستعارُ منها، هي الرغبة في الهروب من جنسها/انوثتها عبر إخفائه والغائه. لذلك تكفُّ عن النضال من اجل "حريتها" و التي نصّ الاسلام نفسه عليها. إنّ إدراج النقاب ضمن مجال "حرية اللباس" مغالطة كبيرة، لأن حقوق الإنسان غير مُتجزئة، فالرغبة في العبودية و أن يكون لنا خدم لا يُبرر إعادة العمل بها، و كذا النقاب أنه عبودية للنساء و "قتل رمزي" لهن.
أول ذكر للمرأة في مشروع دستور الخلافة الذي يُوزعه حزب التحرير كان في المادة 38 في الصفحة 17، جاء فيه "لا يُعيَّنُ كافرا(هكذا) أو امرأة واليا بحجة رعاية الشؤون أو المصلحة "في نفس المرتبة الكافر والمرأة، لهما نفس المعاملة حسب قاعدة قانونية، تحرمهما من ولاية الناس وتسيير شؤونهم العامة. أيُّ بؤس هذا؟ هل يُبرّرُ هذا، غياب النساء عن مثل هذه التحركات؟ ألا يكون نشاطهن، و مطالبتهن بحقوقهن المدنية و السياسية و المناداة بالمساواة ساعتها، شكلا من أشكال الكفر، المحقّق للردة و المُوجب لاقامة حدّها "القصاص/القتل"؟ ان هذا النشاط إن تم سيكون خروجا "عن طاعة أولي الامر" وهم الرجال الطاهرون الحريصون على إقامة شرع الله و حدود دينه.
تُثير هذه المادة من ثمة، حيرة كبيرة عند النساء، متعلقة أساسا بدورهن في الحراك الاجتماعي بمختلف وجوهه، بالنسبة للتيارات السلفية و المذاهب المختلفة و بخاصة عند حزب التحرير، هل النساء المتمردات على سلطان الرجل، الرافضات لنزواته، المطالبات بالحرية و بكسر قيود العبودية، مارقات عن الدين؟ هل الرجال وحدهم، مُكرّمون / مُصطفون لحماية شرع الله؟ أم النساء مكرّمات وهن من ثمة مسؤولات مثله، قادرات شأنه أو أكثر على قراءة نصوصه و تأويلها و إدراك مفاتيحها و ادراك سرائرها، و التقدم لتدبير حياتها و لم لا تدبير حياة جماعتها؟
المرأة من خلال هذا التناول تابعة لمنظومة رجالية بلبوس ديني، و ليست طرفا فاعلا فيها، يعني انها في مرتية دون الرجال المسلمين في نظام الخلافة. و هو ما يتوضّح أكثر في باب "النظام الاجتماعي" من مشروع الدستور نفسه، حيث ورد في المادة112 " الأصل في المرأة أنها ربّة بيت" و لفظ " أصل" تعود بنا الى جوهر الفكر السلفي، أي المُتقيّدُ العامل وفق تعاليم السلف الصالح المطبّقُ لاقوالهم المُحتذي لأفعالهم " وقع الحافر على الحافر". إنه حلم العودة الى نمط حياة قديم تهاوى و زال. نظام هرميّ رجاليّ ليست النساء فيه غير موضوع للمتعة و التملك.
فالمرأة العصرية نالت نصيبا – غير قليل – من التعلّم و وعت – نسبيا – أن لها دور اجتماعي و سياسي و معرفي و مدني، يجعلها عنصرا فاعلا في الحياة مثل الرجال أو أكثر. و يُضيف نفس المشروع في مادته 116 " لا يجوز أن تتولّى المرأة الحكم، فلا تكون خليفة و لا مُعاونا و لا واليا و لا عاملا، و لا تُباشر أي عمل يُعتبر من الحكم، و كذلك لا تكون قاضي قضاة و لا قاضيا في محكمة المظالم و لا أمير جهاد". نستخلص مما تقدم الدور الذي أُعدًّ للمرأة و أوكل اليها في فكر هذا الحزب، فهي مجرد عنصر تابع، مُهمّش و مقصيّ من جميع الانشطة الاجتماعية و السياسية. إنها غائبة و مُغيّبة، غائبة لأنها ممنوعة من المطالبة بحقوق تكفل لها مواطنتها و تضمن لها انسانيتها و الدفاع عن ذاتها و كيانها، امرأة مثقفة وواعية عصرية و مسؤولة عن اختياراتها أمام المجتمع و أمام الله خاصة. و هي مُغيبة، لأنها من منظور هذا المشروع- وجنيساته- ليست غير تابعة، حاضنة، مُدبّرة منزل.
انه مشروع نتاج فكر يُشكّل النساء بحسب أهواء الرجال، فيمنحهن من الحقوق ما يراه صالحا و لا يمسُّ من سلطته عليهن و يُحقّقُ من خلال ذلك رغباته و متعته البسيطة و المحدودة، و يسلبهنّ كلّ ما من شأنه أن يجعلهن يسمين بذواتهن و بعقولهن، و يحرمهن كلّ ما فيه تحريرٌ لروحهن و فكرهن و عتق لهن من سطوات العادات و التقاليد الراسبة و الوافدة من المجتمعات البائدة القديمة. و إنه لمن المُدهش، أن حزب التحرير هذا، يعتزم عقد مؤتمر عالمي من أجل مُناقشة " مكانة النساء في دولة الخلافة"، أي مُستفاد للمرأة التونسية العاملة الكادحة المقهورة من هكذا مؤتمر؟ لا اعتقد ان مصلحتها في هذا الأمر، اللهم الانتقال من استعباد باسم السلطة إلى استعباد باسم الدين، لانه لا يحق لها ان تكون في السلطة، بمنطوق المشروع ذاته. ألم يكن من الاجدى التباحث حول مشاكل المرأة الحقيقية في مجتمعنا التونسي في هذه اللحظة المتحركة و المتحولة، و العمل على دسترة حقوقها و مكتسباتها في الدستور القادم، خاصة و أننا لم نر أيام "ثورتنا" أمرأة واحدة تصيح "واخليفتاه" استحضارا لــ"وامعتصماه" بل رأينا كل نساء تونس يصحن "واجوعاه" "واحريتاه" "واأنــــاه"
|
بقلم قمر قزو/ طالبة ماجستير – منوبة |