تحتفل تونس بالعيد السادس والخمسين للاستقلال منتشية بمرور سنة ونيف على ثورتها على زين العابدين بن علي وكنسها لنظامه وحزبه الذي ورث بورقيبة وحزبه “الدستوري”…
تونس– 56 سنة من الاستقلال.. 56 سنة من النضال |
تحتفل تونس بالعيد السادس والخمسين للاستقلال منتشية بمرور سنة ونيف على ثورتها على زين العابدين بن علي وكنسها لنظامه وحزبه الذي ورث بورقيبة وحزبه "الدستوري"… ومثلما ذهب إلى ذلك محللون كثيرون فإن ثورة الكرامة التي أججها التونسيون في 14 من جانفي 2011 هي في الواقع إيذان ببداية تحرير الإنسان التونسي الذي لم يحرره الاستقلال منذ 1956. وفي الواقع فإن أي قراءة منصفة للسنوات الست والخمسين منذ استقلال 20 مارس لا يمكن أن تتغافل عن المسيرة النضالية الطويلة التي دفع فيها شعبنا بالمئات من أبنائه من أجل الحرية والكرامة والديمقراطية. المعركة الأولى ضد اليوسفيين ولقد كانت البداية من البداية أي منذ إعلان الاستقلال الداخلي عندما تفجرت المعارضة اليوسفية من صلب حزب الدستور بين مناصري الزعيم بورقيبة الذين اعتبروا الحصول على الاستقلال الداخلي خطوة على طريق الاستقلال التام ومناصري الزعيم صالح بن يوسف وهو الأمين العام للحزب الذي اعتبر أن الاستقلال ليس مشروطا وأن قبول بورقيبة به تراجع عن مبادئ الحزب وخيانة لنضالاته . الأنصار اليوسفيون الذين كان البعض منهم مازال متمترسا بالجبال ولم يسلم سلاحه بعد سيكونون وقود المعركة السياسية الأولى التي تعرفها البلاد بعيد استقلالها …وسوف تطال يد القمع البورقيبي مئات الآلاف من المناضلين بالحبس والمطاردة وبالقتل أيضا وبالتعاون مع البوليس والجيش الفرنسيين اللذين لم يغادرا تونس بعد في ذلك التاريخ… ولن يهدأ بال الزعيم بورقيبة إلا باغتيال صالح بن يوسف الذي تحالف في الأثناء مع جمال عبد الناصر من جهة ومع شق من جبهة التحرير الجزائرية في المعركة التي توسعت بينه وبين بورقيبة ,ولقد ظل النظام البورقيبي الفتي يتابع اليوسفيين بقمعه إلى أواسط الستينات دون هوادة ويعتبر البعض أن هذه الفترة قد شكلت بامتياز التدريب الأول لجهاز القمع الدستوري الذي لن ينفك يتطور حتى عشية 14 جانفي 2011 … مؤامرة 62 وحرب بنزرت ولم تمض إلا بضعة شهور على ما أسماه النظام البورقيبي بالفتنة اليوسفية حتى جاء انقلاب 1962 الذي أثبتت تركيبة قيادته المتنوعة تنوع وتكاثر الجهات غير الراضية على الحكم الجديد ما بين قدماء الثوار "الفلاقة" واليوسفيون ولفيف من الدساترة أنفسهم ومن تيارات أخرى متفرقة.وقد بادر النظام إلى الضرب بقوة هذه المرة أيضا وبعث جل المتورطين في الانقلاب إلى المشنقة كما بادر أيضا إلى تحريك قضية الجلاء مما أدى إلى اندلاع حرب بنزرت اللامتكافئة والتي دفع ثمنها الشعب التونسي …وقد استغل الحزب الدستوري ونظام الرئيس بورقيبة انقلاب 1962 ليتمم عملية استيلاء الحزب والدولة على المجتمع فجرم تعدد الأحزاب وأغلق الحزب الشيوعي التونسي كما أغلق صحفه والصحف الأخرى غير التابعة للحزب الدستوري أو القريبة منه وأحكم إطباق يد الحزب على الدولة بعد مؤتمر المصير سنة 1964 ببنزرت متبنيا هيكلية تنظيمية على النمط السوفياتي تحقق سيطرة الحزب على كل دواليب الدولة وفي كل المستويات والمؤسسات.. الحرب على اليسار وبينما كان النظام البورقيبي أواخر الستينات بصدد معالجة تداعيات الحقبة التعاضدية وانخرام الإجماع الشعبي الذي عقب الاستقلال برزت سنة 1968 أولى بوادر التحركات اليسارية المناهضة في الجامعة التونسية على جبهتين اثنتين سوف يكون لهما شأن كبير في مقاومة الاستبداد البورقيبي فقد بدا تحرك الطلبة الماركسيين المنضويين في حركة آفاق متزامنا مع تحرك آخر للطلبة وللنشطاء القوميين البعثيين وتصدى النظام بكل ما أوتي من قوة للطلبة ورمى بالعديد منهم في السجن كما أجبر آخرين كثيرين على هجرة البلاد والالتحاق بالمنفى سواء بباريس أو بالمشرق العربي حسب الانتماء الإيديولوجي … وكانت هذه التحركات إيذانا ببداية انخراط الطلبة التونسيين بكل انتماءاتهم السياسية في نضال طويل ومتواصل ضد الاستبداد لن يتوقف حتى اندلاع ثورة الكرامة في 17 ديسمبر 2010 . و لم يتورع النظام طيلة أكثر من 40 سنة عن استعمال كل الأساليب في قمع النضالات الطلابية وأحدث الفرق المختصة مثل فوج النظام العام (البوب) ومثل الأمن الجامعي هذا إضافة إلى محاولاته الدائمة لشق الصف الطلابي عبر تنظيم الطلبة الدستوريين ولاحقا طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي دون أن يفل كل ذلك من عضد الحركة الطلابية التونسية التي كانت وبدون منازع "المشتلة " الحقيقية لأجيال متعاقبة من المناضلين الذين يحتلون اليوم المناصب الأولى في جل الحركات السياسية في البلاد… ولقد تواصل النضال الطلابي من بعد آفاق والحركة البعثية ليشمل أجيالا جديدة وتنظيمات جديدة ولدت من رحم الحركات الأولى أو من بعدها فظهر" العامل التونسي " كما ظهرت الحركات القومية الناصرية في أواسط السبعينات وتضخم الصراع مع النظام البورقيبي ليشمل إضافة إلى الجامعات النقابات والجمعيات المدنية على خلفية تصدع القاعدة الشعبية للحزب الحاكم وانقساماته الداخلية التي عرفت بداياتها في مؤتمر المنستير سنة 1974 وخروج الشق الليبرالي عن طاعة الزعيم والتجاهر أخيرا بضرورة الانفتاح والديمقراطية حتى داخل القاعة البورقيبية الحصينة… المواجهة مع النقابات وبداية الأزمات الكبرى الاحتقان الكبير الذي عرفته البلاد في نهابة السبعينات تزامن مع ترهل الحبيب بورقيبة وتنامي نزاعات الأجنحة صلب حزب الدستور وتعالي الأصوات داخل المنظمة الشغيلة , الاتحاد العام التونسي للشغل دافعة نحو القطيعة بين بورقيبة والحبيب عاشور . ومما زاد الأمور تعقيدا التصرف السياسي غير الناجع الذي توخاه الهادي نويرة في مواجهة ازدياد المطلبية النقابية الناشئة كرد على اصطفاف أجهزة الدولة في خدمة طبقة بورجوازية وليدة يتنامي جشعها دون حساب. ودخلت البلاد في مواجهة مفتوحة أول عام 1978 سرعان ما أدت إلى ثورة 26 جانفي وتدخل الجيش وسقوط مئات الضحايا والشهداء في كل المدن والقرى التونسية بعد إضراب عام دعا إليه إتحاد الشغل. والتفت الآلة القمعية على النقابيين فز بهم في السجون وفككت النقابات وأحدثت نقابات صفراء يحركها النظام الدستوري … وتتالت الاصطدامات في الجامعات ومع المجموعات المسلحة القادمة من ليبيا ومن الجزائر متكونة من شباب لم يعد له من أمل في مستقبل سرق منه وفي عدالة غائبة وفي كرامة مهدورة…وكانت أحداث قفصة الشهيرة في 1980 ثم رغم التغييرات التزويقية التي حاول بها النظام امتصاص الاحتقان بتعيين محمد مزالي على رأس الحكومة إلا أن البلاد اشتعلت من جديد في جانفي 1984 في ما سمي بعدئذ بثورة الخبز والتي أطاحت بمزالي وأدت مرة أخرى بمئات الشباب الجامعي والعاطل عن العمل ومئات النقابيين إلى السجون والتعذيب والموت … المعارك مع الإسلاميين بدأ ظهور النواة الأولى للحركة الإسلامية أواخر السبعينيات ولقد رأى فيها شق من النظام البورقيبي خير أداة في مواجهة اليسار المسيطر على الجامعات فتغاضى عنها في الوهلة الأولى آملا أن يجعلها تكسر شوكة اليسار قبل أن يستفرد بها جهازه القمعي…ولكن هذه الحسابات المخطئة فشلت أمام توجه الحركة الإسلامية نحو المواجهة مع النظام على نفس شاكلة اليسار وباستعمال وسائل وطرق انتشار فهم النظام بسرعة خطرها عليه مثل استعمال المساجد واستغلال النوازع الدينية الفطرية لدى المواطنين . وتتالى الاصطدام مع المجموعات الإسلامية واشتد خاصة بعد الانقلاب النوفمبري الذي استغل هشاشة وضعية الزعيم بورقيبة فانقض على الجهاز قبل أن يسقط ودعا إلى إصلاح من الداخل واعدا بالإنصاف والديمقراطية والانفتاح… وبعد حصول الإجماع الأول إثر حركة 7 نوفمبر التي قادها الجنرال (وزير الداخلية والوزير الأول ) زين العابدين بن علي لم يلبث النظام بعد أن هيأ لنفسه أسباب القوة من داخله أن كشف عن وجهه الحقيقي وابتدأ عملية مصادمة واسعة النطاق مع الحركة الإسلامية أدت أيضا بعشرات الآلاف إلى السجون وبآخرين إلى المنافي والهجرة وأدت بآلاف العائلات إلى التشرد والخصاصة والقهر … وبعد أن كسر نظام بن علي العمود الفقري للحركة الإسلامية التفت إلى كل تشكيلات المعارضة بكل أنواعها ففتتها إما بالترغيب أو بالترهيب ليتسنى له الإمساك بكل مقدرات البلاد وفتح الباب لعصابات الفساد لنهبها كما شاءت … هذه التفاصيل لم نسقها انتقاصا من قيمة الاستقلال الوطني الذي نجله ونجل دماء شهدائنا الأبرار الذين ضحوا بأرواحهم من أجله وإنما لنذكر أساسا أجيالنا الشابة بأن ثورة الكرامة التونسية بم تأت من عدم وأن المئات وعشرات المئات قد قدموا الثمن غاليا وعلى مدى ست وخمسون سنة ليتحرر التونسيون جميعا…
|
علي العيدي بن منصور |