كتبتُ في هذا المقام مرّة عن الجاهليّة الجهلاء، وقلتُ إنّ فريقا من التونسيّين اكتشف، متأخّرا، أنّه جاء على ساقة الدهر ليُبْدئ ويُعيد، ويقول أنا الذي نظر الأعمى إلى “ورعي” وأسمعتْ كلماتي من به صَمَم. من إضراب هذا الرهط مَن يروّج في الناس أنّه خُلق …
شعب واحد ما يكفيش! |
كتبتُ في هذا المقام مرّة عن الجاهليّة الجهلاء، وقلتُ إنّ فريقا من التونسيّين اكتشف، متأخّرا، أنّه جاء على ساقة الدهر ليُبْدئ ويُعيد، ويقول أنا الذي نظر الأعمى إلى "ورعي" وأسمعتْ كلماتي من به صَمَم. من إضراب هذا الرهط مَن يروّج في الناس أنّه خُلق ليكون من "الأوائل" ذوي السابقيّة حتّى وإن كلّفه هذا الولع إعدام كلّ ما يمتّ إلى الماضي بصلة. وها نحن نشهد، يوما بعد يوم، نموّا مطّردا لخطاب متضخّم يخيّل معه أنّ التاريخ يبدأ الآن، وأنّ الجغرافيا كانت، قبل اللحظة، أرضا بلقعا يلفّها السديم. تورّمٌ حدا ببعضهم إلى أنْ لا يرى في التاريخ غير استئناف استيهاميّ للحظات متخيّلة في مجاهل الزمن . قد نتفهّم ذلك باعتباره ردّ فعل عكسيّا على مرحلة استبعاد طالت بعض التعبيرات الفكريّة خلال عقود، وما استتبعه من ملاحقة وتضييق، وما أنتجه من ردود تميل إلى الرفض المطلق والإنكار المسبق والنقمة والثأر. قد نتفهّم ذلك، أمّا إذا تمادى لتتمّ مصادرة حقّ الآخرين في قراءة التاريخ وتدبّر الجغرافيا، فهذا لا يفسّره إلا ما قيل، مرّة، عن تشبّه الضحيّة بجلاّدها من فرط المعاشرة ! النزعة إلى التأسيس والبدء والشروع من الصفر ليست بعيدة عن عقيدة "الغرباء"، كما عرفتها بعض الأدبيّات السلفيّة أو كما فكّر لها منظّر "الجاهليّة المعاصرة" سيّد قطب. وفي سياق وَهْم المطابقة مع الأصل، ينزع بعضهم ليعيش كما عاش الغرباء الأُوَل، فالإسلام قد بدأ غريبا ( في أثناء الجاهليّة الأولى) وسيعود غريبا كما بدأ (على أعقاب هذه الجاهليّات المتأخّرة !!). وطبعا لكلّ جاهليّة أرجاسها وأدناسها لا يهمّ موقعها في الزمان والمكان، وحيثما خلت قلوب الناس من عقيدة إلهيّة تحكم تصوّراتهم ومن شريعة منبثقة من هذه العقيدة تحكم حياتهم فلن تكون إلاّ الجاهليّة في صورة من صورها . كذلك يرى هؤلاء التأسيسيّون مجتمعاتِهم جاهليّاتٍ معاصرةً – كما قال صاحب "في ظلال القرآن" – "إنّ البشرية اليوم تعيش في ماخور كبير، ونظرة إلى صحافتها وأفلامها ومعارض أزيائها ومسابقات جمالها ومراقصها وحاناتها وإذاعاتها ونظرة إلى سعارها المجنون للحم العاري والأوضاع المثيرة والإيحاءات المريضة في الأدب والفن وأجهزة الإعلام كلها، إلى جانب نظامها الربوي وما يكون وراءه من سعار للمال ووسائل خسيسة لجمعه وتثميره… إلى جانب التدهور الخلقي والانحلال الاجتماعي الذي أصبح يهدّد كلّ نفس وكلّ بيت وكلّ نظام وكلّ تجمّع إنساني، نظرةٌ إلى هذا كلّه تكفي للحكم على المصير البائس الذي تدلف إليه البشرية في ظلّ هذه الجاهلية ..". هي الجاهليّة مادام فيها حكم الجاهليّة عندهم (وهو الحكم الوضعيّ)، وظنُّ الجاهليّة (وهي تيارات الفكر السائدة)، وتبرّجُ الجاهليّة (وهو نمط العيش الذي يختلط فيه الرجال والنساء)، وحميّة الجاهليّة (وهي ما نسمّيها نحن المواطنة عوض عقيدة الولاء والبراء لديهم). أسوق هذا الحديث بمناسبة الاقتراحات "التأسيسيّة" التي تتعامل مع هذا الوطن وكأنّ الأرض قد انشقّت عنه للتوّ، أو كأنّه "دار كفر" تصير إلى "دار عهْد" ثمّ "دار إسلام"، ولا بدّ من إقامة الدعائم ومدّ القوائم للبناء على الخراب واليباب . هو، إذن، طور اهتبال للفرصة والتقاط للغنيمة، فلمَ لا نلتفّ على ما كان عنوان توافق وطنيّ، فنضيف إلى الفصل الأوّل من دستور 59 فصلا للشريعة مصدرا أساسيّا من مصادر التشريع؟ وبالمرّة نثور على النشيد الوطنيّ، ونستبدله بنشيد آخر يليق بالمرحلة كأن يكون هتاف المسلمين الأول في الخندق وقريظة (حم لا ينصرون) أو هتافهم في بني المصطلق (يا منصور أمتْ أمتْ). وما دمنا في "ثورة" فلا بأس أن نعيد النظر في الراية الحمراء والبيضاء لنعوّضها براية التوحيد أو راية العُقاب. وليكن شارع بورقيبة (جول فيري سابقا) شارع 14 جانفي. ولنسمّ ثورتنا ثورة نصر اللّه والفتح، كما سمّى بعضهم انتقالنا الديمقراطيّ بصلح الحديبيّة ! ولمّا كان القومُ بصدد التأسيس، فقد توقّفت عند خبر بلغني وعددتُه مقترحًا مناسبا. يقضي المقترح الوجيه الذي طرحه مهندس معماريّ بأن تتحوّل عاصمة البلاد التونسية إلى مدينة "النفيضة". وبحسَب رأي المهندس، وما نشهده صباحًا ومساءً، صيفًا وشتاءً، فإنّ مدينة "تونس" تعرف اختناقا مروريّا لا يسمح لها باستيعاب المزيد من التدفّق المروريّ. ويقترح مدينة "النفيضة" عاصمة جديدة، خاصة وأنّها صارت منذ سنوات تحتضن مطارا يُعَدّ من أكبر المطارات في إفريقيا، ولها كمّيات مياه جوفية معتبرة، إضافة إلى توسّطها وقربها من سائر المدن .
لم أستغرب لهذا المقترح، فتونس قد عرفت، عبر التاريخ، عواصم عديدة: كقرطاج والقيروان والمهديّة. بل إنّ دولا عديدة كـ"البرازيل" و"الكوت ديفوار" و"المملكة العربية السعوديّة" غيّرت عواصمها إلى مدن أخرى، ثمّ عرفَتْ معها نهضة عمرانيّة مشهودة . في غمرة التأسيس والبدء، أشدّ على يد المهندس البارع صاحب هذه الفكرة الجهنّمية، على أنّ لي مقترحا أزعم أنّه مكمّل لمشروعه المذكور: أقترح جلبَ شعْب جديد بدل الشعب التونسيّ الحاليّ. وليكن من أقوام خراسان وبلاد الأفغان لعلّ ساكنة هذه الديار يتحسّن نسلها بالمزاوجة والمصاهرة والمخالطة. ولمَ لا يكون لدينا، كسائر البلدان المتقدّمة، أكثرُ من شعب. ألمْ يقلْ المسرحيّ البارع توفيق الجبالي: شَعْب واحد ما يكفيش !
|
بقلم: مختار الخلفاوي |