حَنـّون” اسم رجل بغداديّ ورد في بيت من الشعر تداوله الناس. وأظنّه سيبقى. فقد أصبح بيت الشعر هذا أنسبَ ما يُضْرب من الأمثال للتعبير عن انعدام التكافؤ بين المقدّمات والنتائج في أمر من الأمور. “حنّون” رجل يهوديّ أسلم ببغداد في القرن الرابع …
ما زاد حنّون في الإسلام خردلة! |
حَنـّون" اسم رجل بغداديّ ورد في بيت من الشعر تداوله الناس. وأظنّه سيبقى. فقد أصبح بيت الشعر هذا أنسبَ ما يُضْرب من الأمثال للتعبير عن انعدام التكافؤ بين المقدّمات والنتائج في أمر من الأمور. "حنّون" رجل يهوديّ أسلم ببغداد في القرن الرابع الهجري. انزعج اليهود وغضبوا لذلك، فبدؤوا بالتحرّش به وإهانته عند مروره في الطريق لأنّه هجر ديانتهم. زادت المضايقات حتّى غضِب له المسلمون نُصْرة للوافد الجديد على ملّتهم. وتصاعد التوتّر بين الفريقيْن حتّى نشب بينهما القتال، ومات خلقٌ منهم . ثمّ ّمال الوضع إلى الهدوء. وعادت الحياة كما كانت. ولم يرجع "حنّون" عن دينه الجديد. ولم يعد اليهود يتحرّشون به ولا المسلمون ينصرونه. فلم يجد شاعرٌ حائرٌ من تفسير مقنع لهذا القتال المجّانيّ إلاّ أنْ نَظَم قصيدة في هذا الحدث الأهوج. وكان طالع القصيدة الذي بات مضرِب الأمثال :
ما زاد حنّون في الإسلام خردلة —- ولا النصارى بكت لفقد حنّون بمثل هذا البيت يمكن أن نقرأ ما حدث مع "حنّون" التونسيّ. وحنّون التونسيّ – كما خلصت إليه بعض التحقيقات الأوّليّة – له من الأسماء "رمزي بن عبشة". هو ذلك المتّهم في قضيّة تدنيس القرآن الكريم بأحد مساجد بن قردان، وقد جيء به من بعض المحتسبين الجدد، وجرتْ له إدانة علنيّة شارك فيها –للأسف- مسؤول من منطقة الأمن الوطني بالمكان. ثمّ من الغد، ظهرت "اعترافاته" المريبة على أيدي مستنطقيه من السلفيّين قبل أنْ يُحال مع اعترافاته تلك إلى النيابة العموميّة. كلّ من شاهد الفيديو الذي رُوّج له على شبكات التواصل الاجتماعيّ ساوره الشكّ في أصالة ما تضمّنه من اعترافات. ظهر "رمزي بن عبشة" مسلوب الإرادة ذاهلا عما حوله مردّدا في بهتة كأنّما يستظهر ما أُمْلي عليه. وجاء في تلك الاعترافات المريبة أنّه "مْثليّ" و"علمانيّ" من قوم "أعتقني"، وأنّه كاره للإسلام وأهله، ناقم على المصحف الشريف، متأثّر بجماعة من الملاحدة واليساريّين. رجح لأكثر من شاهد الفيديو أنّ الشابّ واقع تحت حالة ذُهانيّة لا تخفى، فاقد لمداركه العقليّة أو أنّه لم يكن في أتمّها على الأقلّ. وجاءت تصريحات عائلة المتّهم على لسان شقيقه لتكشف مزيدا من الغموض الذي أحاط بهذه "الجريمة" المريبة، إذ ذكر شقيقه بأنّ "رمزي" كان، منذ طفولته، متديّنًا بل وسلفيّا، ولم تكن له أيّ عقائد فكريّة أخرى. كما بيّن أنّه مستعدّ، من خلال وثائق ووصفات طبّية، أن يثبت أنّ "رمزي" مريضٌ نفسيّ قيد المتابعة الطبّية. هذه الشهادة رجّحت أنْ يكون المتّهم مصابا بحالة من الذُّهان. ومريض الذُّهان له قابليّة كبرى للبرمجة والتوجيه والتأثّر دون إبداء أيّ مقاومة أو شكّ أو نقد .. أمّا وزارة الداخليّة – وإن كان على رأسها رجل أكسبته بعض مواقفه وتصريحاته الأخيرة قدرا من المصداقيّة والاحترام – فيبدو أنّها مازالت تمارس سياسة "الضنّ بالعلم على من ليس أهلا"، فلم تكشف عن حيثيّات الجريمة إلى الآن، كعادتها عندما أحجمت عن مكاشفة الرأي العامّ بحيثيّات سابقاتها مع الشخص الذي رسم نجمة داوود على مدخل "جامع الفتح" بالعاصمة، ثمّ دخل لأداء الصلاة على مرأى من الحاضرين. وهو صنيعها مع الشبكات السلفيّة التي اعترفت بوجودها وبسعيها إلى التسلّح وتنظيم الصفوف وإقامة إمارة إسلاميّة، وكانت مواجهة "بئر علي بن خليفة" أحد فصولها الدامية. وهو صنيعها ذاته مع من اعتدى على زياد كريشان وحمادي الرديسي وعبد الحليم المسعودي. وهو صنيعها في التقتير على حيثيّات مقتل الشيخ لطفي القلاّل، وصنيعها نفسه مع من دنّس العلم الوطني في منوبة، ثمّ "رُفِع" أو شُبِّه لها ! غير أنّ ذوي العقول ليسوا في راحة كما كان يقال، فلكلّ ذي بصيرة تبدو حادثتا تدنيس المقدّسات الأخيرتان (جامع الفتح، المصحف الشريف) على علاقة وثيقة بالحملات الميدانيّة المطالبة بالنصّ على الشريعة مصدرا أساسيّا للتشريع في الدستور المرتقب، مثلما هما على صلة بحادثة العلم التي خلّفت استياء عامّا بين التونسيّين. وهذه الحوادث مقدّمات محبوكة الخيوط لتسيير مظاهرات جماهيريّة (مليونيّة كما تقول الجزيرة ويقلدها بعض أبناء جلدتنا) لـ"نصرة المصحف، والدفاع عن المقدّسات". فإذا علمنا أنّ تونس لم تشهد طيلة تاريخها القديم ولا القريب حادثة تدنيس للمقدّسات الدينيّة، خامرتنا الشكوك لماذا الآن فقط تذكّر "أعداء الأمّة" كرههم التاريخي للإسلام الحنيف ! ثمّة خيوط مترابطة بين الحوادث جميعها أفعالا وردودَ أفعال، ويدٌ خفيّة تحرّك دُمى كثيرة في البلد. يدٌ غارقة في الانحدار الأخلاقيّ والسياسيّ إلى درجة تدنّس فيها مقدّسات الشعب من أجل بثّ الفتنة، وإظهار أنّ الإسلام مهدّد في هذا البلد ممّا يستوجب حمايته دستوريّا، وطمأنة أهله عن دينهم، وإلى درجة تصل حدّ استغلال إنسان مريض يحتاج منا جميعا كلّ عناية وإحاطة . الغريب أنّه وبعد أن تداعت الجموع لنصرة المصحف الشريف والذبّ عن المقدّسات الإسلاميّة التي "أهينت" في بلد العبادلة السبعة والقيروان والزيتونة، مالت الأصوات إلى الانكفاء شيئا فشيئا، وشحّت الأخبار عن الموضوع. وبينما كانت أصوات هي خليط من النهضويّين والسلفيّين وسائر الطيف الإسلاميّ تنادي بالنصّ على الشريعة، وتعلن أن لا تنازل عن ذلك المطلب، خرج رئيس "حركة النهضة" ليقول إنّ حركته تقترح الاكتفاء بالفصل الأوّل من دستور 59، وأنّ مطلب الشريعة في الدستور لم يكن في برنامج حزبه. بل واعترف في حواره مع "الشروق" (الأحد 1 أفريل 2012) أنّه لم يكنْ في الحسبان أنّ موضوع الشريعة سيُطرح بذلك الزخم والحراك في أوساط الحركة. وأقرّ أنّ حراك الشريعة صار له دويّ في البلاد وفي الخارج، وزاد من ذلك الدويّ "بعض الدعاة الذين قدموا إلى تونس الذين "سخّنوا الجوّ"، وحرّضوا على هذا الموضوع دون فهم للواقع التونسيّ". وهكذا، أُسْقِط في أيدي البواكي على قميص عثمان ! هل كنّا بحاجة لكلّ ذلك الاحتقان الذي وضع البلد على حافة احتراب داخليّ خطير، مادام هذا الرأي الوفاقيّ هو ما سيسود بين التونسيّين في الأخير. وكم كنّا في غنى عن تلك الشروخ المؤثّرة في تماسك المجتمع، وعن تلك الأساليب في استنفار الحماسة الدينيّة للناس مادام صوت العقل سيعلو في النهاية . "حنّون" ينبغي أن يبقى مثالا على جسامة المقدّمات وهوان النتائج، وشاهدا على الحروب العبثيّة التي تخاض من حين لآخر، وإدانة للماكيافيليّة السياسيّة وإن تزيّتْ بلَبُوس الدين .
|
بقلم مختار الخلفاوي |
حتى مع جنون البغدادي ليكن المرء محضر خير، وبحسب الكتاب الفقهي المقدس الكريم نفسه: “وماأدراك لعله يزكّى” ….