المطّلعون بدقّة وعمق على تواريخ الديموقراطيات الحديثة يعرفون حقّ المعرفة أنه لا يوجد مجتمع أصبح ديموقراطياً بين عشيّة وضحاها، بمقتضى قرار سياسي أو مرسوم إداري. مرّت كل التجارب الناجحة بمسالك معقّدة قبل أن تبلغ حدوداً قصوى أو دنيا من الديموقراطية وترتضي لها النظام السياسي الأقلّ سوءاً في ما عرفته البشرية إلى الآن. وعندما نقول إنه الأقلّ سوءاً، نسلّم بأنه ليس …
انتصار مدنيّة الدولة |
المطّلعون بدقّة وعمق على تواريخ الديموقراطيات الحديثة يعرفون حقّ المعرفة أنه لا يوجد مجتمع أصبح ديموقراطياً بين عشيّة وضحاها، بمقتضى قرار سياسي أو مرسوم إداري. مرّت كل التجارب الناجحة بمسالك معقّدة قبل أن تبلغ حدوداً قصوى أو دنيا من الديموقراطية وترتضي لها النظام السياسي الأقلّ سوءاً في ما عرفته البشرية إلى الآن. وعندما نقول إنه الأقلّ سوءاً، نسلّم بأنه ليس نظاماً كاملاً، ومن الممكن أن نتصوّر ذهنياً أنظمة أخرى أكثر كمالاً، لكنها ستكون على الأرجح تجريدات ذهنيّة ويوتوبيات غير قابلة للتطبيق . وفي محاضرة ألقيتها أخيراً في إحدى العواصم العربية، قرأت مقطعاً من مقال نشرته صحيفة «الأهرام» المصرية عام 1877، وهذا نصّه: «أحسن الطرق وأولاها بالسلوك هو الطريق الذي قد امتحنته أيدي التجربة وترتّبت عليه النتائج في عالم الأعيان، وها نحن لا نشكّ في أنه قد حصل لأهل أوروبا تقدّم ووصول إلى الغاية المطلوبة في هذا العالم، وكان ذلك نتائج مقدمات أوصلتهم إلى هذا المطلوب. فلا بدّ لكلّ إنسان من أن يبحث عن تلك المقدّمات التي أنتجت سعادة أولئك الأمم حتى يستعملها في إيصال أهالي ملّته ووطنه إلى مثل ما ناله غيرهم ». هذا الكلام لم يقله علماني أو مستشرق، بل نشرته الصحيفة على لسان الشيخين جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وهو يعبّر عن أريحية في التعامل مع الموضوع السياسي يصعب أن نجد مثلها اليوم، فذلك جيل لم يكن يحتاج إلى المزايدة في الورع والتقوى، وكان الأدرى بما خلّفه التراث الأصيل من استبداد أصيل أيضاً، مدركاً تمام الإدراك أن القيم الكونية للحرية والكرامة التي اتفقت حولها الشرائع الدينية والوضعية لم تكن متجسدة في التاريخ الفعلي للمسلمين منذ قرون طويلة .
وعندما قرأت هذا المقطع، علّق عليه مثقّف محترم بأنه لا يعدو أن يكون شاهداً على انبهار الجيل النهضوي الأول بالغرب، وقد فكرت مليّاً بعد المحاضرة في مضمون هذا الاعتراض. فهو من الناحية التاريخية اعتراض سليم، فلم يكن ذلك الجيل يدرك إدراكاً واقعياً ما كانت الديموقراطية الغربية تتسم به آنذاك من مساوئ، قبل أن يصطدم بتلك المساوئ في فترة الاستعمار المباشر. ولكن، ماذا لو إن المجتمعات العربية اقتبست الديموقراطية الغربية بمساوئها في ذلك العصر، هل سيكون وضعها أفضل مما هي عليه اليوم أم العكس؟ ألم تكن قادرة على تبنيها وتطويرها على مرّ العقود، فتتطوّر الممارسة الديموقراطية محليّاً تطوّرها في مجتمعات المنشأ، مثلما أن الديموقراطية الانكليزية اليوم هي غير ما كانت عليه في الفترة التي «انبهر» بها الشيخان؟ على هذا الأساس، ينبغي أن نكون اليوم واقعيين وأن ننزّل الثورات العربية في الأفق المتاح عالمياً وهو الأفق الديموقراطي، بدل المزايدة التي ستنتج شعارات برّاقة نكتشف زيفها بعد حين، لا سيما أن الديموقراطية لم تعد اليوم نظام «الأمم الأوروبية» وحدها، بل أصبحت نظام اليابان والهند وكثير من المجتمعات التي كانت تعدّ سابقاً، مثل العرب، أمماً شرقية . في تقديري، حققت الفكرة الديموقراطية انتصاراً تاريخياً منذ بداية «الربيع العربي»، وذلك عندما قبلت حركتان إخوانيتان مهمتان، في تونس وفي سورية، مبدأ مدنية الدولة، قاطعتين مع الجماعة الأمّ في مصر والتي ما زالت ترفض بعناد هذا المبدأ، ومتراجعتين عن لحظة الميلاد الأولى المرتبطة بتلك الجماعة. وليس مهمّاً أن يكون الدافع إلى ذلك قناعة فكرية أم دهاء سياسي، وهو على الأرجح مزيج بين هذا وتلك، ولكن أليس اليسار تراجع أيضاً عن الماركسية اللينينية ليقحم مقولة الديموقراطية في خطابه؟ المهمّ أن التاريخ سيسجّل هذا الانتصار لمبدأ مدنية الدولة على من كانوا يحاربونه في الأمس القريب، وستترتّب على ذلك تنازلات أخرى تفتح نوافذ جديدة لدمقرطة المجتمعات العربية، لأنّ ممارسة السياسة بالمعنى الحقيقي، سواء في الحكم أم في المقاومة، تحوّل الفكر من التجريد والمثالية إلى الواقعية، وتجعله يصطدم بتعقّد الأوضاع وتشابك المصالح . ستجد الحركات الإخوانية طريقها إلى «التعلمن»، بمعنى أن تنخرط في الحراك الحقيقي للعالم. فالإقرار بمدنية الدولة هو إقرار بالطابع المدني لإدارة شؤون هذا العالم. وستدرك بالممارسة أنه لا يوجد شيء جاهز يمكن أن يطبّق على المجتمع، وإنما توجد مبادئ وقيم تتفاعل مع الوقائع والسياقات المختلفة. هكذا ستبتعد هذه الحركات شيئاً فشيئاً عن أساطيرها المؤسسة بمقدار ما ستتقدّم في الممارسة السياسية المدنية، وتتخلّص من المطلقات عندما تخرج من التفكير المجرّد إلى التفكير العملي. ولهذه الأسباب أشعر بتفاؤل نسبي بمستقبل العالم العربي وأقدّر أن دعوات التنوير السابقة قد بدأت تؤتي أُكلها، وقد تجني المجتمعات ثمارها، ولكن بعد حين .
عن جريدة الحياة – ملحق تيارات 15/4/2012
|
بقلم محمد الحدّاد |