نواصل نشر التحليل الاقتصادي للخبير والجامعي فاتح مامي حول رؤيته للاقتصاد التونسي وقانونالمالية التكميلي الذي وضعته الحكومة المؤقتة لغصلاح الاوضاع في البلاد
ميزانيّة 2012 وبرنامج الحكومة – هل من جديد؟ (جزء 2) |
نواصل نشر التحليل الاقتصادي للخبير والجامعي فاتح مامي حول رؤيته للاقتصاد التونسي وقانونالمالية التكميلي الذي وضعته الحكومة المؤقتة لغصلاح الاوضاع في البلاد. (للاطلاع على الجزء الأول أضغط هنا) كيف نقاوم غلاء الأسعار ونحافظ على الطّاقة الشّرائيّة؟ كما في السّابق، لمقاومة التّضخّم المالي والمحافظة على المقدرة الشّرائيّة، لجأت وستلجأ الحكومة إلى التّسعير، وتكثيف مراقبة الأسعار، وترفيع الدّعم، والضّغط على مسالك التّوزيع، لتخفيض هوامش ربحها. حسب علمي، في الاقتصاد، هذا حلّ مغلوط تماما، يرتكز على تصوّر يعود إلى عصور أخرى، في ما يخصّ الاقتصاد، وعمل السّوق، وقوانين العرض والطّلب، وأسباب وحلول الغلاء (التّضخّم المالي). هذه الإجراءات لا تحلّ المشكل، بل تزيده حدّة وتعقيدا، وتأجّل حلّه.
هل نحلّ مشكلة تدنّي الطاّقة الشّرائيّة بالتّسعير، والضّرر بالإنتاج، وزيادة الدّعم ونفقات وتدخّل وعجز الحكومة، أم هناك آليّات أخرى، على غرار ما تفعله البلدان الّتي حلّت هذه المشاكل، منذ زمن طويل؟ أليس الحلّ في زيادة الإنتاج ودفع الإقتصاد إلى الأمام، لرفع المداخيل وزيادة العرض؟ في هذا السّياق، هناك مسألة وجود "مافِيا" في التّوزيع، أو حتّي المعادلة بين التّوزيع والمافيا. للعلم، لم يرد ذكر هذه المسألة في البرنامج؛ لكن ذكرت مرّات من قبل أعلى المسؤولين كسبب أساسيّ لغلاء الأسعار. فى ماذا تتمثّل هذه "المافيا"؟ ما هي التّصرّفات الّتي نتّهمها بها وعلى ماذا نلومها؟ هل نلومها على السّعي وراء الكسب والرّبح، حسب وضعيّة السّوق؟ (في نظري، لا لوم على هذا.) هل هذه المافيا هي أساس المشكل في التّوزيع؟ هل هناك أصلا مشكل في التّوزيع، ودوره، وهوامش ربحه، وطريقة عمله، في الإطار القانونيّ لهذا القطاع؟ إذا كان الجواب نعم، ما هو المشكل وعلى ماذا نلوم قطاع التّوزيع بالذّات، وماذا نطلب منه؟ في نظري، المشكل في التّوزيع هو شطط تدخّل الدّولة والإدارة، وتعدّي دورها وصلاحيّتها الطّبيعيّة والمجدية، وقلّة المنافسة والشّفافيّة، في المعاملات وفي تعليق الأسعار. كما هناك نقص في احترام مقاييس الجودة، والنظافة والسّلامة، والمنافسة الحرّة، السّليمة. بدون شكّ، لهذا القطاع، ككلّ القطاعات، عيوب ونقائص وتجاوزات، لكنّها غير ما يعاب عليه. لذا، لإصلاح هذا القطاع، يكمن الحلّ في الإجراءات والإصلاحات الّتي تواجه مشاكل القطاع. هل الدّولة والقطاع الخاصّ يتكاملان أم هما في منافسة؟ في نفس السّياق، بما أنّ سياسة الحكومة تعتمد على مواصلة وتعزيز "تنظيم وتعديل السّوق، والتّدخّل"، خاصّة عن طريق توريد الموادّ الأساسيّة، يحقّ بنا أن نتساءل:هل احتكار الدّولة (الدّيوان التّونسي للتّجارة) لاستيراد وتجارة المواد الأوّليّة يدخل في دورها ومهامّها؟ هل دورها مزاحمة ومضايقة القطاع الخاصّ، أم العكس؟ دور الدّولة، ومسؤوليّـاتها، وتعاملها مع الاقتصاد، وبالأخص القطاع الخاصّ، مسألة جوهريّة وملحّة، في الطّور الحالي، تستدعي أن ننكبّ عليها بجدّ وبنهج منفتح، بدون أفكار مسبّقة، أو أهداف واعتبارات سياسيّة. البرامج والسّياسة ليست جملة إجراءات، ومشاريع، وقرارات إداريّة وجبائيّة؛ هي مراجعة هيكل الاقتصاد، ومنوال النّمو، والإطار العامّ، والمناخ المناسب، لتنشيط القطاع الخاصّ، ورفع الثّقة في الدّولة، وفي البلاد، والمستقبل. الجواب على السّؤالين الّذين ألقينا، أعلاه، هو: دور الدّولة مؤازرة وتقوية القطاع الخاصّ وعدم مزاحمته ومضايقته، في مجالاته الطّبيعيّة، تلك الّتي يقوم بها في البلدان الحرّة والنّاجحة اقتصاديا. الدّولة والقطاع الخاصّ يتكاملان. يبدأ دور الدّولة عندما ينتهي دور القطاع الخاصّ، أي عندما يعجز هذا الأخير على تقديم الخدمة المعنيّة بالأمر. ليس الأمر بالعكس، أي يبدأ دور القطاع الخاصّ عندما ينتهي دور الدّولة، أو عندما تفسح له المجال. هل ترفيع نفقات الدّولة بهذا الكمّ الهائل هو ما يحتاج إليه الاقتصاد؟ ترمي الحكومة إلى جعل 2012 مرحلة الإنعاش الاقتصادي، بضخّ ميزانيّة مرتفعة في الاقتصاد. لم تكن سنة 2011 سنة تراجع اقتصادي لأنّ الدّولة خفّضت نفقاتها. كان تراجع الاقتصاد ناتجا عن: الخسارات المادّية، خلال الثّورة وحتّى في ما بعد؛ تراجع الإنتاج، من جرّاء الفوضى والإضرابات والإعتصامات؛ عدم الاستقرار؛ الضّبابيّة؛ اختلال الأمن؛ تأزّم الوضع الاجتماعي؛ تراجع الاستثمار، في هذا المناخ. لذا، الحلّ يكمن في إزالة هذه المعوقات، ولا يستدعي، بالمرّة، التّرفيع في الميزانيّة ب12،6%، مع ما ينجرّ عنه من ارتفاع في عجز الميزانيّة، وعجز ميزان الدّفوعات الخارجيّة، والمديونيّة، والتّضخّم الماليّ. الإصلاحات الهيكليّة تمثّل أفضل وأرخص برنامج للتّشغيل انتداب 25.000 موظّف إضافّي في الإدارة ليس الحلّ، ولا ينفع الإدارة (لأنها لا تحتاج إلى المزيد من الموِظّفين)، ولا المواطن (لأنّ المزيد من الموظّفين، علاوة على الفائض المعلوم، لن يعينه ولن يسهّل حياته، ويعرّضه – في الأجل القريب أو البعيد – إلى ترفيع في الضّرائب)، ولا الميزانيّة (لأنّها في عجز وتحتاج إلى تخفيف). برامج التّشغيل والتّكوين المهنيّ لا تعطي نتائج، إذا لا ينتعش القطاع الخاصّ، ليستوعب هذه اليد العاملة. يمكن تدريب أحسن يد عاملة في العالم، لكن بدون شركات خاصّة تحتاج إلى هذه اليد العاملة، ستبقى هذه اليد العاملة العالية الكفاءة عاطلة. لذا الأولويّة، في التّشغيل، هي تنشيط وتحرير القطاع الخاصّ، وإزالة كلّ تمييز وتفضيل ضدّ الاستثمار الخارجيّ أو لصالحه. هل هناك توجّهات جديدة لدفع الاستثمار؟ تعتمد خطّة الحكومة الاقتصادية على إنجاز مرحلة إنعاش تليها مرحلة الانطلاقة. تعتمد الانطلاقة، بالأساس، على دفع الاستثمار الدّاخلي والخارجي، العمومي والخاصّ. السؤال: كيف؟ الجواب هو: مراجعة منظومة تشجيع الاستثمار
ليس الغرض من هذه المراجعة تخفيض أو إلغاء التّشجيعات، كما تؤكّد ذلك إجراءات رفع وتوسيع التّشجيعات المذكورة في البرنامج، خاصّة في المناطق الدّاخليّة والقطاعات "الواعدة". الغرض هو الزّيادة في التّشجيعات وفي إعانة الطّبقة المتوسّطة، الّتي تتحمّل العبء الأكبر من الضّرائب، والمستهلكين – عبر الأداء على القيمة المضافة – للمستثمرين، التّونسيّين والأجانب الحلّ هو تحرير الاقتصاد، تحسين مناخ الاستثمار والنّشاط الاقتصادي، إلغاء البيروقراطيّة، تحسين الخدمات العموميّة، تخفيض الضرائب والأعباء الاجتماعية – بإيجاز، كما ذكرت في كتاب" compagnie .Tunisie "، رفع تنافسيّة وجاذبيّة تونس ككلّ، لتسهيل ورفع ربحيّة الاستثمار والنّشاط الاقتصادي، بدون إعانات، ودعم، وتعويضات، وتشجيعات. إحداث هيئة وطنيّة للاستثمار من أجل تسهيل وإسراع الاستثمار عوض إزالة الصّعوبات، والعراقيل، والتّعقيد، والتّعطيلات، الّتي تتسبّب فيها القوانين، والإدارة، والمرافق العموميّة، نحدث هيئة جديدة – أي إدارة تخلّصنا من الإدارة. هل سنسهّل ونسرّع الاستثمار بإحداث إدارة جديدة؟ لماذا لا نحلّ المشكل من أصله، عوض التّهرّب منه وتصعيده؟ أليس هناك تكلفة لهذه الهيئة ومثيلاتها المتعدّدة الّتي تنوي الحكومة إحداثها؟ أم هذا اعتبار تافه، في كنف البحبوحة الّتي نحن فيها؟ إحداث صندوق سياديّ للاستثمار هل الدّولة عندها فائض ستستغلّه للاستثمار؟ أم أنّها ستزيد في الاقتراض، باسمنا وعلى كاهلنا، وفي الضّرائب، حتّى تستثمر مكاننا؟ هل الاستثمارات العموميّة مجدية ومربحة؟ هل تحسن الدولة وموظّفوها إنجاز واستغلال المشاريع الاقتصادية؟ لماذا لا نقوم بدراسة توضّح لنا جدوى، وربحيّة، ومردود المشاريع والشّركات الحكوميّة، قبل أن نتوغّل في مشاريع جديدة؟ إذا تقدِّم هذه المشاريع ربحيّة جيّدة، تغطّي ديونها وتكافئ رأس المال الّذي يساهم به الشّعب – في شكل أرباح، فلنواصل فيها، بلا مخاوف ولا نقاش عقيم. أمّا إذا الأمر بالعكس، فلنكفّ عنها، ونقلع على تبديد مال الشّعب، والغرق في الدّيون. سؤال آخر: هل دور الدّولة إنجاز مشاريع اقتصاديّة، أم هذا ليس من دورها؟ ما هو دورها؟ ماذا نريد منها؟ ما هو دورنا ودور القطاع الخاصّ؟ إلى جانب التّساؤلات المطروحة أعلاه، هذا الإجراء يعني، أيضا، توسّع دور الدّولة وتدخّلها في الاقتصاد. هذا يتناقض مع الكلام على دفع وتشجيع القطاع الخاصّ، حتّى نحرّك الاقتصاد ونقلّص البطالة. المشاريع… والمزيد من المشاريع! تعزم الحكومة تحصيل التّنمية الجهويّة من خلال مشاريع واستثمارات. ليس هناك تدقيق؛ لا ندري هل هذه استثمارات ومشاريع تنمويّة، تهمّ المرافق العامّة والبنية التّحتيّة، والبرامج الاجتماعية، أم تضمّ أيضا مشاريع اقتصادية، حكوميّة. علينا أن نكون حذرين ولا نجزم بأنّ كلّ مشاريع البنية التّحتيّة والمرافق العموميّة لازمة ومجدية، أو أنّها تقوم علي دراسات مهنيّة وموضوعيّة، بالأخصّ عندما يتمّ قرارها والشّروع فيها بهذه السّرعة. هناك العديد من المشاريع الّتي أنجزت، بدون جدوى أو داع؛ هناك مشاريع فشل وتوقّف إنجازها؛ هناك مشاريع نجح إنجازها، لكن فشل استغلالها. إذا، علينا أن لا نتسرّع ونعتبر أنّ هذا النّوع من المشاريع كلّه فائدة، وأنّ نجاحه مضمون. إلى جانب المشاريع الجهويّة، هناك تنفيذ المشاريع الكبرى. مرّة أخرى، هل هذه مشاريع اقتصادية أم بنية تحتيّة؟ كما الحال بالنّسبة للمشاريع الجهويّة، ليست كلّ مشاريع البنية التّحتيّة، بالتّعريف وبالضّرورة، مجدية وتشكّل استعمالا حكيما للموارد العامّة. هل لدينا التّمويل لهذه المشاريع، أم هذا اعتبار ثانويّ، وزيادة الدّيون – هذا إذا وجدنا من يقرضنا – مجرّد جزئيّة؟ |
بقلم: فاتح مامي
|