في إطار تطوير النّقل، تعتزم الحكومة “فتح قطاع النّقل العموميّ الجماعيّ للخواصّ”. هذا قرار جيّد، يساهم في حلّ مشكل النّقل العموميّ وتحسين خدماته…
ميزانيّة 2012 وبرنامج الحكومة– هل من جديد؟ (جزء 4) |
فتح قطاعات عموميّة للخواص يتطلّب تطهير الشّركات العموميّة وتوقيف الإعانات والامتيازات لفائدتها في إطار تطوير النّقل، تعتزم الحكومة "فتح قطاع النّقل العموميّ الجماعيّ للخواصّ". هذا قرار جيّد، يساهم في حلّ مشكل النّقل العموميّ وتحسين خدماته. هل ستتمتّع الشّركات الخاصّة بالدّعم والإعانات الّتي تتحصّل عليها الشّركات العموميّة، والّتي من جملتها تغطية الخسائر؟ لتكون المنافسة سليمة، منصفة ومتساوية، يجب أن تكون على قدم المساوات، وإلاّ، سيكون التّنافس مختلاّ، يجعل ربحيّة الشّركات الخاصّة صعبة. نحن في حاجة، هنا، إلى خيار وتوجّه واضح، بين المنظومة الحاليّة ومجرّد تعديلها، من ناحية، وفتح السّوق للقطاع الخاصّ والمنافسة النّزيهة، من ناحية أخرى. أتتصوّر ماذا سيحصل لو دخل الخواصّ في منافسة نزيهة مع الشّركات العموميّة – أي بدون دعم وإعانة حكوميّة لهاته الأخيرة، أو بنفس الدّعم والإعانات لكلّ النّاشطين في السّوق؟ ضرائب جديدة لمزيد دعم السّياحة… من أجل تنافسيّة مزيّفة… يتمثّل هذا الإجراء في "إحداث معلوم على الرّحلات الجوّيّة توظّف مداخيله لفائدة صندوق تدعيم القدرة التّنافسيّة للقطاع السّياحيّ". هذا يعني أنّ القطاع السّياحيّ غير تنافسيّ بنفسه، ويحتاج إلى دعم وإعانة لتحقيق التّنافسيّة أو القرب منها. ومن سيتولّى تمويل هذا الدّعم وتحمّل هذا العبء، وإنقاذ القطاع، هم مسافرو الرّحلات الجوّيّة. لماذا نخصّ هؤلاء بالذّات؟ بأيّ مبدأ؟
مالجدوى من خلق تنافسيّة مزيّفة لهذا القطاع وتحويل أموال من المسافرين لتمكينه من الكسب؟ كما يشاطرونه الخسارة، هل سيشاطرونه يوما ما الرّبح؟ أم الخسارة عموميّة، لكنّ الأرباح خاصّة؟ هل المساندة المصطنعة لقطاعات أو شركات لا تنافسيّة هي المنوال الّذي سنبني عليه اقتصادا قويّا، تنافسيّـا؟ لماذا هذه المعاملة الخاصّة لهذا القطاع؟ إذا هذه القاعدة صحيحة وسليمة، لماذا لا نعمّمها على كلّ القطاعات والشّركات؟ لماذا نميّز أطرافا على أخرى، ولا نضمن التّنافسيّة والرّبحيّة للجميع؟ ليس التّفريق والتّمييز من الإنصاف! وبما أنّ هذه الإعانة لتدعيم التّنافسيّة لن تكفي، ممّا يدلّك على وضع هذا القطاع ومدى بعده عن التّنافسيّة، فإنّ الحكومة ستتولّي أيضا، بفضل دافعي الضّرائب:
"الإحاطة بالمؤسّسات السّياحيّة ومساندتها؛"
هل هذا تصرّف سليم واستعمال منصف للضّرائب الّتي تدفعها خاصّة الطّبقة الوسطى، ويساهم فيها حتّى ضعفاء الحال؟ هل هذا استثمار مربح لموارد البلاد؟ هل تشكّل السّياحة قطاعا واعدا، يستحقّ كلّ هذه التّضحيّات، يساهم في بناء اقتصاد قويّ، منافس؟ مرّة أخرى، لا تنسى أنّ في مثل هذه الحالة، الخسارة لكلّ التّونسيّين، بمختلف فئاتهم، حتّى الضّعيفة، وأنّ الرّبح للمستثمرين في السّياحة، الّذين أقلّ ما نقول عنهم أنّ أغلبهم فوق المتوسّط. ليس هذا توزيع الثّروات الّذي يُفترض أن تقوم به الدّولة، والّذي يقلّص من الفوارق، ويساهم في العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص. الحرّيّة التّجاريّة خارجيّا، لا داخليّا في مجال السّياسة الخارجيّة، يرمي البرنامج إلى "استكمال تنفيذ كافّة مقتضيات منطقة التّجارة الحرّة العربيّة." ما لم تؤمن البلدان العربيّة، وعلى رأسها تونس، بالحرّيّة التّجاريّة، الّتي لا تقوم – أو بالأحرى، ليس لها معنى – بدون حرّيّة اقتصاديّة، وما لم تطبّقها، مع الحرّيّة الاقتصادية، داخلها، فإنّ اتفاقيّات ومعاهدات التّجارة الحرّة العربيّة والمغاربيّة ستبقى، في الأغلب، حبرا على ورق، أو في أحسن الحالات، هامشيّة أو استثنائيّة – الاستثناء الذي يؤكّد القاعدة.
إذا نحن نؤمن بالحرّية التّجاريّة وفوائدها، لماذا لا نطبّقها، في كلّ المجالات والقطاعات، وعلى كلّ المستويات ومختلف الجهات – أي، في الدّاخل أيضا؟ أم نحن نؤمن بها، على مستوى البلدان العربيّة والمغاربيّة فقط، وهي لا تصلح في الدّاخل – خاصّة، في القطاعات "الحسّاسة"؟ لا حرّيّة تجاريّة بدون حرّيّة اقتصاديّة؛ ولا حرّيّة اقتصاديّة بدون تغيير في السّياسة الاقتصادية، يقلّص دور الدّولة في الاقتصاد ويوسّع مجال القطاع الخاصّ؛ ولا حرّيّة تجاريّة واقتصاديّة، بدون خروج الدّولة تماما من التّجارة الدّاخليّة والخارجيّة. ولا نشاطا تجاريّا، خارجيّا، بدون نشاط تجاريّ داخليّ وقطاع خاصّ نشط وحيويّ. أجدر ما نفعله لتنشيط التّجارة، بما في ذلك العربيّة والمغاربيّة، هو إعطاء المثل وتطبيق ما ندعو إليه، بالأخصّ، في الدّاخل: لا يمكن أن ندعو الغير إلى عكس ما نطبّق. لا تنمو التّجارة والمعاملات، الحقيقيّة والدّائمة، نتيجة قرارات، أو تعليمات أو اتّفاقيّات سياسيّة؛ إنّها تنمو نتيجة السّعي لتحقيق مصالح وأرباح خاصّة – تتحقّق من خلالها المصالح العامّة وحتّى المكتسبات السّياسيّة. هذه هي الحقيقة الّتي لم نعتد قولها وننزعج من سماعها، والّتي نتجاهلها على حساب مصالحنا و على حساب العاطلين عن العمل! رغم ذكرها مرّات، يفتقر البرنامج إلى الإصلاحات الهيكليّة الإصلاحات الهيكليّة، في البرنامج، تتألّق بكثرتها وكثافتها، مع أنّ الكثير منها، في نظري، ليس هيكليّا. تتّجه الإصلاحات المبرمجة من قبل الحكومة عكس الحدّ من دور الدّولة ومهامّها، وتزيد في مبادرة الدّولة ودورها "في الإصلاح". تعِد "الإصلاحات الهيكليّة" بإحداث هياكل ومراصد وصناديق، وببعث برامج جديدة، مع تفعيل وتنشيط الهياكل والبرامج القائمة، إلى جانب قيام الدّولة بمشاريع واستثمارات إضافيّة، و، و، و… لذا، أتساءل على مدى "هيكليّة" الإجراءات الواردة تحت هذا العنوان. يبدو لي أنّ الإصلاحات المقترحة جزئيّة وتقف على مستوى العموميّات، أو الأهداف والنّوايا. من ناحية أخرى، الكثير من الإجراءات والبرامج المدرجة تحت فصل الإصلاحات الهيكليّة هو استطراد أو حوصلة لما ورد من إجراءات ومشاريع، تحت برامج مختلف القطاعات والوزارات. أي هي إجراءات تنشيطيّة، أي ظرفيّة، وفي نفس الوقت، هيكليّة. كان من الأفضل التّمييز والتّرتيب، بين الصّنفين، لتحديد أولويّات، وأهمّيّة، ومدى كلّ صنف، وتجنّب التّعميم والخلط. فيض الإجراءات والمشاريع يشتّت الجهود ويضعف الإنجاز قد يؤدّي فيض الإجراءات، خاصّة نظرا إلى قصر مدّة مهامّ الحكومة، إلى تشتّت الجهود وضعف الإنجاز. كان من الأفضل وضع أولويّات، والتّركيز على الأهمّ والأكثر إلحاحا. أمّا الإفراط في اللّجوء إلي الاستشارات والمجالس واللّجان الوطنيّة، فإنّه سيؤدّي إلى تمطيط، وحتّى تعطيل، الإصلاحات وتمييعها، وإلى الإنطباع بأنّ الحكومة غير قادرة على أخذ القرارات والخيارات الحاسمة. الإفراط في الدّواء يعرقل الشّفاء كثرة الدّواء، بالأخصّ غير اللاّزم وغير المناسب، يضرّ أكثر ممّا ينفع، خاصّة عندما يحتاج المعني بالأمر إلى حمية وعمليّة، إضافة إلى أنّ الأدوية باهظة التّكلفة، والحمية والعمليّة توفّران التّكلفة، وتوقفان، فورا، الحاجة إلى العلاج. كثرة الإجراءات الظّرفيّة – الدّواء – لا تحلّ المشكل، بل تبعدنا عن الحلّ. هذه الإجراءات باهظة التّكلفة. المطلوب هو الإصلاحات الهيكليّة – الحمية والعمليّة – المنخفضة الّتّكلفة، والّتي تحصّل الشّفاء في أمد أقرب. تتوسّع الدّولة وينمو دورها وحجمها… ويتراجع دور المواطن وخياراتُه… وتضعف المبادرة الفرديّة… والحرّيّة تتوسّع الدّولة، وبالتّالي، يتراجع دور الموطن
البرنامج يعتمد على دور ومبادرة الحكومة؛ يوسّع نشاطها ويزيد في حجمها. أين المبادرة الفرديّة؟ أين دور الشّعب؟ ما هو دور القطاع الخاصّ ومهمّته في هذه الفترة؟ لا يتوسّع دور الدّولة، بدون تراجع دور القطاع الخاصّ، وبدون تراجع مبادرة الفرد وخياراته، وضيق مجالات قراراته. يزداد دور الدّولة، على حساب حرّيّة الخيار والمبادرة توسُّع دور الدّولة ومهامّها ومسؤوليّاتها، مع، بالضّرورة، تراجُعِ دور المواطن، يزيد في نفوذها وسيطرتها، على حساب الموطن ومكانته. الدّيمقراطيّة والحرّية تعنيان زيادة نفوذ ومجال تحرّك المواطن – لا العكس. المسألة، إذا، ليست مسألة ميزانيّة، وبرنامج حكومة، وتوجّه اقتصاديّ، فحسب. هي أبعد وأهمّ من ذلك بكثير، إذ تمسّ مستقبل الحرّيّة وسيادة الشّعب والديمقراطيّة، في بلادنا. الحرّيّة الاقتصادية أساس الحرّيّات الأخرى علاقة الاقتصاد بالسّياسة وعلاقة السّياسة بالاقتصاد أقرب وأهمّ ممّا نظنّ. كذلك الحال في ما يتعلّق بعلاقة الحرّيّة السّياسّية بالحرّيّة الاقتصادية. أضمن طريق للتّضييق على الحرّيّة السّياسيّة هو الاستئثار بالمبادرة الاقتصادية والقرار الاقتصادي، ثمّ التّضييق على الحرّيّة الاقتصادية ومجالاتها، ثمّ يأتي، في الآخر، الإجهاز على باقي الحرّيّات. هل هناك بلدان تفتقر إلى الحرّيّة الاقتصادية، وتزخر تحت البيروقراطيّة، لكن تنعم، في نفس الوقت، بالحرّيّة السّياسيّة، وبالرّخاء؟ إصلاحات هيكليّة مع توسيع دور الدّولة مغالطة – أو على الأقلّ خلط الإصلاحات الهيكليّة هي الّتي نحتاج إليها. علينا أن نركّز عليها، حتّى يُصلِح الاقتصاد نفسَه بنفسه، عندما نتوقّف عن عرقلته والإخلال به. لقد ناديت بهذا النّوع من الإصلاحات في كتاب "تونس.الشّركة". لكنّ جوهر الإصلاح الهيكليّ الّذي ناديت به يعتمد على تراجع دور الدّولة، وتركيزها على مهامّها الأساسيّة. لا يتوافق توسّع دور الدّولة مع الإصلاحات الهيكليّة. الإصلاحات الهيكليّة تعني التّبسيط، والتّحرير، والتّخفيف من التّراتيب والتّنظيمات، وتوسيع وتشجيع المبادرة الفرديّة، لتنشيط وتقوية القطاع الخاصّ. لذا، الحديث عن الإصلاحات الهيكليّة، مع توسيع دور الدّولة ومهامّها، هو غلط – أو مغالطة. تشجيع "القطاعات الواعدة"، حسب تعبير الحكومة، توجّة خاطئ وخطير تهدف الحكومة إلى التّحوّل من المنوال التّنمويّ المعتاد، الّذي يعتمد على الصّناعات الخفيفة، والمناولة، واليد العاملة الرّخيصة، إلى صناعاتِ وخدماتِ التّكنولوجيا والكفاءات العالية. كيف تنوي الحكومة تحقيق ذلك؟ بتشجيع هذه الأنشطة الواعدة، على حساب الأنشطة والقطاعات الأخرى، بالأخصّ "التّقليديّة". يعني أنّ الدّولة تختار وتقرّر من يحظى بالتّبجيل والامتيازات، وينجح، ومن يُزهد فيه، ويتأخّر، أو حتّى يتلاشى. هل هذا دور الدّولة ومن صلاحيّاتها؟ ماذا يمنع، غدا، أن يتحوّل التّبجيل إلى أشخاص أو أطراف معيّنة، مثلا قريبة من النّظام، عوض قطاعات وأنشطة معيّنة؟ هذا منحدر خطير، يعطي صلاحيّات مشطّة للدّولة. أضف إلى هذا، من النّاحية العمليّة، من يضمن أنّ الدّولة وموظّفيها سيختارون القطاعات الواعدة والمستقبليّة، خيرا من السّوق والمستثمرين، الّذين يدعمون خياراتهم وقراراتهم بأموالهم وجهدهم وقتهم، ويخاطرون بها؟ الخاتمة هذا البرنامج يفرط في الطّموح وحسن النّوايا. لذا، قد يؤدّي إلى التّشتّت وقلّة تحقيق الأهداف. يمثّل توسّعا هائلا في دور وحجم الدّولة – على حساب المبادرة الفرديّة ومجال القطاع الخاصّ – يمسّ سلبيّا بالتّوازنات العامّة للبلاد ويتنافى مع الإصلاح الهيكليّ. كلّ هذا لا يعزّز التّنافسيّة، بل يضرّ بها، و، بالتّالي، بالاستثمار والتّشغيل – مؤدّيا إلى نتيجة عكس المنشود. يواصل البرنامج ويقوّي السّياسة القديمة والمنظومة القديمة، الّذين فشلتا وأدّتا إلى ثورة. لذا، أرى احتمال نجاحه ضعيف، من النّاحية الاقتصادية.
تراجع المبادرة الفرديّة والحرّيّة الاقتصادية مضرّ بالاقتصاد وبمختلف الحرّيّات. إذا نقبل تضييق وتراجع الحرّيات في مجال الاقتصاد، الّذي هو أهمّ وأخطر مجال، كيف نرفضه أو نتصدى له في مجالات أخرى، ترتكز الحرّيّة فيها، أساسا، على الاستقلالية والحرّيّة الاقتصادية؟ علينا أن لا نغترّ بالحلول السّهلة والمُكلِفة، ولانعوّل أساسا على الدّولة، ونعطيها كلّ المبادرات والصّلاحيّات، الّتي قد ترسي هيمنة جديدة، في مختلف المجالات.
|
بقلم فاتح مامي |