عندما همَّ عقبة بن نافع ببناء القيروان، حرص أنْ يكون البنيان منيعا، فاختار منطقة أحراش وغياض مليئة بالوحش والحيّات والأفاعي والسباع. ورُوي، بإسناد حسن، أنّ عقبة وقف، فقال: يا أهلَ هذا الوادي إنَّا حالُّون فيه، إن شاء الله، فاظعنوا، ثلاثَ مرّاتٍ…
أَفَحُكْمُ الجاهليّة يبغون؟ |
عندما همَّ عقبة بن نافع ببناء القيروان، حرص أنْ يكون البنيان منيعا، فاختار منطقة أحراش وغياض مليئة بالوحش والحيّات والأفاعي والسباع. ورُوي، بإسناد حسن، أنّ عقبة وقف، فقال: يا أهلَ هذا الوادي إنَّا حالُّون فيه، إن شاء الله، فاظعنوا، ثلاثَ مرّاتٍ. قيل: فمَا نرى حَجَرًا ولا شجرًا إلاّ يخْرج من تحته دابّة حتى هَبَطْنَ بطنَ الوادي. ثمّ قال: انزلوا باسم الله. ويقال إنّ عقبة جمع خمسة عشر رجلا من أصحاب رسول الله كانوا معه، وخاطب سكّان الوادي:
أيّتها الحيّات والسباع نحن أصحاب رسول اللّه، فارتحلوا عنّا. ومن وجدناه، بعد ذلك، قتلناه.. وخرجت، وفق هذه الروايات، السباع من أحراشها تحمل أشبالها والذئاب تحمل جِراءها والحيّات تحمل أولادها. وقال عقبة لأصحابه: كفّوا عنهم حتّى يرتحلوا . مقدّمة مثل هذه يمكن أنْ تصلح لإضفاء شحنة عالية من القداسة بين يديْ مدينة استقبلت، لتوّها، ملتقى لـ"أنصار الشريعة" جاؤوا القيروانَ من كلّ فجّ عميق يوم الأحد (29 جمادى الآخر 1433 !! ). وقد تبدو كرامة عقبة هذه، متى استدعيناها لهذه المناسبة، صالحة لكي تكون خلفيّة استعاريّة لملتقى شُدَّت إليه الرحال، وشهده الآلافُ، وأسهم فيه كلّ من توقّف عند "قال اللّه" "قال الرسول"، سواء عبر الحضور على عين المكان، أو عبر الرسائل أو عبر "السكايب" جنّ سليمان الجديد . في ملتقى "أنصار الشريعة" كان العنوان الكبير استفهاما إنكاريّا: أفَحُكْم الجاهليّة يبغون؟ وكانت كلمة "أبي عياض التونسيّ" زعيم السلفيّة الجهاديّة تدور على الإصلاح. وهذا، في حدّ ذاته، أمرٌ رائع. إصلاح كلّ شيء مادام كلّ شيء – في عالم الكون والفساد هذا – غارقا في الفساد. الطريف حقّا، واللّقية التي أبهرتني وأبهرت من سمع كلمة الشيخ هو أنّ الحلّ دانٍ قريب، ولكنّنا عنه ساهون ذاهلون: الحلّ في.. الكتاب والسنّة لا يعدوهما إلى كتاب آخر غيره أو سنّة سواها . في كلمة جامعة مانعة، أصاب الخطيبُ بنبله كبدَ الحقيقة. أجل. يا من يعقد الندوات والورشات والاستشارات ويدعو الخبراء، ويتحدّث عن عدالة انتقاليّة.. الحلّ بين أيديكم، وأنتم عنه لاهون: الكتاب والسنّة.. كذلك، شأن الإعلام والتعليم والصحّة والرياضة والسياحة والاقتصاد..(لم يقل الخطيب شيئا عن الدين نفسه، أعني عن إصلاح الدين لأنّه سليم معافى والحمد للّه ولا يحتاج لبيان أو لإصلاح !) إصلاح الإعلام – في خطبة الشيخ – ممكن لو توفّرت الإرادة، وإصلاحه يكون بالكتاب والسنّة. والتعليم أمره هيّن إنْ توفّرت النيّة. والباب إلى إصلاحه يكون من خلال الكتاب والسنّة. أمّا السياحة فإصلاحها إصلاحا جذريّا على الطريقة الإسلاميّة أمر لا غنى عنه، لتكون سياحة حلالا لا سياحة دعارة وفجور. وهذه فرصة متاحة لأهل القيروان ليبادروا بدعوة "ذوي الشعور الشقراء والعيون الخضراء" ممّن أسلم في ديار الكفر لزيارة القيروان. وهذه سياحة صلاحها يكون على أساس من الكتاب والسنّة، أيضا . ولمّا كان العقل السليم في الجسم السليم، فقد استأثرت الصحّة بحيّز من اهتمام الخطيب. وهذا القطاع المهمّ الذي يعرف مصاعب ومشكلات جمّة إصلاحه أمرٌ مبذول. والمرجع في ذلك – دائما – هو الكتاب والسنّة. وإذا شئنا إصلاح الكلّ طلبنا اقتصادا إسلاميّا نستخلصه – إن شاء اللّه – من الكتاب والسنّة ! أفحكم الجاهليّة يبغون؟ كلاّ – يا شيخ – مادام الحلّ في الكتاب والسنّة. وهذا – لو علموا – أمر صحّ به الخبر والعيان في بلاد أسعفها اللّه بالخروج من الجاهليّة والطاغوت مثل الصومال وإمارة طالبان المأسوف على دولتها والأراضي المحرّرة في اليمن ودولة العراق الإسلاميّة تحت التأسيس . الحلّ في الكتاب والسنّة. نعم، منذ أنْ نادى المنادي في جماعة الإخوان المسلمين بُعيْد التأسيس أنّ الإسلام هو الحلّ. والحلّ في الكتاب والسنّة كما جُرّب وصحّت به التجربة في دولة السودان الموحّد المنيع منذ أربعين عاما من السلم الأهليّة والوحدة الصمّاء بين الشمال والجنوب. والحلّ في الكتاب والسنّة في جزائر التسعينات لو أنّ العسكر قيّضوا للتجربة أن تنجح.. والحلّ في الكتاب والسنّة كما هو معاين معيش في أرض الحرميْن. نعم. أوليس من البديع، حقّا، أنّ جمهوريّة إيران الإسلاميّة توصّلت إلى حلّ جميع المشكلات ما فات منها وما هو آت، ومرّت إلى حلّ مشكلات جيرانها بالكتاب وحده ودون حاجة إلى الاستعانة بالسنّة المطهّرة ! أفَحُكْم الجاهليّة يبغون؟ ذلك كان شعارهم في القيروان. وأوّل الخطوات في هدم الطواغيت والأوثان مخالفةُ أهل الجحيم قاطبة. من ذلك كما قال الشيخ الخطيب تأسيس اتّحاد شغل إسلامي (يعني وفق الكتاب والسنّة دائما ) واتّحاد إسلاميّ للطلاّب بدَل هذه الاتّحادات العلمانيّة الكافرة الغربيّة المورد والمضرب.
كلمة الشيخ التي تلت استعراضاتٍ في "الزمقتال"(قد يصير نواة لقتال إسلاميّ أيْ وفق الكتاب والسنّة)- جاءت لتعلنَ، أيضا، أنّ البلاد في هذه المرحلة هي أرض دعوة لا أرض جهاد. وللأمانة، فهذا أمر مطمئن، وإن كانت الطمأنينة حمْقا مادام الموت راصدا في كلّ حال . الخطبة التي كانت لها منبرا أرضُ صحابة رسول اللّه القيروان رابع مدينة إسلاميّة بعد مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة والقدس الشريف – خطبة مدجّجة لم تخل من معجم الحرب والقتال والوعد والوعيد والنفير.. أليس سائر التونسيّين ممّن لا يشاركون الشيخَ وأنصاره قراءته الخصوصيّة للكتاب والسنّة – أليسوا هم إلاّ مُسوخا من تلك السباع والحيّات والوحوش والذئاب ودوابّ الأرض من سكّان الشّعاب التي بنيت عليها القيروان. مسوخ عليها – في خطاب الشيخ – الانصياع للفهم الواحد الأحد للكتاب والسنّة… ومن خالف، بعد ذلك، قُتل !
|
بقلم مختار الخلفاوي |