توقف جزء كبير من الشباب التونسي جامدا أمام انهيار أحلامه الثورية وسقوط امنياته لتشييد تونس أفضل مما كانت عليه قبل يوم 14 جانفي 2011. شباب أجّج نيران التمرد ضد الطاغية بن علي وأتقن توظيف قدراته الحيوية من أجل رجّ أركان نظام نخره سرطان الفساد والاستبداد…
هل تنهار أحلام الشباب الثوري التونسي؟ |
توقف جزء كبير من الشباب التونسي جامدا أمام انهيار أحلامه الثورية وسقوط امنياته لتشييد تونس أفضل مما كانت عليه قبل يوم 14 جانفي 2011. شباب أجّج نيران التمرد ضد الطاغية بن علي وأتقن توظيف قدراته الحيوية من أجل رجّ أركان نظام نخره سرطان الفساد والاستبداد.
قسم واسع من الشباب التونسي انخرط في معركة تحدي جور أجهزة الاستبداد لبن علي. فيوم واحد فقط بعد اقدام محمد البوعزيزي على الانتحار كان كفيلا حتى يستنهض الشبان طاقاتهم من أجل تفجير مكامن الغضب لدى التونسيين. غضب تعاظم جراء عشريات من الاحتقار الاجتماعي والغبن الذي خلّفه نمط عيش الرئيس المخلوع والمقربين منه. فكان الشباب التونسي الذي تتلمذ في مدارس وكليات وضع برامجها الدراسية ذات السلطة التي انتفضوا عليها، أحسن من وظّف نفس الوسائل والتقنيات التي وفرها له ذلك "السيستام".
فكانت المظاهرات تجوب مختلف مدن وقرى محافظة سيدي بوزيد ثم محافظة القصرين قبل أن تجتاح بقية تراب البلاد. مسيرات ارتدت في وجهها عصا القمع وانحنت أمامها يد البطش. شباب خذلتهم الأحزاب السياسية التي ناور معظمها بمصير تلك الاحتجاجات وكاد يسقطها في دوامة أسئلة السخف السياسي: ثورة أم اصلاح؟ عدى بعض التيارات اليسارية الراديكالية الذين تمرد قواعدها ومنخرطيها الذين نشطوا في صلب اتحاد الطلبة والاتحاد العام التونسي للشغل، الذين رفضوا الانصياع لمواقف قادتهم النقابيين الرافضين لتلك الاحتجاجات حينها، كانت بقية الحركات تمارس نفس الرياضة السياسية التي تعودت عليها: اصدار البيانات تلو الأخرى، وتنظيم الندوات التضامنية المغلقة. وطبعا لا يدخل في هذا الحسبان ما سُمي بأحزاب الديكور التي لا يُفهم سبب الابقاء على تواجدها حاليا وهي التي لعبت أقذر المهام خلال فترة الثورة التونسية.
دور الشباب التونسي في اسقاط النظام السابق لا يُمكن الاستهانة به. فالسواد الأعظم من المتظاهرين كانوا من الشبان المعطلين عن العمل وشباب الجامعات والمعاهد الذين سخطوا على دولة لم تعد توفر لهم الأمان لمستقبلهم. شباب أحكم استعمال الشبكات الاجتماعية الافتراضية والمدونات الالكترونية لتنسيق التحركات ولكسر جدار العزل الاعلامي الذي فٌرض على أنشطتهم الميدانية. فاستطاع أولئك الشبان توسيع دائرة التضامن مع المتضررين من سياسة حكومات بن علي، وانجاح مسار التغيير السياسي.
وعلى اثر فرار الرئيس المخلوع، انفتحت الساحة السياسية المحلية أمام أطماع جميع القوة الحزبية والنقابية التي تكالبت على نهش ما بقي من سلطة تآكلت بعد أن رفع عنها مساندوها في الداخل وفي الخارج تأييدهم عنها.
هذه اللهفة من أجل الاستحواذ على النظام التي تزامنت مع اقتحام عدة أطراف محلية وأجنبية ليس لديها أية علاقة مباشرة بالحراك الثوري على خط الوضع في تونس، أدّت الى تهميش الشباب الثوري من جديد، والسيطرة على طموحاته السياسية. شباب وجد نفسه مغلوب على أمره مرة أخرى، وفاقد للقدرة على مواصلة المسيرة بعد أن استنزف كل طاقاته في معركة التحرير السياسي.
الشباب الثوري الذي يفتقد غالبيته الساحقة لتجربة العمل المنظم، عدى استثناءات محدودة، انساق بصورة ساذجة في سياق الأجندات الحزبية لعدد من الحركات التي استوعبت مطالبه وجرّتها نحو تحقيق أهدافها السياسية الضيقة. هذا الاحتواء أدى انهيار الحلم الشبابي وأفرز تشتتهم على هذه الطريقة:
عدد محدود من الشباب الذي تطابقت مواصفات شخصيتهم السياسية مع ما يسعى لتصوره الرأي العام الغربي، انتهى أمره منذ البداية. حيث اشتغلت شبكة العلاقات الدولية لوسائل الاعلام العالمية ومكونات المجتمع المدني الدولية في تضخيم أدوار عدد منهم، وحكر تسليط الضوء على مهماتهم دون سواها، وكانت الغاية من ذلك هو تقليص قيمة نضالات المهمشين والمسحوقين في البلاد. هم وحدهم الذين تحدوا آلة القمع رغم أنه يعوزهم الدافع السياسي أو المحرك الايديولوجي و فتحوا صدورهم ضد رصاص الشرطة، فيهم من سقط قتيلا وفيهم من أصابته اعاقات ستصاحبه طيلة حياته، أما الجزء الأكبر منهم فبقي على نفس الحال الذي كان عليه قبل الثورة: بطالة مزمنة وفقر مدقع.
شباب فضّل الانضمام الى أحزاب سياسية بعد أن كان يتأفف من النشاط في صلبها في السابق. شباب منح صك الغفران لفائدة "شيوخ" السياسية الذين فشلوا في تحقيق المهام السياسية التي ادعوا النضال من أجلها. شبان تخلوا عن المساحة التي افتكوها لمصلحة أجيال من السياسيين كان أفضل عمل يمكن أن يقوموا به هو أن يجلسوا في حدائق منازلهم لكتابة مذكراتهم الشخصية حتى يستفيد من أخطائها الأجيال اللاحقة.
شباب آخر اضمحل وجوده وتراجع تأثيره في ظل مشهد سياسي وإعلامي واجتماعي تمت السيطرة عليه بسرعة، اذ اشتغلت آلة التشويه التي صنعها النظام المنهار لمحاربة معارضيه لتخدم هذه المرة أطراف جديدة من أجل الوصول الى نفس الغاية السابقة: تحجيم أصوات المخالفين وتقزيم دورهم في تحقيق الثورة.
وفي الأثناء، لم يتوقف الجهاز السياسي الذي وضعت معالمه الأحزاب السياسية القديمة أو التي تكونت لاحقا، في احتكار الحياة السياسية. ففرضت حساباتها غصبا على المجتمع. وكانت سلسلة اعتصامات "القصبة" وانتخابات المجلس الوطني التأسيسي أبرز الخطوات التي قضت نهائيا عن أمل في أن يكون للشبان دور سياسي أكبر.
هذه "الاستبليشمانت" ما تزال تعمل بالسرعة الخامسة، وقدرت على بسط نفوذها المطلق على كامل مفاصل الحياة السياسية. ولم تعد مبادرات شبان الثورة تثير سوى المجموعات التي تخندقت الى صف هذا أو ذاك، وتحولت بالتالي الى حصان طروادة يختفي خلفه جميع الاطراف التي تسعى لتصفية حسابات احد مكونات ذلك الجهاز. وانتهى أمر شباب كان نار ثورة سرعان ما انتهى وقودها وانتفى وهجها.
|
بقلم سفيان الشورابي (صحفي)
|