أقدم رئيس الحكومة التونسية المؤقت حمادي الجبالي على توقيع قرار تسليم الوزير الأول الليبي السابق البغدادي المحمودي الى السلطات الليبية يوم الأحد الماضي. إجراء دق مسمار آخر في جهاز الدولة الذي قضم منه الحراك …
التداعيات الخطيرة لتسليم البغدادي المحمودي إلى السلطات الليبية |
أقدم رئيس الحكومة التونسية المؤقت حمادي الجبالي على توقيع قرار تسليم الوزير الأول الليبي السابق البغدادي المحمودي الى السلطات الليبية يوم الأحد الماضي. إجراء دق مسمار آخر في جهاز الدولة الذي قضم منه الحراك الثوري الذي تزامن مع خلع الرئيس السابق جزءا كبيرا، وأكل تولي أطراف سياسية تفتقد لمعارف تسيير أمور البلاد الجزء المتبقي منه. فمنذ تولي حركة النهضة الحكم على اثر انتخابات 23 أكتوبر المنصرم، والعلاقة بين الدولة والمجتمع تعرف اهتزازا عميقا من شأنه أن يهدم بناء وضعه أسسه مفكري عصر الإصلاح خلال القرن التاسع عشر، ورفع أسسه تولي الاستعمار شأن البلاد، قبل أن يتم تشييده نظام الحبيب بورقيبة. الفريق الذي شكّل السلطة التنفيذية التي تدير دولة اهتزت أركانها على اثر ثورة استهدفت رموزها عجزوا عن التحكم في جهاز لم يألفوا الإشراف عليه. فليس من السهل الانتقال من مرحلة النشاط في صلب حزب محظور ومحاصر إلى عهد تسيير شؤون مجتمع بمجرد حدوث صدفة أفضت اليها عملية انتخابية وقعت بعد ثورة غاب عنها عدد كبير من أعضاء الحكومة عن المشاركة فيها. فوصف سريع للسياسة الحكومية الحالية يجرنا إلى القول أن هناك: ارتجالية وشعبوية في اتخاذ القرارات، تبجح بانجازات ومكاسب قررها الحكومات السابقة، معاداة جميع الإطراف السياسية والنقابية والمدنية التي تحمل مواقف مخالفة لحركة النهضة، انتهازية مفضوحة في التعامل مع ملف العدالة الانتقالية، استئثار بسلطة هي من المفروض أن تكون تقنية تنتهي مدتها بسرعة بعد سن الدستور الجديد. ولا مجال هنا لاستعراض السجل الضخم من القرارات التي اتخذتها السلطة التنفيذية برأسيها في قصر قرطاج أو في قصر القصبة لضيق المساحة. إلا أن عملية تسليم الوزير الأول إلى ليبيا تعد شكلا ومضمونا أكثرها خطورة. فما من شك أن ما ارتكبه رئيس الوزراء السابق البغدادي المحمودي من جرائم تجاه أبناء وطنه ما يضمن له إقامة طويلة المدى مضمونة وراء قضبان السجون، وهو أمر متفق عليه. إلا أن الثورة الليبية مثل ربيبتها في تونس قامت من أجل الإطاحة بنظامين كانا من بين الفضاعات التي ارتكباها يوظفان الجهاز القضائي لتصفية الخصوم السياسيين بعد إجراء محاكمات غير عادلة يمارس قبلها شتى أنواع التعذيب. والثابت أن الحكومة التونسية وجدت نفسها في ورطة لما اجتاز المحمودي حدود البلاد ودخل إلى التراب التونسي. وفضّلت حكومة الباجي القائد السبسي تأجيل النظر في موضوعه نظرا لانشغالها بتأمين النزاهة والشفافية لظروف إجراء الانتخابات. أما وقد وجدت حكومة الترويكا نفسها في مأزق التخلص من هذا العبء، فإن التعامل مع قضية المسؤول الليبي هي مسألة شائكة تستوجب قدر من الحكمة والتبصر تفتقد إليهما الحكومة الحالية. الخطأ الأبرز الذي وقع فيه الوزير الأول المؤقت حمادي الجبالي هو خرقه مبدأ التوافق الذي تستند إليه جبهة أحزاب النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الديمقراطي التي تشكل مجتمعة تركيبة حكومته. فعندما يصرّح الناطق الرسمي باسم رئاسة الجمهورية أن الرئيس المؤقت لم يكن يدري بعملية التسليم، فإن الأمر يتخطى مسألة الصلاحيات القانونية التي ينظمها ما يسمى بـ"الدستور الصغير" ليتعلق بعقلية الأطراف الحاكمة في كيفية إدارة أمور الدولة. ان ما حصل بخصوص قضية بغدادي هو شبيه بأسلوب تصرف الحركات المافيوزية التي تنفذ العمليات القذرة والصفقات البخسة في كنف الظلام وبتواطؤ أفراد الشرطة الفاسدين وأجهزة القضاء الخانعين. فلما يقع تسليم متهم بمثل هذا الوزن السياسي يوم عطلة أسبوعي ودون إخبار بقية الشركاء السياسيين وفي غفلة عن أجهزة الإعلام، فإن المشهد ينتقل بنا مباشرة إلى احد أنماط حكم إحدى دول أمريكا اللاتينية أكثر مما يحيلنا على نظام دولة تحترم القانون ومبادئه، وتشتغل في كنف الشفافية والعلنية. الخطأ الثاني الذي وقعت فيه الحكومة المؤقتة أنها لم تولي اهتماما بأصوات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية التي ناشدتها مدة أشهر عدم تسليم البغدادي المحمودي لدولة لم تنتخب فيها سلطة سياسية بعد، وتفتقر إلى إدارة قضائية مستقلة ومحايدة تنضبط لقوانين وتشريعات تحترم قانون الإنسان. حيث يقوم مسلحين ليبيين ينتسبون إلى الثوار بعمليات اعتقال عشوائية وبتعذيب وحشي لأشخاص محسوبين على النظام السابق. فمنظمة "هيومن رايتس واتش" مثلا قالت أن سبعة آلاف شخص على الأقل ما زالوا رهن الاعتقال نحو نصفهم تحتجزه ميليشيات في منشئات رسمية ومراكز اعتقال سرية والباقون في مبان تديرها الحكومة. هكذا تقوم حكومة تدعي أنها منبثقة عن ثورة على منظومة الاستبداد واللصوصية تتصرف على نفس شاكلة الأنظمة المافيوزية، فلا نستغرب مستقبلا تصرفات مشابهة في قضايا محلية تخص التونسيين.
|
سفيان الشورابي (صحافي) |