عاشت مدينة القلعة الكبرى أو قلعة الزيتون كما اصطلح المؤرخون على تسميتها كامل ردهات الأسبوع الفارط على وقع الزيارة المرتقبة لإمبراطور الخطابة المزعوم لطفي زيتون…
“زيتون” يدوس رمزية الزيتون في مدينة الزيتون |
عاشت مدينة القلعة الكبرى أو قلعة الزيتون كما اصطلح المؤرخون على تسميتها كامل ردهات الأسبوع الفارط على وقع الزيارة المرتقبة لإمبراطور الخطابة المزعوم لطفي زيتون.
ولم تكن الزيارة لتخلق الحدث لولا ما حدث لخطيب الثورة في مدينة المكنين حين فاض كأس صبر الحضور في الاجتماع الذي أشرف عليه ليودعوه قبل أن يحل موعد الوداع في إحدى سيارات وحدات النظام العام وهو يتمتم جمل الحمد لله على السلامة بدل إطلاق صواريخ العداء على الإعلام وعلى كل من يتفوه بكلمة حرة.
طبيعي أن تستوعب الجهات المنظمة للحدث في القلعة الكبرى الدرس مما حدث على بعد كيلومترات منها فلم يبخل المتطوعون على اختراق فضاء المدينة الهادئة باللافتات لتعلن الاجتماع المرتقب ولتوزع 3000 دعوة على كل من هب ودب رغم أن القاعة لا تتسع لأكثر من 300 جالس.
أما الموضوع المعلن "أهداف الثورة الواقع والآفاق" فلم يكن ليمر مرور الكرام. فمنذ متى أصبحت تقاليد الممارسة السياسية تسمح لمستشار أن يصول ويجول ليتهدد ويتوعد ويسخط والحال أن هذه الوظيفة تمارس بين الأروقة والمكاتب المغلقة لما تقتضيه من أعلى درجات التحفظ والتكتم وحتى لايقال أن المستشار ينطق بما يفكر فيه رئيسه في العمل.
قد يكون الوضع عاديا إذا ما تم تقديم "عراف آفاق الثورة" بصفته الحزبية وتوجيه الدعوات لمناضلي الحزب. إلا أن الحملة التعبوية التي لم تبخل فيها العقول وسواعد الخير بفكرة أو حبة عرق جعلت من موعد السبت 9 سبتمبر موعدا غير مسبوق كاد يذكر المدينة بأمجادها حين كانت تصنف كثاني مدينة من حيث عدد زيارات المجاهد الأكبر بعد مدينة المنستير.
ولكن الحلم لم يدم طويلا حين عرف الجميع أن حالة الاستنفار والتوتر لا تعدو أن تكون سوى فصل ركيك في حملة انتخابية استباقية شعارها "الحرب على الإعلام وربح الوقت في مقاومة الفساد" لعل البقية الباقية من الفاسدين تعلن التوبة وتلتحق بصف "الصالحين".
وجاء موعد السبت فطوقت جميع مداخل المدينة بفرق القوات الخاصة بأنواعها في حين تحول وسط المدينة إلى ساحة استعراض لتشكيلات من خريجي مدارس حفظ الأمن.
أما مدخل قاعة الاجتماع فقد تجند أمامه المناضلون في ثلاث خطوط منسجمة على طريقة الجيش الأحمر لغربلة الدخول وترويع الفضوليين.
ولم تكن رغبة البعض في حضور الاجتماع لتتحقق حيث رجعوا يجرون أذيال الخيبة للاشتباه في انتماءهم لحركة نداء تونس غير المرغوب فيها. غصت القاعة بالحضور وظهر نجم الجماهير على الطريقة الهوليودية وسط هالة هستيرية من التصفيق والتكبير.
وانطلقت الجمل كالسهام يمينا ويسارا دون أن تصيب واحدة منها واقع أو آفاق الثورة ولكن وسط ذهول غير منتظر تمكنت إحداها من إصابة ملاك لا يزال يتحسس خطواته الأولى في مجال الإعلام وهو خريج معهد الصحافة الذي لم يفوت على نفسه الفرصة ليسأل بكل براءة الدنيا عن سبب حقد السيد المستشار على الإعلام وكل ما يتصل به من قريب أو من بعيد.
حينها داس الخطيب كل رموز السلام الممكنة ونسي أنه في مدينة الزيتون التي يفوح كل شبر فيها برائحة هذه الشجرة المباركة. نسي كيف اكتفى شهيد الثورة الفلسطينية ذات يوم في الأمم المتحدة برفع غصن الزيتون ليقتنع الجميع بنواياه السلمية.
داس زيتون أقل السياسيين شعبية كما صنفته الاستفتاءات على رمزية الزيتون في مدينة الزيتون ونفث نيران الحقد المقدس في وجه الإعلام في مشهد أحلك من مشاهد الدراما الإغريقية. حينها فهم البعض وليس الجميع أن واقع الثورة وآفاقها لا يستقيمان إلا باستقامة الإعلام وذلك في صياغة جديدة للمجزرة البشعة التي تعرض لها هذا القطاع طوال 23 سنة وتزيد.
غريب أن يتلذذ زيتون الخطابة وأجساد الغرقى التونسيين في مياه لامبادوزا لازالت إلى حينها في عداد المفقودين. ختم الاجتماع وتنفس المنظمون الصعداء وفي لحظة وداع أخيرة تنهدت المدينة لتقول لزائرها: "بإمكانك أن تأخذ قلبي ولكنك لن تسرق حبي. ارحل آمنا أيها الزائر وارجع إلى قصبتك فأسواري ما كانت يوما لتهتز على وقع ألحانك".
|
فتحي بن عمار |