أبدأ بالقول إن أول ظاهرة للتطرف في المجتمع الإسلامي كانت لأسباب سـياسية فقط، وهي ظاهرة الخوارج، فالخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم لم يكن خلافاً في تفسير المنهج، وإنما هو خلاف سياسي حول السلطة، وكان ظهور الخوارج نتيجة هذا الخلاف، ثم فسروا فيما بعد الأمر كما شاءوا
تونس في ظلّ السلفية الجديدة |
أبدأ بالقول إن أول ظاهرة للتطرف في المجتمع الإسلامي كانت لأسباب سـياسية فقط، وهي ظاهرة الخوارج، فالخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم لم يكن خلافاً في تفسير المنهج، وإنما هو خلاف سياسي حول السلطة، وكان ظهور الخوارج نتيجة هذا الخلاف، ثم فسروا فيما بعد الأمر كما شاءوا.
فما يقوم به السلفيون في تونس هو مجرد حراك سياسي فحسب، سوف يصنع من الدولة القائمة دولة أمنية بامتياز وستصبح مظاهر الحرية والعدالة مجرد حلم في حياة التونسيين وستكون مجرد إعادة انتاج لزمن بن علي بشكل مختلف، وفي أفضل الاحوال ستشهد تونس حالة انقسام شديدة، والسبب بالطبع أن الدولة التي يريدها السلفيون في تونس وغيرها هي دولة يمكن أن تكون صومال آخر، يمكنهم فيه هدم الأضرحة وقطع أيدي بعض اللصوص، في ظل انتشار طوابير الجوع السمة الأبرز في بلاد الاسلاميين الجدد، حيث الناس تأكل التراب وتعيش على مساعدات الدول الاجنبية، فلا هو الانتصار تحقق، ولا هي المدينة الفاضلة جاءت، ولا حتى استفاد الاسلاميون الجدد من تجاربهم السابقة، وذلك لأن فكرة دولة المدينة المنورة هي موجودة فقط في عقولهم، وعند محاولة نقلها الى الواقع يبدو الامر مختلفاً تماماً.
لم أرَ في حراك الإسلاميين مشروع أمة، وكل ما نلاحظه هو مجرد أمنيات، وفي أفضل أحواله هو مشروع مجموعة من الناس تريد فرضه بالقوة على البقية، في تناقض صارخ مع دولة المدينة المنورة ومع أبسط قيم المجتمع الاسلامي الذي لم يفرض تلك الدولة، وجاءت ضمن سياق حراك المجتمع بشكل طبيعي وتلقائي. فما يسير به الحراك السلفي تسقط فيه أهم معادلة وهي وحدة الامة أو المجتمع المسلم، ووقوع هذا المجتمع في خانة الانقسام وصولاً للاشتباك والتقاتل، وممارسة الاستبداد تحت بنود يمكن اختراعها لاحقا، والذريعة والمبرر في النهاية يتم تسميته جهاد في سبيل الله.
المسألة الثانية إن دولة المدينة لم تكن أصلا دولة اسلامية كما يتخيلها كثير من الاسلاميين الجدد، وإنما هي دولة قامت بالتوافق، وهذا ما لا يريده أن يراه أحد، وضمت في حينها المسلمون وأهل الكتاب وأخذ المنافقون فيها قسطاً من الراحة دون أن يعاقبهم أحد بالشبهة، وهذا الفصل مجهول لدى كثيرين، فقصة المنافقين في المدينة، هم المجموعة الذين آمنوا بالإسلام ظاهراً، ولكنهم يكنون له العداء ويسعون لتقويض الدولة من الداخل، وفي مفارقة مذهلة ينبغي دراستها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرفهم جميعا، وكشف سرهم لكاتم اسراره حذيفة بن اليمان الذي يمثل في عرفنا مدير المخابرات، وطلب منه أن لا يعلم بسرهم أحد، وانتقل الجميع من الدنيا ولم نعلم نحن من هم الذين كانوا من المنافقين، وأهمية القصة هنا، أن دولة المدينة المنورة، لم تسمح بتاتاً بالتعرض للأعداء الذين هم بالداخل، الذين لا يمارسون الفعل الظاهر، حتى لا ينقسم المجتمع المسلم ولم تحاول اعتقالهم أو إجبارهم على كشف ما يعتقدونه، ربما هي رسالة إلى دولة القانون في عالمنا العربي والاسلامي.
دولة المدينة المنورة هي مجرد اتفاق مدني بين الناس، وضع فيها الاسلام القاضي لتحقيق العدالة، وجعل حكم القاضي فوق حكم السلطان، وجعل فيها قائد العسكر منشغل في جيشه بالدفاع عن الحدود فحسب، وأما السلطان فكان بعد النبوة باختيار الناس، فحكم القضاء كان يقوم على قاعدة مكارم الاخلاق وأعراف الناس بعد نزع الشرك عنها، وما تم تحريمه من الخمر وغيره على المسلمين أُبيح لغيرهم، ومـــارس الجميع حقوقهم بالتساوي. وفي لحظات أقيمت الحدود، وفي أوقات معينة تم تعطيل الحدود كحد القطــــع في عام الرمــــادة، ومنذ ذلك العصر حتى يومنا هذا، كلما اختلفنا حول السلطة ازدادت الأمة انقساما، ولم يحدث على مدار العصر ولن يحدث أن يكون الغاصب عادلاً، لأن الغاصب لا يرى في نفسه إلا كامل سمات العدل. فالأحزاب السلفية هي ممارسة سياسية للدين، تغيب فيها ابرز السمات، وهي رحماء بينهم، وهذه الكلمات سبقت قوله تعالى تراهم ركعاً سجدا.
من السهل أن تحلم بدولة المدينة المنورة، ومن السهل أيضاً أن تصل إلى صومال آخر، وبعد ذلك يمكن أن نشتم الاستعمار ونحمله المسؤولية، والواقع أن وجع هذه الامة بداخلها فحسب. |
أيمن خالد (كاتب فلسطيني)
|