مرّ قرابة عامين على الثورة التونسية إلا أنّ البلاد لم تقطع أشواطا كبيرة نحو بناء أسس دولة ديمقراطية، بسبب تعطل عديد الملفات والقضايا في الوقت الذي طفت فيه على السطح مؤشرات خطيرة توحي بمحاولات لإعادة الديكتاتورية بثوب جديد، إضافة إلى بروز مظاهر غريبة عن المجتمع كالعنف السياسي والتطرّف الديني وتكديس السلاح…
تونس: أبرز الملفات التي أخفقت الحكومة في تحقيقها |
مرّ قرابة عامين على الثورة التونسية إلا أنّ البلاد لم تقطع أشواطا كبيرة نحو بناء أسس دولة ديمقراطية، بسبب تعطل عديد الملفات والقضايا في الوقت الذي طفت فيه على السطح مؤشرات خطيرة توحي بمحاولات لإعادة الديكتاتورية بثوب جديد، إضافة إلى بروز مظاهر غريبة عن المجتمع كالعنف السياسي والتطرّف الديني وتكديس السلاح.
أبرز الملفات التي ما تزال تثير الجدل هي كتابة الدستور التي ما تزال محلّ نقاش داخل المجلس التأسيسي، الذي طرح مسودة دستور قال عنها العديد من الخبراء إنها لا تستجيب لتطلعات الشعب وإنها تؤسس ديكتاتورية دينية، باعتبار أنّها تتضمن فصولا تحد من الحريات العامة باسم حماية المقدسات والأخلاق الحميدة وتفتح تأويلات من خطيرة شأنها أن تنسف مبدأ مدنية الدولة.
ملف شهداء وجرحى الثورة هو كذلك محلّ انتقادات العديد من الأطراف السياسية والاجتماعية باعتبار أنه إلى حدّ الآن لم يقع تحديد قائمة نهائية لهؤلاء الشهداء والجرحى، كما أنّ حقوقهم المادية والمعنوية ما تزال ضائعة، فيما ظهرت احتجاجات جديدة لأهالي الحوض المنجمي الذين وقع إقصاؤهم من المرسوم 97 الذي سنه المجلس التأسيسي والمتعلق بشهداء الثورة، ومن المتوقع أن يشن أهالي الحوض المنجمي إضرابا عاما يوم 03 جانفي، وهو ما سيزيد من حالة الاحتقان الاجتماعي.
محاسبة رموز النظام السابق هو أيضا أحد الملفات التي لم يقع الحسم فيها رغم أنّ هناك الآلاف من الملفات المحالة على المحاكم. وأثار الملف انتقادات كبيرة تجاه الحكومة والقضاء باعتبار أنّ العديد من الوجوه السابقة التي تورّطت مع النظام السابق في جرائم عديدة وقع إطلاق سراحها مثل وزير العدل السابق البشير التكاري ووزير النقل السابق عبد الرحيم الزواري، كما تمّ رفع تحجر السفر عن رجل الأعمال شفيق الجراية المتهم بالفساد، فيما يتساءل البعض عن سبب عدم محاسبة رجل الأعمال كمال اللطيف؟
ملف الفساد والرشوة ما زال يثير كذلك الانتقادات ويغذي الشكوك حتى أنّ أعضاء في الحكومة اعترفوا بأنفسهم بارتفاع منسوب الفساد بعد الثورة وبعد انتخاب الحكومة الحالية التي وعدت أحزابها بمحاربة الفساد، لكن الرياح واصلت في نفس اتجاهها ولم يقع تغيير الوضع القائم الذي تسيطر عليه عصابات التهريب ومافيا الفساد داخل قطاعات حساسة مثل الديوانة والتجارة والتصدير والتوريد…
إهدار المال العام هي قضية مسكوت عنها لكن حركتها المدونة والإذاعية ألفة الرياحي التي توعدت بمقاضاة وزير الخارجية رفيق عبد السلام صهر رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي بعدما كشفت عن فواتير باهضة التكاليف لنفقات رفيق عبد السلام تمّ تسديدها من قبل وزارة الخارجية لنزل "الشراتون"، وفيما كان على الحكومة فتح تحقيق للكشف عن صحة هذه المعلومات سارعت بإصدار بيان للتضامن مع رفيق عبد السلام، الذي تتهمه المعارضة بعد الكفاءة.
وواصلت المحسوبية سيرها العادي في البلاد بعد الثورة وتمّ اتهام حركة النهضة الإسلامية بالقيام بتعيينات في أعلى مناصب الدولة لأقارب لرئيس الحركة أو قياداتها وتعيين موالين لها في كراسي الولاة والمعتمدين وغيرها. كما برزت تشكيات من أصحاب الشهائد العليا بأنّ عديد الانتدابات تمت دون مراعاة الشروط الموضوعية، مشيرين إلى توظيف الآلاف من أتباع حركة النهضة في إدارات عمومية.
حرية التعبير رغم أنها تعد الثمرة الوحيدة التي قطفها الشعب التونسي بعد الثورة، إلا أنّ الإعلام العمومي ما زال يثير جدلا داخل أوساط الصحفيين باعتبار أنّ هناك محاولات من جانب الحكومة للهيمنة على المؤسسات العمومية من خلال القيام بتعيينات مسقطة دون التشاور مع أهل القطاع وهو ما قاد في 17 أكتوبر الماضي إلى شن إضراب عام في قطاع الصحافة لأول مرّة في تاريخ البلاد. هذا وشهد المرسوم 116 المتعلق بإحداث هيئة مستقلة للإعلام تباطؤا كبيرا رغم أهمية هذا المرفق في إصلاح منظومة الإعلام والإشراف عليه حتى تتهيأ الظروف الموضوعية والضرورية للقيام بانتخابات نزيهة.
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات كانت كذلك محلّ جدل كبير بعد المصادقة المتأخرة جدّا لقانونها الأساسي من قبل المجلس التأسيسي التي تهيمن على مقاعده حركة النهضة، إذ يؤكد رئيسها السابق وعدد من المراقبين أنّ الهيئة بصيغتها الجديدة لا يمكن أن تضمن إجراء انتخابات شفافة ونزيهة، وهو ما يبعث حتما على القلق من الثغرات القانونية الموجود بهذا المرسوم سيء الصياغة والفلسفة، وهذا قد يدفع بعض الأطراف المشاركة في الانتخابات المقبلة إلى التشكيك في نتائج الانتخابات، مما قد يزيد من حدّة الاحتقان.
الانفلات الأمني وسوء تصرّف الحكومة تجاه الاحتجاجات الشعبية هو كذلك من الملفات التي أغرقت البلاد في دوامة من العنف والاضطرابات وكانت تداعياته خطيرة على الأمن والسياحة وعلى مصداقية المسار ككل، لا سيما بعد حادثة اقتحام السفارة الأمريكية التي عجزت الحكومة على التصدي إليها، إضافة إلى المعالجات الأمنية غير الموفقة والمتهورة لاحتجاجات شعبية على تردي الأوضاع المعيشية في بعض المناطق الفقيرة على غرار ما حصل منذ أسابيع في ولاية سليانة التي رفعت شعار "ديغاج" عاليا. كما أثار التعامل مع هذه الانفلاتات تساؤلات بشأن حيادية المؤسسة الأمنية.
تعطل مشاريع التنمية بالجهات الفقيرة وارتفاع نسبة البطالة هو أحد الأسباب التي قادت لاندلاع انتفاضة شعبية في تونس وأدت إلى سقوط النظام السابق، إلا أنّ الحكومة الحالية لم تنجح في تنفيذ وعودها التي طرحتها على الناخبين قبل الانتخابات الماضية، مما تسبب في اندلاع احتجاجات في عدة مناطق فقيرة. علما أنه تمّ التخفيض في الميزانية المخصصة للتنمية عام 2013، بينما لم يقع تنفيذ المشاريع المبرمجة لعام 2012، إلا بنسبة تقارب عن 60 بالمائة.
انتشار العنف السياسي في تونس خصوصا من قبل ما يسمى برابطات حماية الثورة يثير القلق بالداخل والخارج وقد كانت حادثة مقل المعارض لطفي نقض عضو "نداء تونس" وحادثة الاعتداء على نواب بالمجلس التأسيسي وحادثة 04 ديسمبر أمام مقر الاتحاد العام التونسي للشغل بمثابة صافرة الإنذار عن المنعرج الخطير الذي قبلت أطراف سياسية حاكمة الدخول فيه لإقصاء خصومها السياسيين، في الوقت الذي كان يجدر إرساء الأمن وتشريك جميع الكفاءات في البلاد لإنقاذ ما يجب إنقاذه بعيدا عن كيل الاتهامات والتراشق بالسب والشتم بما يغذي انقسام الشعب إلى نصفين، وينعش حربا أهلية باردة تعد بالخراب.
مشروع قانون "تحصين الثورة" الذي طرحته حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية وكتلة الكرامة ومستقلون في المجلس التأسيسي، والذي يهدف إلى العزل السياسي لعشر سنوات أو أكثر لقيادات من النظام السابق، أثار بدوره انتقادات عديد الأطراف السياسية والحقوقية بدعوى أنّه قانون على المقاس لإقصاء خصوم النهضة والمؤتمر من الانتخابات المقبلة وأنه يفتح الباب أمام إرساء ديكتاتورية حزبية ترفض قبول مبدأ التنافس السياسي على قدم المساواة، وهو قانون سيزيد من حدّة الاحتقان السياسي الذي سيلقي بضلاله بالتأكيد على الشارع التونسي ويعمق الأزمة السياسية.
تنامي التعصّب الديني والتطرّف وتهريب السلاح واقتحام الخطاب السياسي للمساجد يدعو إلى أيضا إلى القلق. وقد أثارت حوادث متفرقة على الحدود التونسية مع الجزائر والإعلان عن تفكيك عناصر تابعة لتنظيم القاعدة والعثور على أسلحة لدى سلفيين في منطقة دوار هيشر ودعوات أنصار السلفية الجهادية لتطبيق الشريعة وإقامة الخلافة كانت كلها أمثلة عن محاولات الالتفاف على الثورة وعن هشاشة الوضع الأمنى بصفة عامة وعن المخاطر الإرهابية التي تحدق بالبلاد من كل جانب، حتى أنّ البعض أصبح يقف على الأطلال على وقت كانت تنعم فيه البلاد بالاستقرار قبل الثورة.
التعذيب والمحاكمات السياسية هي أيضا محلّ استنكار واحتجاج كبير لدى الأوساط الحقوقية، وقد اشتكى محامو سلفيين معتقلين على خلفية أحداث العبلدية وحادثة سفارة الولايات المتحدة من تعرضهم للتعذيب، كما أبدت حديثا عائلة الرقيب الأول بدري التليلي الذي أكدت وزارة الدفاع التونسية أنه مات "منتحرا" شكوكا بأنه مات تحت التعذيب، بينما ما تزال قضية سامي الفهري المعتقل في قضية فساد مالي تثير جدلا واسعا واتهامت بتسييس محاكمته بعد رفض النيابة العمومية قرار محكمة التعقيب التي أصدرت بطاقة سراح بحقه في 28 نوفمبر وإبقاءه قيد الاعتقال، مما دفعه للدخول في إضراب جوع كاد يودي بحياته ويشعل فتيل أزمة.
هذه بعض القضايا المصيرية للبلاد التي ما تزال عالقة وتهدد المسار الانتقالي للبلاد بالفشل وتسيء لثورتها، فيما يبقى الحلّ رهين جلوس الفرقاء السياسيين على طاولة الحوار لحلّ الخلافات القائمة والبحث عن نقاط مشتركة لصياغة برنامج وطني ناجع يستجيب للأهداف التي قامت من أجلها الثورة.
|
خميس بن بريك |