السبت الماضي نشر راشد الغنوشي زعيم حركة “النهضة” الإسلامية الحاكمة في تونس مقالا بعنوان “خلافي مع بورقيبة لن يعطل المصالحة”. المقال جاء في جريدة “الصريح” التونسية اليومية في سياق تفاعله مع ما كان كتبه مديرها صالح الحاجة عن علاقة الغنوشي بزعيم الحركة الوطنية وأول رئيس لتونس المستقلة الراحل الحبيب بورقيبة…
قال الغنوشي… |
السبت الماضي نشر راشد الغنوشي زعيم حركة "النهضة" الإسلامية الحاكمة في تونس مقالا بعنوان "خلافي مع بورقيبة لن يعطل المصالحة". المقال جاء في جريدة "الصريح" التونسية اليومية في سياق تفاعله مع ما كان كتبه مديرها صالح الحاجة عن علاقة الغنوشي بزعيم الحركة الوطنية وأول رئيس لتونس المستقلة الراحل الحبيب بورقيبة.
أول ما يلفت الانتباه، ولا داعي لقول أول ما يصدم، في ما كتبه الغنوشي وصفه لمدير الجريدة بـ"الأستاذ الكبير" معتبرا تحليله دليلا على "نية طيبة في دفع الأمور في تونس في اتجاه التهدئة والمصالحة" في فترة "يحتد فيها الصراع بين دعاة التحريض والفتنة وأصوات العقل والحكمة". ولمن لا يعرف "الأستاذ الكبير" بإمكانه أن يسأل أي مواطن تونسي بسيط عمن هو فسيأتي الجواب ببساطة هو أحد رموز "صحافة المجاري" الذين سخروا أنفسهم وجرائدهم طوال سنوات في تمجيد بن علي وشتم جميع المختلفين معه ومن بينهم راشد الغنوشي نفسه. لا شيء على الإطلاق يبرر هذه الإشادة سوى رغبة زعيم "النهضة" في "تعميد" من غيّر ولاءه من هذا الصنف نحو حكام تونس الجدد.. فغفر الله لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر.
ليس مفيدا كثيرا التوقف عند ما قاله الغنوشي في مقاله عن خلافه مع بورقيبة. ما يمكن أن يكون مفيدا ربما هو التوقف الخاطف عند بعض ما قاله بخصوص وضع تونس الحالي.
يقول الغنوشي في مقاله "نحن ندرك جيدا أن بلادنا لا تحتمل المزيد من الأحقاد والضغائن والصراعات وندرك بالخصوص ما يحيكه البعض لثورتنا من مؤامرات تراهن على تشتت التونسيين وانشغالهم بالصراعات الحزبية والايديولوجية وإمعانهم في الإلتفات إلى الماضي عوض النظر إلى المستقبل بعين التضامن والتآخي والبناء والتشييد". كلام بليغ وممتاز… ولكن أول من يجب أن يوجه إليهم هم قواعد "النهضة" بالدرجة الأولى وباقي الحركات الدينية التي تناسلت في عهدها. هؤلاء بالتحديد هم من لا يريدون النظر إلا إلى الماضي السحيق، بل هم من فرض على المجتمع بتشددهم تصنيفات من نوع "المسلم والكافر" فجعلوا كل من ينتقدهم كأنه يناصب المولى عز وجل العداء.. وهذا هو الشرك بعينه لو كانوا يعلمون.
يقول الغنوشي "لقد برهن النهضويون الذين عانوا طيلة عقود القمع والتنكيل والسجن والتشريد أننا لسنا طلاب ثأر وانتقام، وأننا لا نحمل كما كان يروج عنا- مشروعا ظلاميا تكفيريا يسعى لتغيير حياة التونسيين، ومحاربة الحداثة والتراجع عن مكاسب دولة الاستقلال وخاصة المتعلقة بالمرأة والتعليم والصحة". الواقع أن جزءا كبيرا مما "يروّج" عن النهضة ما زال قائما وبقوة في أذهان الكثيرين، ليس من معادي "النهضة" بالفطرة، بل حتى من بين أولئك الذين يتمنون لها النجاح لما في نجاحها من مكسب للبلاد وتجربتها الديمقراطية الغضة. وبالتالي فالبرهنة التي يشير إليها الغنوشي لم تحدث بعد .. "قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين".
يقول الغنوشي كذلك إن "نظرتنا للتاريخ لم تكن يوما نظرة انتقام أو تشف أو رغبة في أن تحل النهضة محل التجمع ويأخذ راشد الغنوشي مكان بورقيبة وخليفته بن علي". ما يحدث اليوم أخطر مما كان مع بورقيبة وبن علي لأن راشد الغنوشي تحول عمليا مع الأيام إلى ما يشبه "المرشد" أو "المرجعية" فهو الحاكم الفعلي للبلاد لكنه في نفس الوقت خارج دائرة المساءلة والمحاسبة بدعوى أنه مجرد رئيس حزب!! أما إشارته إلى الحرص على "حماية الدولة من التفكك وتقوية دعائمها لإيماننا بتواصل الدولة وديمومتها وأهمية حيادها عن المصالح الحزبية لخدمة المصلحة العامة للتونسيين جميعا" فيستدعي التساؤل عن الأسباب التي جعلت "النهضة" وحكومتها تدخل في صراعات مع الصحافيين والقضاة والمحامين والنقابيين وغيرهم وتتلكأ في حسم هيئات القضاء والإعلام والانتخابات، ناهيك عن صياغة الدستور الجديد إن لم تكن رغبتها في التغول داخل مفاصل الدولة واعتماد الولاء الحزبي وحتى العائلي في التعيينات قبل أي شيء آخر.
يقول الغنوشي أيضا "إننا نعتز بأن ثورتنا كانت سلمية وستبقى كذلك بمشيئة الله حتى لو خسر الإسلاميون السلطة". هنا لا بد من الانتظار قليلا حتى نرى… خاصة عندما يأتي رئيس الدولة ليحذر مؤخرا من أن غياب ‘الحكماء’ من أمثاله وأمثال الغنوشي عن المشهد قد يؤدي إلى نصب المشانق.
"يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون"..
|
بقلم محمد كريشان (القدس العربي) |