في حوادث اثنتي عشرة وألفين.. وفيها ضُربت الرعيّة بالرشّ – والرشّ حبوب دِقاق تصطنع لصيد الوحش- من قبل شُرَط الحكومة الشرعيّة في أحد أعمال تونس يقال لها سيليانة (بمعنى سُرّ من رآني!!). وعَمِي فيها خلق كثير، وزاد العُوران والحُولان، وحُمِد الله على المنابر والسلطان. وفي هذا العام، مات تحت أرجل …
في حوادث اثنتي عشرة وألفين.. وفيها ضُربت الرعيّة بالرشّ – والرشّ حبوب دِقاق تصطنع لصيد الوحش- من قبل شُرَط الحكومة الشرعيّة في أحد أعمال تونس يقال لها سيليانة (بمعنى سُرّ من رآني!!). وعَمِي فيها خلق كثير، وزاد العُوران والحُولان، وحُمِد الله على المنابر والسلطان. وفي هذا العام، مات تحت أرجل الدهماء الشهيد لطفي نقض من وجهاء بلدة في أقصى الجنوب على طريق برقة يقال لها تطاوين. وعمّ الغلاء والوباء وبلغ الكُرّ سبعين دينارا (والكرّ ستّون قفيزا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمَكُّوك صاع ونصف والصاع ثلاث كَيْلجات!! ).. ثم اشتدّ القحط، وعمَّ البلاء بتصايح الناس على الثغور وتهايج الروم على التخوم.. وتتابعت الفتن والجور والنهب وقطع الطريق وكثرت اللصوص حتى تحارس الناس بالبوقات..
ثمّ دخلت سنة ثلاث عشرة وألفين، وفيها عمّ البلاء بالعيّارين والشطّار والفسّاق وشذّاذ الآفاق بتونس المحروسة وما حولها من القرى. وظهرت الفتن، وتفاقم الحال. وظهر شُطّار يزعمون الذبّ عن بيضة الدين وحماية الثورة في كلّ مدينة وكورة، وكبسوا على المحالّ والطرقات والأسواق والمدارس والمساجد حتى صار يدعى للشطّار والعيّارين على المنابر. وأوشكوا أن يضربوا السكّة بأسمائهم. وفي هذا العام قُتِل غيلة شهيد الوطن شكري بلعيد وضُرب الفضلاء والعلماء كالطالبيّ والصدّيق.. وتطاولت العوامّ والغوغاء على معادن العلم…
وفيها ترك حمّاد الجبالي قصر الإمارة، ويقال له الخليفة السادس لبشره الدائم وسنّه الضاحك، ودام عهده أربعة عشر شهرا عجميّا. ثمّ بويع صاحب الشرطة علي بن العريض الورغمّي يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الثاني. وفيها، وَلِي القضاء النذير بن عمّه، ووَلِي الشرطة اللّطفي بن جدّه. وفتح اللّه على يديْ عليّ هذا أكثر البلاد، وفرض العطاء لذوي السابقة في جماعة الإسلام، وجنّد بهم الأجناد، ومصّر لهم الأمصار، ودوّن الدواوين، وسنّ صلاة الشرعيّة كتابا موقوتا فوق الصلوات الخمس المرعيّة. وفي عهده قتل غيلة الشهيد محمّد البراهمي، وقُتِل الجند على التخوم في جبال يقال لها الشعانبيّ، وانشقّ الناس كلّ إلى فسطاط. وواصل السُّوقة جزعا وجهلا سنّة محمّد (البوعزيزي) في إحراق أبدانهم التي أكرمهم اللّه تعالى بها.
وفيها، زادت أسعار المحروقات ففزع الناس إلى الدوابّ والبغال والأرجل والنقل العام، وأضرب العمّال، وسدّت الطرق، وكُبست المحالّ، وكسدت التجارات. وفيها، أغرق وليّ الأمر السوق بحليب الفرنجة، ولحوم الروم، وأسلحة الترك، ومنجنيقات قطر، وقطر هي دويلة في أعراض البحرين صارت ذات شأن في أيّامنا وعظم أمرها. وفيها نفد بيت مال المسلمين، واشتدّ الطلب على الدنانير الروميّة والدراهم الكسرويّة.
وفي هذه السنة، أجدب الناس، وغلت الأسعار، وعظم الخطب واشتدّ الكرب على الرعيّة، وظهر الطاعون والملاريا، ولكنْ أسلم خلقٌ كثير، وللّه الحمد والمنّة.
ذِكر فتح القصبة.. وفي ثلاث عشرة وألفين، دخل في عهد راشد الغنّوشي رضي اللّه عنه من دخل، ودخل في عهد قريش من دخل. ثمّ قامت كنانة المناوئين من ديمقراطيّين ويساريّين فقالوا ندخل في عهد قريش. وقامت خزاعة "المؤتمر" و"وفاء" و"بني العريضة" فقالت ندخل في عهد راشد وعقده. وقد كان بينه وبينهم حلف قديمٌ، لذلك قال الشاعر من بني العريضة:
لا همّ أنّي ناشدٌ راشدا —- حلف أبينا وأبيه الأتلدا
ثمّ إنّه هاج بينهم الشرّ والقتال، فدعاه ذلك إلى غزوة القصبة. والقصبة حيّ ناحية هضبة القرجاني كانت ساحتها مربضا لخيل البايات. وأدخل رضي اللّه عنه في عهده بني الدغيج والريكباء وبني العياض، وأدخلت قريش في عهدها حلفاءها من كنانة الأحزاب والنقابات وحملة الأقلام والرايات. وفي يوم السبت لخمس بقين من رمضان أقبل الشيخ راشد من ثنيّات المتاع – والمتاع والمتعة سواء – (Monplaisir )حتّى أدرك القصبة في خيول مطهّمة من الجهات، وألوف مؤلّفة من الأنصار والمهاجرين والمعاهدين. وخطب رضوان اللّه عليه يوم فتح القصبة، فقال بعد أن حمد اللّه الذي صدق وعده، ونصر جنده، وهزم الأحزاب وحده، أنّ اللّه منّ عليه بسلطان هذه البلاد، ولكنّ ذوي اليسار، ومن حنّ لجاهليّته الأولى نكثوا صلح الحديبية معه، ويريدون إبعاده ظلما وغيلة.
وشكا رضوان الله عليه أذى المشركين المعارضين يوم رموا أهله الأخيار المنتجبين بحديث الإفك لولا أن برأهم اللّه تعالى من فوق سبع سماوات في النازلة المعروفة بخان الشيراتون.
ثمّ إنّ الشيخ راشد رضوان اللّه عليه، رأى في يومه ذاك في موقفه ذاك بالقصبة فتحا يذكّره بفتح مكّة، بل يزيد عليه. أين منه موقف المشركين من المعارضين والمناوئين المتجمّعين في ساحة باردو قبالة مجلس أهل الحلّ والعقد المعروف عند الفرنجة في زمننا هذا بالمجلس التأسيسي، يرفعون القمصان والألوية، ويطلبون الثأر من قتلة بلعيد والبراهمي. وهاجت أشجانه رضوان اللّه عليه، فتذكّر أنْ لا نبيّ في قومه، وأنّ الإسلام، أيضا، بدأ من غار حراء تماما كما ابتدأ أمر جماعته رضوان اللّه عليه منذ أربعين سنة خلون في جامع سيدي يوسف. وأهل القصبة في أثناء ذلك يكبّرون، ويهلّلون، ويتصايحون، وعلى العدى يحملون، وإلى الشيخ راشد بالبيعة يدعون.
وعلى هذا العهد، زالت أكثر رسوم الرياسة، فأوى ذو الميمات المطيع للّه محمد المنصف المرزوقي إلى قصره المنيف ناحية قرط حدشت. وهي كُورة على تخوم الحاضرة يقال لها قرطاج. يدبّر له أمره وأمر الرعيّة والبلاد وزير الدولة عليّ بن العريض الورغمّي من قصر الإمارة بالقصبة. وقصارى أمر المطيع للّه التهنئةُ بهلال رمضان والعيدين، وإصدار عفو صاحب المقام على بعض أُسارى الحقّ العام. ولفرط الوحشة والوحدة وقلّة الحيلة، فقد تهيّأت للمطيع للّه تصاوير وأشباح وهيئات، وجرت على لسانه الآيات المحجّلات والأحاديث الغرّ المعجزات، وكثر تلفّته في كلّ حين على الجهات، وأصابته الرعدة في الكلام والسُّكات. وهذه – واللّه – للنبوّة الصادقة من الأمارات