كتب الشاعر التونسي الرائع جمال الصليعي منذ مدة قصيدة جميلة تعليقا على ما تشهده مصر من أحداث عقب تغول الإخوان وانقضاض العسكر عليهم مشحونا بشارع مصري رافض , كتب الصليعي…
كتب الشاعر التونسي الرائع جمال الصليعي منذ مدة قصيدة جميلة تعليقا على ما تشهده مصر من أحداث عقب تغول الإخوان وانقضاض العسكر عليهم مشحونا بشارع مصري رافض , كتب الصليعي :
" أرى مصر كل الأمر والأمر كله …إلى مصر موكول وقد غلها القيد"
والآن وقد توج المشير عبد الفتاح السيسي بالرئاسة المصرية في انتخابات ينتقدها الكثيرون في مصر وخارجها كيف هو الحال في مصر ؟ وما أهمية صعود السيسي إلى الرئاسة؟ وما هي ملامح الخفية للفترة المقبلة وعلاقتها بما يجري وما سيجري في تونس خاصة وأن البلدين يظلان الوحيدين اللذين لا تزال آمال الربيع العربي فيهما قابلة للتكريس…
انتهت المراسم الرسمية وابتدأ السيسي عمله كرئيس للدولة العربية الكبرى وسط تهاليل الأصدقاء الخليجيين الذين وضعوا كل ثقل السعودية المالي والدبلوماسي في الميزان من أجل أن تنخفض درجة التحفظ حول الرئيس المصري الجديد ..ولئن لم يستطع العديد من المتابعين ابتلاع الخلطة التي أتت بالمشير إلى قصر الاتحادية منتقدين اقتصار برنامجه المعلن على محاربة شعواء لتنظيم الإخوان المسلمين فإن الدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية تريد أن ترجع مصر إلى المربع الذي كانت تحتله مع مبارك كحليف استراتيجي للنظام العربي الخليجي في مواجهة الإخوان طبعا وحلفهم القطري التركي وفي مواجهة الخطر الشيعي الداهم على الخليج عبر الجوف الخليجي الخاوي وعبر الجرح الغائر في سوريا …
أما في الميزان الذي يهمنا نحن كتونسيين والمتعلق بمدى نجاح الربيع العربي الذي بدأ هنا في أواخر 2010 وأطاح بالفراعنة الثلاث بن علي ومبارك والقذافي فإن الأمور تختلف تماما. النخبة التونسية كما العربية عموما منقسمة بوضوح حول المشير ومشواره الصاروخي نحو حكم مصر. فما من شك أن الأغلبية من أنصار الحركة الاسلامية النهضة والقريبين من أطروحاتها يرون المشير وحكمه القادم حكما انقلابا لا شرعية له وأن الملايين من المصريين الذين صوتوا له كانوا ضحية التضليل الإعلامي الموجه . ويعتبر هؤلاء أن الربيع المصري قد تقهقر نحو شتاء دامس ضحيته الأولى والرئيسية آلاف الإخوان المسلمين الذين زج بهم في السجون. ويستشهد هؤلاء لصالح موقفهم بما يتعرض له العديد من ممن يسمون في مصر بشباب الثورة الذين أوقفوا أيضا وحوكموا بالسجن لمجرد مشاركتهم في مظاهرات سلمية , يستشهدون بذلك للدلالة على أن حكم المشير السيسي ليس سوى رسكلة للفلول وللفساد وللطغمة التي كانت تحكم أقدار مصر في عهد حسني مبارك.
أما بقية الطبقة السياسية والنخب المثقفة في تونس بصفة عامة فهي على ألف رأي ورأي…فمن وجهة النظر الديمقراطية الصرفة قل أن تجد من يستطيع صراحة الدفاع عن النظام المصري الجديد دون تحفظ . ويجد الكثيرون أن حركة السيسي (مثلما يأملون في حركة حفتر في ليبيا) قد أزاحت من الساحة الخصم الإسلامي المناوئ للديمقراطية وإن كان ذلك بأدوات غير ديمقراطية بالمرة آملين أن يتمكن حكم عسكري "مستنير" من قيادة مصر بعد أن يضمن استقرارها نحو نظام ديمقراطي على خطى التجربتين الكورية الجنوبية والتركية في خصوص دور العسكر في الحالتين.
ولكن الأبعد من كل هذه المقاربات المتضاربة أن تحصيل ما يجري في أرض مصر ليس في الغالب البتة في صالح التجربة الوفاقية التونسية التي لم ترفض كليا "إخوانها" الذين استوعبوا بسرعة دروس الأزمة المصرية وخلوا الحكم لغيرهم من "التكنوقراط" في انتظار أجواء أفضل. ذلك أنه لا حليف ديمقراطي حقيقي لتونس الثورة اليوم في الساحة العربية ولئن يواصل الغرب خاصة تثمين التجربة الوفاقية التونسية فإن نجاحاتها المحدودة لا تخفي عمق الأزمة التونسية كما أن عرب الخليج غير مطمئنين بالمرة لا للأحزاب الديمقراطية ولا لحركة النهضة في تونس التي لم يمدوا لها أية مساعدة تذكر مقارنة بسيل الإعانات الجارف المتدفق على ضفاف نهر النيل.
التجربة الثورية التونسية كانت فتيل الزيت لثورة 25 يناير المصرية كما أن حركة 30 يونيو الاحتجاجية كانت العامل المؤثر في الوصول إلى نجاحات التجربة الوفاقية التي من المؤمل أن تؤدي إلى نهاية المرحلة الانتقالية التونسية وقيام نظام ديمقراطي للجمهورية الثانية. هذا الالتقاء وهذا التباعد بين مصر وبين تونس مرشح للتواصل في المستقبل المنظور لأن عمق التأثير والتأثر بين تونس والقاهرة لم ولن يصل لنهايته…ألم تحمل ألوية المعز الفاطمية دولة الخلافة إلى الفسطاط وألم تحمل القبائل الهلالية هموم العروبة من النيل إلى مجردة؟