احتضنت مؤسسة التميمي للبحث العلمي سلسلة من الاجتماعات التفكيرية ما بين أفريل وماي وجوان 2014 شارك فيها ما يناهز 30 مثقفا من مختلف الاختصاصات والاتجاهات العلمية والفكرية وقد تولى السيد مصطفى كمال النابلي إدارة الحوارات هذه التي اسفرت عن كتاب أبيض نشرته جريدة المغرب في عددها الصادر الأحد 22 جوان ..
ولعل هذه المبادرة وبهذا الحجم من المشاركين هي أول تحرك ضخم وعميق للمثقفين التونسيين للخوض بعمق في التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي تعيشه البلاد منذ 14 جانفي دون بوصلة فكرية واضحة.
ولم يخف المشاركون في الحوارات هذه توجههم الواضح نحو الانتصار لمفاهيم الجمهورية والدولة المدنية الحديثة والديمقراطية ضد كل محاولات المس من خصوصيات تونس وتجربتها الحداثية الفريدة المرتكزة على إرث تاريخي ثري بالتفاعل والتثاقف عبى مر الأزمنة والحضارات.
وينطلق الكتاب الأبيض أولا من رصد لواقع تونس بعد 3 سنوات ” إنّ أخطر ما تشهده تونس في المرحلة الراهنة من تاريخها الحيّ ما تتعرض له الدولة من تدمير متعدد الوجوه مسّ مكانتها ووظائفها ومؤسساتها، بحيث أصبح التهاون بالدولة ينذر بذهاب الوطن ذاته.
ومن أمرّ نتائج ذلك التهاون بالدولة – فكرا وممارسة – ما أصبح عليه التونسي ذاته بعد ثلاث سنوات من ابتداء الثورة الوطنية من حالة نفسية غلب عليها الإحباط العام، بما يلتئم عليه من الضيق بالحاضر والخوف من المستقبل. وممّا زاد التأزّم النفسي حدّة ما صحبه من تأزم مادي تضافرت في إنتاجه عوامل ضاغطة يوميا، هي الانحسار الاقتصادي والتضخم وانحباس الاستثمار وتزايد البطالة وتقلص دائرة الطبقة الوسطى واتساع دائرة الفقر.ولقد أصبح التونسي اليوم يخشى أن يفقد بلده مقوّمات هويته السياسية والثقافية والحضارية بفعل تكاثر القوى العاملة في صمت ماكر، أو في ضوضاء عدوانية، على تقزيم الذات الوطنية وصهرها في كيانات فيها من البريق الإيديولوجي الزائف على قدر ما فيها من سوء المآل المحقّق.”
ويمضي المشاركون في هذا الكتاب الأبيض منددين بالاستيلاء على ثورة شباب تونس من أجل تحويلها عن أهدافها في الشغل والحرية والكرامة الوطنية نحو معارك من أجل الهوية والإسلام ما كانت مطروحة البتة في المسار التاريخي للبلاد… وبعد أن يرصد الكتاب مظاهر متعددة لتآكل قيم الدولة واستقلال القضاء يستعرض كذلك معالم تعثر العمل السياسي والحزبي بالخصوص ومحاولة المس من المكتسبات الوطنية في المساواة ومعاودة محاولات مسخ الهوية الوطنية ووَأد المواطَنة ويسجلالمشاركون في الكتاب الأبيض :” ولا يخفى على أحد أنّ ما سبقت الإشارة إليه من التشتت الحزبي، وتفشّي الظواهر النفسانية–الاجتماعية السلبية، في ارتباطها بالوضعية السياسية بِبُعدَيها العملي والنظري، من أخطر ما يهيّئ – في غير وعي – لِتَحَمّل الهوان، وتَقَبّل ضياع الأوطان، وسقوط الدول. وليس أدلّ على ذلك من تفشّي ظواهر ما عهدناها قطّ في التاريخ الوطني، مثل شيوع الانتحار والعنف، واحتقار الذات، والتفكير في طلب اللجوء السياسي، والتنصّل من الهوية الوطنية التونسية، والانتماء الحضاري. وتُوجِب الموضوعية تنزيل هذا المنحى الخطير الذي آل إليه الوطن – دولة وشعبا، ووجودا وقيمة – في مجرى تعمّق ما شهدناه منذ سنوات قبل الثورة من مظاهر التهلهل في النسيج الاجتماعي، والتخلخل في نظام القيم الأخلاقية، والمعايير المتعالَمة، والمناقب الاجتماعية السمحة. ولم يُستثن قطاع من الحياة الوطنية من امتداد إرادة الإفساد إليه، ولاسيما في القطاعين التربوي والجامعي والثقافي عامة. لذلك تفشَّى بيننا التسطيح الفكري، والتزمّت العقدي، والتصحّر الوجداني، واستولى على الكثير النزوع إلى الاكتفاء بالمُتاح، والاستسلام إلى الجهد الأدنى، والتحيّل للارتقاء السريع، والميل إلى الربح السهل. وبوجه عام طغت عند بعضنا المطالبة بـ»الحق» على الالتزام بالواجب، في حين يقضي الحسّ السليم بأن لا زهد في القيم ولا تفريط في حق المواطنة ولا إهمال للواجب نحو الوطن…” ..
ويواصل الكتاب الأبيض مناقشة مختلف جوانب الوضع السياسي والثقافي والاجتماعي التونسي مركزا على محاور مركزية مثل ضرورة التركيز على بناء الدولة المدنية الديمقراطية، وتوثيق الرابطة الوطنية، بدءا بالثقافة، والنأي بالمدرسة عن الخصومات الحزبية وكذلك مثل ضرورة إشاعة الروح المدنية وثقافة السلم مع نبذ الانقسام ومثل مواجهة العنف والإرهاب باستهداف أبعادهما الفكرية والنفسية والاجتماعية والأمنية…
ويخلص المشاركون في هذا الكتاب في آخر ملاحظاتهم إلى مصيريّة الانتخابات القادمة، وضرورة معالجة الأوضاع الاقتصادية والأمنية والاجتماعية العاجلة بالتزامن مع الاعداد لها على أحسن وجه..ويشيرون إلى أننا: ” نتبيّن هكذا بوضوح تداخل الأبعاد التي نتج عنها مأزق الوطن اليوم، السياسي منها والأمني والاقتصادي. فهي تتفاعل في ضرب من السببية الدائرية، حيث يؤثر الوضع السياسي والأمني غير المستقر في حركية الاقتصاد الذي يؤثر بدوره في الوضعين السياسي والأمني.”
ويضيفيون في آخر الكتاب : ” غير أنه لمّا كان العنصر السياسي أهمّ العناصر لشمول محتواه ومصيرية اختياراته، كان من الواضح أنّ الخروج من الأزمة الوطنية الراهنة، في أبعادها الأخلاقية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية، يرتبط ارتباطا وثيقا بالخروج من الأزمة السياسية، بما تفرضه راهنا من عناية خاصة بأولوية الشأن الأمني…
ولقد حققت تونس في هذا الاتجاه أشواطا لا تنكر، وان كانت دون ما نريد كمّا وكيفا، ودون ما تقدر عليه بكثير. ولعلّ أخطر إنجازات الثورة أن الشعب تعلّم كيف يدافع عن مكاسبه بنفسه، وكيف يعبّر عن طموحاته ويحمل مؤسسات الدّولة على تبنّيها، فخرج بذلك من طور الوصاية المُذلّة إلى طور الرشد المناضل، وتجاوزنا إلى غير رجعة عقلية الإقصاء والتهميش، واتخذنا من الحوار الوطني منهجا قويما، وجد في الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد الوطني للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وعمادة المحامين، خير سند في أصعب مراحل الانتقال الديمقراطي الذي نحن أشدّ ما نكون إيمانا بنجاحه.
لقد أنجزنا الكثير وحقّ لنا أن نفخر بما أنجزنا، ولكنّ ما بقي علينا إنجازه أهمّ وأكثر، وهو ما يفرض علينا جميعا أن نقبل بعزم قوي أمين على تحصين الثورة حتى تنمو وتتعزّز.
أمّا وقد دقّت اليوم ساعة الاختيار المصيري فليس من تحصين للثورة إلا بالعِلم والعمل أوّلا، والعِلم والعمل ثانيا، والعِلم والعمل ثالثا، في مجتمع آمن واقتصاد مزدهر، وبقيادة دولة مدنية قوية عادلة، ترعى الثقافة، وتنشر المعرفة، وتحمي الحرية.”
في ما يلي الرابط للنص الكامل للكتاب الأبيض :