خفتت الاصوات شيئا ما …تباعدت الفوار عن مركز الشاشة وعاد للشاشة بريقها دون دخان القنابل المسيلة للدموع. عادت الفوار إلى ركنها في الخريطة. مثلما عادت بالأمس فطناسة والذهيبة ومن قبلهما سليانة ومن قبلهما بنقردان ومن قبلهما….المشكل أن خريطة هذا الوطن الصغير ككف صبي تعج بمئات “الفوار” …من سجنان ونفزة شمالا إلى رمادة جنوبا شرقا إلى حزوة جنوبا غربا مرورا بكل تلك المدن التي لا نرى منها إلا أسمائها على إشارات المرور أو الشارع الرئيسي فيها عندما نشقها جيئة وذهابا…
الفوار …أضغاث قرية صغيرة لا تملك شهرة جارتها الحارقة رجيم معتوق التي رفعها النظام البوليسي لبورقيبة وبن علي من واحة لقبيلتي الصابرية وغريب إلى سجن “فردوس” منذ أوائل الثمانينات… يوسق له الطلبة المشاكسون فيتكفل بهم ريح الشهيلي الحارق…
الفوار…بضع منازل وواحة مناضلة ضد الريح والرمل والعطش والنسيان ورجال شجعان ونساء أشجع أفنوا حياتهم يقاومون الرمل والريح لاستنبات تلك النخلات السامقات التي يقتاتون منها ولم يبخلوا يوما عليها بجهد ولا مشقة مثلما لم يبخلوا على وطنهم بالروح عندما ناداهم …بعدما تقطع أكثر من 500 كلم وأنت قادم من العاصمة لتصل إلى دوز تظل الفوار عصية بعد إذ أنها تقبع على بعد 40 كلم أخرى غرب دوز وبعد أن تشق في طريق بالية ضيقة كثيرة الحفر كلا من واحات زعفران وغيدمة والصابرية وهي كلها مثل الفوار أو أكثر بؤسا تصل إلى الفوار …
الناس هنا فلاحون بالضرورة .فمن يملك 10 نخلات كمن يملك “غابة” من خمسين نخلة او حتر “هنشيرا” بمائة نخلة (وليس هناك الكثير ممن يملك أكثر) يعيشون على موعد سنوي واحد في شهر نوفمبر عندما تنضج “الدقلة” وتباع…يسمى الموسم “الخريف” فقط…فالفصول الاخرى لا معنى لها بدونه. في هذا الموعد – إن صلحت غلة الموسم – يتنفس الناس الصعداء بعد أن قضوا عاما كاملا ورؤوسهم تحت الماء إن صح التعبير جزافا إذ لا ماء هنا إلا من رحم ربك أو من أسعفه الحظ …المتاجر تبيع بالسلفة على حساب “غلة الدقلة” والمقبلون على الزواج يترقبون الموسم والمحتاج إلى توسيع منزله أيضا والذي ينوي شراء شويهات تساعده على ضنك العيش ينتظر الموسم والكل ينتظر الموسم…وإلا فالصبر ينتظره وحلقات “الخربقة” التي لا تنتهي ولفح الشهيلي الحارق …
منذ سنوات الاستقلال الاولى لم يلتفت “الحاكم” للفوار إلا نادرا…عندما تتسلم شركة غربية رخصة تنقيب في محيطها مثلا فيأمر “الشيخ” وهو من تعرفون في قربه من كل الانظمة باختيار بعض الشباب للعمل في أبسط الاعمال في محطة التنقيب كالحراسة مثلا ويجب أن يختار الشباب من خيرة القوم أي منا وإلينا وانتهى الامر…ثم في أواخر الثمانينات وأمام التطور الديمغرافي اضطر “الحاكم ” بعد أن أرسى ولاية في قبلي إلى جعل الفوار معتمدية …فنثر فيها بعض الادارة وركز فيها الحرس الوطني كما يلزم وأسرع حينها إلى بناء مقر الشعبة الدستورية بالطبع وقفل راجعا إلى مكتبه في العاصمة مسرورا وأغلق ملف الفوار ونسيها هناك…
الارض هنا في الفوار كلها “اشتراكية” بمعنى الامتلاك المشترك للعائلات والقبيلة وهي توزع بالقسطاس منذ أبد الدهر في عملية تصرف ذاتي تعتبر أن “الصايم” وهو الشاب الذي بلغ سن الصوم يصبح ذو حق في الملكية آليا عند كل توزيع لأراضي جديدة . اما الصائمات فلهن الله…الأرض موجودة مترامية الاطراف وهي لا تصلح لشيء ، إن لم تنقبها شركات البترول والغاز، إلا للغراسات الواحية وهذه الغراسات لا تفلح إلا بالماء الكثير..والجنوب الغربي نضبت مياه آباره السطحية منذ أوائل الثمانينات …فرأى الحاكم عندئذ ان يمنع التنقيب عن الماء منعا باتا …”حفاظا على المائدة المائية” مثل ما يقولون في نشرة الاخبار وفي خطب المسؤولين الوافدين على المنطقة احيانا…الفلاحون طبعا لم يقفوا عند أوامر الحاكم وطفقوا يحفرون الآبار في كل مكان فيصيبون أحيانا ويخسرون أحيان كثيرة ويلاحقهم أعوان إدارة الفلاحة في كل الاحوال …
هذه هي حياة الفوار وحياة كل واحات المنطقة (دوز وزعفران ونويل وبشني والكليبية والجرسين وغيدمة والصابرية ورجيم معتوق…وغيرها) . تلك التي تتباهى وزارة الفلاحة علنا بأنها تنتج أجود أنواع تمور “الدقلة” في تونس وتحارب فلاحيها على عين المكان ولا تتحمل الدولة منذ عشرات السنين مسؤوليتها في حفر الآبار العميقة التي يمكن أن توفر الماء للواحات وللفلاحين…
فإن طفح الكيل بأهلنا في الفوار وبالشباب منهم خصوصا فلا نستغرب ذلك بالطبع دون أن نستبعد البتة ركوب الراكبين على تحركاتهم وهذا لا ينقص من جديتها شيئا …وإن تجاوز البعض منهم حدود الاحتجاج إلى حرق مراكز الأمن وهذا ما لا يجب قبوله فإن سوء استعمال الوسيلة لا ينتقص شيئا من صدق الهدف …وإن تهجم البعض منهم على الاعلاميين فالإعلاميون اخوتهم وهم أول المتفهمين لما طفح من الكيل ..
المشكل أن الفوار قد هدئت اليوم …ولكننا لم نجد لها حلولا مثلما لم نجد لغيرها…
علي العيدي بن منصور