تعددت التعاليق بخصوص قرار نواب الشعب المتعلق بالزيادة في أجورهم بمبلغ هام. هذه التعاليق وضعت النواب في حرج كبير أمام الرأي العام مما جعل هؤلاء يقدمون التبريرات تلوى الأخرى من أجل تفادي موجة الرفض لهذا القرار التي عبر عنها التونسيون عن طريق الشبكات الاجتماعية و التي قد تتحول إلى نوعا من الإحتجاجات التى ستهز صورة النائب لدى الرأي العام. و تعددت التبريرات من نائب إلى آخر. فالنائب محمد الطرودي عن نداء تونس …… يصرح للجميع و أن وضعية النائب التونسي المادية هي الأسوأ في العالم بعد التشاد، و أنه حسب دراسة المقارنة التي قام بها هذا النائب المحترم كان من المفروض أن تكون أجرة النائب سبعة الاف دينار. و لا ندري من أين جاء النائب بهذه الأرقام، و هل وقع إنتخابه من قبل الشعب للدفاع عن حقوق الفئات الضعيفة أم الترفيع في أجرته كنائب، و لماذا لا يقدم لنا مقارنة بين أجور مختلف الفئات المهنية مع نظيراتها في الخارج طالما و أنه بارع في المقارنات.
في المقابل تفيدنا النائبة المحترمة بشري بالحاج حميدة في إحدى تصريحاتها و أن بعض النواب أو كلهم ينوون الحصول على هذه المنحة، ثم التبرع بها للدولة و هو تبرير غريب و لا يستقيم لا قانونيا و لا منطقيا. و أقل ما نقول عن هذا التصريح أنه ينم عن شعور بالذنب و عن عدم القناعة بوجاهة قرار الزيادة في الاجور في هذا الظرف بالذات و لذا أرادت الثانية التي نحترم تاريخها النضالي أن تلفق تبرير أقل ما يقال فيه وأنه غريب….. فكيف يمكن للإنسان أن يتبرع بشيئ لا يجوز له الحصول عليه، ثم إذا كانت النية هي التبرع بالزيادة فلماذا الإقرار بها أصلا؟ من جهته يدلي النائب خالد شوكات بدلوه هو الأخر و يبين لنا و أن المستفيد الأول من الزيادة هي ميزانية المجلس باعتبار و أن هذه الزيادة ستعوض المصاريف التي كان يخصصها المجلس لإيواء النواب في الفندق، و أن هذه المصاريف هي أضخم من المنحة و بالتالي فإن الميزانية العمومية، و من ورائها الشعب ككل هو الرابح في نهاية المطاف.
و هذا الكلام يصبح مردودا على صاحبه عندما ندقق فيه و نحلل أبعاد هذه الزيادة و خفاياها. لا شك وأنّ لكل طرف الحق في تقديم التبريرات التي يراها مناسبة و لكن مالا تجوز هو اعتماد التظليل و المغالطة في تقديم المعلومات و إخفاء بعض الحقائق.
لتقديم هذا القرار في ثوب مقبول، و من هنا سأقدم بعرض المعطيات بكل تجرد لمساعدة الرأي العام على فهم مختلف جوانب هذه المسألة، واتخاذ موقف منها بكل رويّة بعيدا عن منطق التسيس أو التحامل.
-أولا: المغالطة الأولى: و أن هذه المنحة جاءت لتعوض مصاريف الإقامة بالفندق التي تتكبدها ميزانية المجلس والتي حسب تصريح النائب محمد الطرودي تصل إلى خمسة مليارات، من جراء إيواء النواب عند تنقلهم إلى العاصمة للقيام بعملهم. لو كان هذا التبرير صحيح لكان من المعقول إسناد هذه المنحة للنواب الذين ينتمون للجهات الداخلية فقط لتمكينهم من كراء منازل بالعاصمة عوضا من الإقامة بالفنادق على نفقة المجلس لكن هذه المنحة سوف تسند إلى جميع النواب، بما في ذلك أولائك القاطنين أصلا بتونس – بن عروس – أريانة ,و الولايات القريبة مثل زغوان – بنزرت – نابل و حتى سوسة – باجة و الذين لا يعتبر المجلس مطالبا بتوفير الإقامة لهم بالفندق. لماذا إذا تستند هذه المنحة لجميع النواب لو كانت حقيقة جعلت للتقليص من مصاريف المجلس المخولة للإقامة. و الحقيقة الثانية هي و أن عدد لا بأس به من النواب بالجهات الداخلية هم أصلا من سكان تونس العاصمة منذ عقود حتى و إن كانو قد ترشحوا على ولاياتهم الأصلية. و بالتالي فإذا أراد رئيس المجلس و نوابه تقديم هذا التبرير فإنه لا يمكن استساغته إلا في حالة واحدة هو اقتصار الزيادة على من يتكفل المجلس بإقامتهم بالفنادق و عدم تعميمها على الجميع، و هذه أولى المغالطات.
المغالطة الثانية: في تحديد حجم الزيادة بعنوان منحة سكن وهي قيمة مبالغ في حجمها و تتجاوز معدل منح السكن بالنسبة لمختلف فئات المسؤولين السامين بما في ذلك الوزراء و المديرين العامين و الرؤساء المديرين العامين. و هذا يجعل و أن حجم الزيادة في الأجرتصل إلى ( 50 بالمائة) من الأجر الأصلي و هي نسبة لم يشهد لها تاريخ الزيادات في الأجور مثيلا، حيث قل ما تتجاوز نسبة الزيادات (6 بالمائة) و بالتالي فإذا هذه النسبة من حيث البعدالإعتباري و الرمزي تخلق منطقا جديدا و معايير تختلف على المعتاد فكيف ستقنع بعد ذلك الحكومة بقية الفئات المهنية بمنطلق التجميد في الأجور. و هذا يبين الطابع الارتجالي الذي يميز هذا القرار الذي لم يقع تحليل أبعاده الإجتماعيىة و السياسية أو الأخلاقية مثلما ستبينه لاحقا.
فلو وضعنا منحة السكن المقترحة بالنسبة للنواب في سلم بقية الفئات المهنية بما ذلك الإطارات السامية بالدولة و سيبين لنا الفرق. فمنحة السكن بالنسبة لجميع الفئات تم إقرارها خلال السبعينات بناءا على مستوى الكراء في ذلك الوقت و لم يقع تحسينها بالنسبة لأي فئة بما في ذلك الوزراء إلا بنسب ضعيفة، في حين وأنّ منحة السكن للنواب وقع ضبط حجمها يقيمها على حساب واقع السكن في الوقت الحالي.
– ثالثا: قرار الزيادة لا يجوز أخلاقيا مهما كانت التبريرات القانونية والموضوعية، وذلك للأسباب التالية:
كيف يجوز لسلطة مهما كانت علويتها ومهما كان نفوذها أن تقرر لوحدها وبصفة أحاديه وآلية، وبهذه السهولة، الامتيازات والأجرة الخاصة بها.
التأجير هو عبارة عن مكافئة مقابل عمل معين، يقدمها المؤجر للأجير بناء على إتفاق بين الطرفين، أو في بعض الحالات فإن المؤجر هو الذي يحدد الأجرة وعلى الأخير قبولها أو رفضها.
وفي كلتا الحالات فلا مجال للأجير أن يحدد أجرته بنفسه، مهما كانت سلطته للأن ذلك يفتح الباب أمام سوء استخدام السلطة،والمغالات في تقييم مردود العمل الذي يقوم به هذا الأخير وبالتالي في تحديد المقابل.ماذا لو تطالب السلطة القضائية والتنفيذية بحق تحديد أجرتها دون رقابة من أي سلطة كانت؟
فالسلطة التشريعية هي سلطة كباقي السلط التنفيذية والقضائية والمحلية والهيئات الدستورية، فإذا كانت السلطة التشريعية تتعلل بأنها أعلى السلط، ومصدر بقية السلط، وبالتالي يجوز لها ما لا يجوز لغيرها فهذا كان من المفروض أن يدفعها إلى التواضع والعفة والقناعة لكي لا يقع إتهامها بالإنفراد بالسلطة.
ثم لا يجب أن ننسى السلطة التشريعية، وان السلطة العليا هي سلطة الشعب الذي إنتخبها وهذا الأخير لا يتفهم ان يقرر مجلس النواب أي زيادة لأعضائه مهما كان مستوى فقرهم وبؤسهم الأجتماعي، لأن بؤس الشعب وفقره أشد بكثير من بؤس هؤلاء النواب.
من الناحية الأخلاقية أيضا كيف يقبل مجلس نواب الشعب عن الترفيع في أجور نوابه مع أول ميزانية يصادق عليها، (الميزانية التكميلية) وفي الوقت الذي رفض اسناد منحة 200 دينار للعاطلين على العمل. كان من المفروض على الأقل أن ينتظر سنة أو سنتان لكي لا يعطي الإنطباع وأن أعضاءه غلب عليهم الجشع وعقلية استخدام سلطة المصادقة على الميزانية لتحقيق منفعة ذاتية؟
قرار المجلس بالترفيع في أجرة النواب، وقع إدراكا بهذا الشكل من قبل المواطن البسيط على أنه تم بدافع غريزة الإستفادة من الغنيمة، ولن ينظر إليه إلا على هذا النحو حتى ولو تم في ظروف مالية أفضل من الظروف التي تمر بها البلاد.
– من الناحية الأخلاقية أيضا، كيف أمكن لمجلس نواب الشعب أن يقرر مثل هذه الزيادة في الوقت الذي ترزخ فيه البلاد تحت وطئة المديونية، وفي سنة تنبأ جميع المؤشرات وأنها ستكون صعبة للغاية، وأن مستوى نمو الناتج المحلي سيكون سلبي أو في أفضل الحالات في حدود الصفر، خاصة بعد إنهيار قطاع السياحة، وتراجع الموسم الفلاحي أقل بكثير من المعدل المعهود.
ماهي المبررات التي يمكن أن يستخدمها النواب لتبرير الزيادة والحال وأن البلاد على حافة الإنهيار.
– من الناحية الأخلاقية أيضا، كيف يمكن الزيادة في أجور نواب أغلبهم من فئة رجال الأعمال الميسورين، الذين دخلوا المجلس ليس من أجل الحصول على أجرة لا تمثل شيئا أمام ما يملكونه ولكن من أجل الحصول على موقع يسمح لهم بخدمة مصالحهم، وبالتالي فهم يحصلون على الموقع، ثم على الأجرة العالية.
– كنّا ننتظر أن يقدم لنا المجلس من باب الشفافية خاصة خطة من أجل معالجة تضارب المصالح التي يقع فيها النواب عادة بحكم موقعهم كنواب يقررون باسم الشعب، وبين مصالحهم الخاصة بوصف جزء كبير منهم من المهن الحرة، ورجال الأعمال الذين تتأثر أعمالهم إيجابيا أو سلبيا بالقرارات التي يتخذونها، وهو تقليد معمول به في أغلب برلمانات العالم، حيث أنّ النائب يلتزم بسلوكيات محددة يمتنع بمقتضاها عن الخوض في القوانين التي لها إنعكاس مباشر على مصالحه المهنية الخاصة، ويتقيد بالدفاع عن المصلحة العامة حتى وإن يتضارب مع مصالحه،إن كان رجل أعمال أو صاحب مهنة حرّة
إن تضارب المصالح المسكوت عنها بالنسبة للنواب تدر عليهم أضعاف الأجرة التي يتقاضونها آلاف المرات، ومع ذلك فهذه الظاهرة مسكوت عنها، وكان من الأجدى أن يبادر المجلس وأن يبين لنا وأنّ مصلحة الشعب والدولة هي الأعلى بالنسبة للنواب لكي يبدو وأنّ نوّابنا بعيدين كلّ البعد عن هذا المستوى والدرجة من المسؤولية.
أخيرا وليس آخرا، ما هو موقف الحكومة باعتبارها المسؤول الأول عن الموازنة، وهي المطالبة بتوفير الموارد المالية لسد مختلف نفقات الدولة بما في ذلك أجور النوّاب؟ ماهو موقف الحكومة، وهي المخوّلة أكثر من غيرها لتقييم وقع وانعكاس أي زيادة كانت على المستوى المالي أو الإجتماعي؟ لا ننتظر موقفا من الحكومة وهي محكومة من قبل مجلس النواب، وتتحاشى غضبه أو حتى أن تخيب آماله بموقف قد لا يستسيغه النوّاب.
كنّا نتمنّى أن تقدّم لنا الحكومة موقفا باعتبارها المسؤولة عن التوازنات المالية، وهي المتصرف الوحيد في ملف الزيادات.
ثم هل من المعقول أن يطلع عبثا النائب محمد الطرودي بتصريح غريب يقول فيه وأنّ أجرة النائب زهيدة بالمقارنة مع بقية الإطارات السامية بالدولة. وهي مقارنة غريبة لا تصح لأن ما ينطبق على الإطارات السامية العمومية من إلتزامات لا يقارن بوضعية النائب.
فالإطار السامي غير مسموح بأن يتناول أي نشاط مواز بمقابل في حين وأن النائب معفى من هذا الإجراء.أعطوني من فضلكم نائبا واحدا إستقال من مهنته الحرّة، أو ترك أعماله الخاصة جانبا وتفرّغ للنيابة بل بالعكس فإن أعمالهم الخاصة تزدهر عند ممارستهم لمهنة النائب. ثم إذا كانت وضعية النائب ماديا صعبة لماذا ترشحتم لها سادتي النوّاب، ودفعتم من أجل الحصول عليها الرشاوي والوعود الكاذبة.
غربي منتصر