ريو دي جانيو .. اسم جميل لمدينة كفيل لوحده بان يوقظ بداخلك الحلم .. عندما تلامس الطائرة تمثال كوركوفادو (المسيح الفادي) المنتصب في شموخ على قمة جبل في “بوتافوغو” وهي تعبر الاجواء البرزيلية وتتهيئ امامك المباني الشاهقة والبحيرات العاكسة لاشعة الشمس الساطعة ابدا في بلاد “الصامبا” وفي روح شعبها المقبل على مباهج الحياة وعناوين الفرح وطقوس الاحتفال في شبة عبادة .. والعبادات لها الف الاه والاه في موطن “بيلي” و”لولا ايغناسيو دا سيلفا” و”كوبا كابانا” ..
تحط الطائرة على ارض مطار “غاليغو” في ضواحي ريو .. تطؤ قدماك مسرح الحياة في المدينة الجميلة الكادحة فينتابك الشك قبل ان تتبدل الصورة .. شيئا فشيئا ريو التي يقطنها 7 ملايين حسب التعداد الرسمي ( 10 مليون حسب بعض سكانها) .. ثاني اكبر المدن البرازيلية بعد ساو باولو .. ترفض الاحكام على اطلاقها .. يبدو ان ما يدركه البصر لاتخطئه البصيرة .
الاصداء التي تلاحقك في زحمة شوارع المدينة تؤشر الى صعوبات اقتصادية تثقل كاهل الطبقة الوسطى وما دونها .. ليفيا نافاس (37 سنة) وزوجها كلايلسون (43 سنة) وابنهما ماثيو جونيور (10 سنوات) يمتلكون منزلا وسيارة تشتغل هي في احدى المؤسسات الرياضية والشبابية الحكومية ويعمل هو في شركة للتنقيب عن البترول في عرض البحر.. تقول ” عشنا سنوات طويلة من الرخاء شهدت البلاد طفرة اقتصادية ومالية هامة انعكست على عموم الشعب ووصل مداها “الفافيلاس” (الاحياء الفقيرة) في توجه يؤشر على ان الدولة الراعية بمفهومها الشامل حريصة على رعاية الفقراء من ابناء الشعب وتحقيق نوع من العدالة الاجتماعية المفقودة ,,
اليوم الوضع للأسف الشديد تدهور من جديد في ظل تفاقم الأزمة الاقتصادية والسياسية في أعلى هرم السلطة فتعطلت ماكينة الانتاج ونشطت من جديد الة الفساد والمحسوبية والرشوة ,,, رجعنا الى نقطة البداية تقريبا .. البداية التي اسس لها “لولا” (لولا ايغناسيو داسيلفا الرئيس البرازيلي السابق) خلال سنوات حكمه لكنها تلاشت اليوم في ظل صراعات حزبية وطبقية لا تنتهي …
“البعض يلوم عموم الشعب على عدم تحمسه لدورة الالعاب الاولمبية في ريو وانتقاداته المتواصلة لتشييد الملاعب والقاعات على حساب قطاعات اكثر اهمية وحيوية للشعب مثل الصحة والطرقات والمدارس .. انا أتفهم هذا الموقف تماما فلكل انسان هواجسه وأولوياته في بلادنا ”
” المشهد ليس على هذه الدرجة من السوء” يعتبر “كلايسون” زوج “ليفيا” ويضيف ” قد تكون ألازمات السياسية في البلاد اثرت على الوضع الاقتصادي .. لكن البرازيل في تقديري تأثرت اكثر بمخلفات الازمة الاقتصادية العالمية والكوارث البيئية والطبيعية واختلال الأسواق المالية .. نحن جزء من العالم نتاثر به اكثر مما نؤثر فيه .. ومن يعتقد ان الاستثمار في التظاهرات الرياضية على غرار مونديال 2014 واليوم اولمبياد ريو 2016 يثقل كاهل الدولة والمواطن ولا يفيد البرازيل في شيء مخطئ تماما.. لا يمكن ان تجد افضل من الرياضة والاستثمار فيها للترويج لصورة البلاد كديمقراطية ناشئة وقوة اقتصادية صاعدة .. بلاد منفتحة على العالم متعددة الأعراق والأجناس والثقافات .. وختم بالقول ” يمكن ان يجهل جزء من العالم اسم “ديلما روسيف” (رئيسة البرازيل الحالية) لكن حتما العالم كله يعرف من خلال الرياضة “بيلي” و “زيكو” و”روماريو” و”نيمار” …
اختلف الزوج وزوجته في تقدير حدة ألازمة وصواب الخيارات الحكومية التي يجب ان تتوجه اما للنهوض بالبنية التحتية الاجتماعية ورفاه الشعب او لاحتضان كبرى التظاهرات الرياضية وتشييد الملاعب والنزل … فكان لزاما فصل الجدل بتحكيم سليم الجربي وهو تونسي يعمل في قطاع الخدمات السياحية ومقيم في مدينة ريو منذ قرابة 10 سنوات
سليم مصر على ان ” الصورة ليست بيضاء كلها ولا سوداء جلها” قال ” البرازيل بلد غني بثقافته متاصل في تاريخه نسبة الشباب في البلاد كبيرة جدا واقتصاده صلب ..
خبر الدكتاتورية وحكم العسكر طوال عقود طويلة وهو منذ قرابة 25 سنة يخطو بهدوء خطواته الاولى على درب ترسيخ مسار ديمقراطي تعددي قوامه العدالة الاجتماعية التي تكفل حظا للمهمشين والفقراء واقتصاد متنوع وثري يضمن النمو وخلق الثروة خاصة في مهن مستجدة على غرار تكنولوجيات الاتصال والبحث العلمي في مجال الطاقات المتجددة والبديلة … وهذا ميدان رحب وواعد لابد للخبرات التونسية ان تطلع عليه وتستفيد منه باعتبار قدرته الفائقة على امتصاص ازمة البطالة .
وعاد ليقول “البرازيل قوة اقتصادية مهمة في محيطها الجغرافي لكن يبدو انها تجد صعوبة كبيرة في تأصيل طبقة متوسطة صلبة تشكل رافعة للنمو والبناء الديمقراطي في ظل غياب ثقافة العمل وانتشار الفقر وارتفاع نسبة الجريمة ..
هل ريو دي جانيرو لوحة فنية ثلاثية الابعاد رسمتها أنامل فنان .. بلا رتوش ولا خدوش .. ام هي حقوق متأصلة تابى النسيان لسكان اصليين بسطاء.. قاطني الفافيلاس بجانب الأودية على المرتفعات .. الاختلاف في التقدير والقراءات المتعددة لنفس المشهد تلمسه عندما تسير في الأزقة والشوارع وفي عيون الأبرياء .. وتسمعه عندما تتحدث الى شعب يعشق الكلام بكل لغات الجسد المرهق حينا والمتحفز أحيانا للحياة .. والموت .. من اجل الحياة.