عندما تتعدد الأحداث والروايات، تضحى عملية البحث عن الحقيقة الواحدة صعبة المنال، سيما تلك المتعلقة بانتهاك الحقوق والحريات الإنسانية.
هكذا وجد المخرج السينمائي إلياس بكار نفسه تائها بين كمّ هائل من الأحداث والوقائع التي عرفتها تونس بعد ثورة 14 جانفي 2011، جسدها في شريط وثائقي طويل أطلق عليه إسم “أنا فين”، افتتح الدورة الرابعة للمهرجان الدولي لأفلام حقوق الإنسان بتونس، مساء الثلاثاء بقاعة الريو بالعاصمة، وهو العرض العالمي الأول لهذا الفيلم الذي رأى النور موفى شهر أوت الماضي، واستغرقت مدة العمل عليه أكثر من 4 سنوات.
يعبر إلياس بكار في هذا الفيلم الوثائقي الطويل الأول له “أنا فين” ومدته 70 دقيقة، عن ضياعه في البحث عن الحقيقة، وهي حالة تعكس حيرة المواطن وحالة التمزق التي يعيشها بعد الثورة جراء التجاذبات السياسية والاختلافات الإيديولوجية التي أعادت إلى السطح مرة أخرى قضايا تجاوزها الزمن ومن أهمها حرية المرأة.
تظهر حيرة المخرج في مطلع الشريط، عندما تحدث إلى والدته عن اعتزامه تصوير شريط حول المرأة، لكنه لا يعرف من أين يبدأ ولا كيف يبدأ.
تهيمن على الفيلم مشاهد مقتطفة من بعض التحركات والاحتجاجات التي عرفتها تونس بعد الثورة وخاصة منذ تولي “الترويكا ” الحكم في أواخر ديسمبر 2011، وهي صور اتسمت بالتناقض والتباين، فهذا تحرك احتجاجي يطالب بحرية المرأة وبتثبيت مكتسباتها وحقوقها، وفي المقابل ينادي البعض بتطبيق الشريعة، وبين هذا وذاك يقف المواطن البسيط هائما تائها ملتبسا، “يسكنه الشعور بالغربة في وطن يكاد يفقد معناه”. ولعل هذه الصورة تكشف حيرة المخرج وغربته أمام ضياع المعنى أو التباسه.
حالة التيه والضياع التي تسكن مخرج الفيلم، تجسدت أيضا في المكان، حيث انتقل إلياس بكار إلى قرية أولاد هلال بمعتمدية عين دراهم من ولاية جندوبة وأرياف ولاية الكاف، وقرية شنني بولاية تطاوين، ليرصد مستجدات الأحداث ووقعها على أهالي المنطقة، وليصور أيضا الحياة اليومية القاسية للمرأة الريفية، وكأنه بهذه المشاهد يوجه رسالة مفادها أن التجاذبات السياسية والصراعات الإيديولوجية ليست هي القضايا التي قامت من أجلها الثورة، وليذكر أن الثورة قامت من أجل القضاء على الفقر والخصاصة والتهميش.
وفي ما يتعلق بالخصائص الفنية المميزة لفيلم “أنا فين”، لاحظ المتابعون لهذا الفيلم استعمال المخرج بكثافة لتقنية “التصوير عكس الضوء” التي تجعل من الموضوع المصور قاتما، وقد وظفها إلياس بكار في فيلمه للتعبير عن “الحقيقة المحجبة” كما يقول. ولكن في المقابل، اتسمت أغلب المشاهد الأخرى بالانفتاح، وهي عملية مقصودة أراد من خلالها المخرج أن يعبر على معنى الحرية كقيمة إنسانية من ناحية ، وعلى أن الأمل يبقى قائما رغم المشاكل التي تعيشها تونس من ناحية أخرى .
وتتواصل عروض الدورة الرابعة للمهرجان الدولي لفيلم حقوق الانسان بتونس الذي تنظمه الجمعية الثقافية التونسية للإدماج والتكوين “أكتيف” إلى غاية 10 سبتمبر الحالي بحضور ما لا يقل عن 25 شريطا سينمائيا من 14 بلدا .
ورصدت إدارة المهرجان 3 جوائز هي: جائزة أفضل فيلم طويل وتضم 13 شريطا ستختار أفضلها لجنة تحكيم يرأسها المسرحي الفرنسي “روبيرت لندي”، وجائزة أفضل فيلم قصير سيتنافس صلبها 12 فيلما وتحتكم إلى لجنة ترأسها الممثلة السينمائية التونسية بوراوية مرزوق، وهي لجنة التحكيم نفسها التي ستختار أفضل فيلم حول حقوق المرأة محور المسابقة الثالثة.
جدير بالذكر أن شريط “أنا فين” لإلياس بكار الذي افتتح التظاهرة، تم عرضه خارج إطار المسابقة .
والمهرجان الدولي لفيلم حقوق الإنسان هو تظاهرة سينمائية تأسست سنة 2012، ويعد أوّل مهرجان يعنى بحقوق الإنسان في شمال إفريقيا، يجمع سينمائيين عرب وأفارقة ومن دول أخرى، لتبادل وجهات النظر والتجارب مع مختصين دوليين في حقوق الإنسان ومنظمات غير حكومية وفنانين.