سوق الجملة ببئر القصعة: “مغسلة الموز المهرب”

على الساعة السابعة والنصف مساء (الوقت القانوني لدخول المزودين والتجار لسوق الجملة ببئر القصعة)، توقفت الشاحنة المحملة بعلب الموز، التي رافقناها، لخلاص معلوم الدخول، الذي ضبط بدينار واحد (1000 مليم) للكرتونة الواحدة، معلوم أقرت توظيفه الشركة التونسية لأسواق الجملة، أكبر سوق للخضر والغلال في تونس، ابتداء من غرة ديسمبر 2015، في حين أكدت وزارة المالية، التي تعود اليها بالنظر مصالح الجباية، عدم قانونية هذا الإجراء (مراسلة وزارة المالية).

لم يقم عون الاستخلاص بإحصاء عدد الكراتين المحملة بل اكتفى بالسؤال عن الكمية فصرحنا بأنها في حدود 60 كرتونة فقط، رغم أن الشاحنة كانت محملة ب100 كرتونة. وشرح المرافق أن هذا من بين “الاجراءات المعهودة” وأنه تم رشوة عون الاستخلاص بمنحه 10 دنانير ومثلها للعون، الذي قدم وصل الدخول لتسهيل عملية الدخول الى السوق وعدم التصريح بالحمولة الحقيقية.

داخل فضاء سوق الجملة “السوتيماغ” انطلقنا لنفرغ الحمولة في دكان يتسوغه في الأصل تاجر تمور (القانون يحجر على المتسوغ الاول للعقار أن يكتريه لطرف ثان). وعدنا أدراجنا مجددا لجلب حمولة ثانية بنفس الحجم، وتابعنا وللمرة الثانية نفس التمشي لدخول السوق.

أول ما استرعى انتباهنا هو عدم تفتيش الأعوان المكلفين بالمراقبة لأي حمولة وافدة على السوق رغم الوضع الامني، الذي تعيشه البلاد كما لا يطالبون بالاستظهار بفواتير الشراء، ليفتح ذلك الباب على مصراعيه لدخول الغلال المهربة إلى مسالك التوزيع المنظمة والقانونية، وبالتالي “تبييض” الاموال المتداولة في هذا المجال. ويذكر أن عونين ضبطا، سابقا، وهما بصدد تلقي رشوة وتمت إحالتهما على مجلس التأديب، الذي اتخذ بشأنهما قرارا بالإقالة من العمل لكنهما عادا إلى سالف نشاطهما وكأن شيئا لم يكن.

“مستعدون للدخول في المسالك المنظمة ودفع الضرائب المستوجبة” ويعتبرمراد الفقير أحد تجار الغلال المستوردة أن خلاص معلوم الدينار قد يوفر شهريا 135 ألف دينار أي مليون و622 ألف دينار سنويا خاصة وأن عدد تجار الغلال المستوردة يناهز 26 تاجرا (بمعدل 200 كرتونة غلال لكل تاجر يوميا). “نحن نرغب في أداء واجبنا الجبائي..نريد أن يتم توظيف أداء على رقم المعاملات الذي نسجله لا أن ندفع معاليم للدخول لا يبدو أنها تصل خزينة الدولة بل تنتهي في جيوب المرتشين”، يقول محدثنا.

ويتابع:”لقد طالبنا الإدارة بأن توفر لنا فضاءات قانونية لبيع سلعنا مع توظيف 2 بالمائة على رقم المعاملات الذي يتم احتسابه عبر الفوترة الالكترونية حتى يمكننا التصريح بممتلكاتنا المالية” مضيفا أن “الأموال التي نجنيها لا مصدر قانوني لها لغياب الفواتير التي تثبت بيعنا لبضائعنا بالطرق القانونية”.

كل هذه المطالب “من شأنها أن تضع حدا لانسياب الغلال مجهولة المصدر إلى السوق وبالتالي المساعدة على محاربة التهريب والمحافظة على ديمومة مصدر رزق العديد من المتدخلين في القطاع”. (فيديو 1) إجراءات مخالفة للقانون

قرار الشركة توظيف دينار على كل كرتونة غلال مستوردة (أناناس وموز وكيوي وأفوكادو ..) تدخل السوق مخالف للأمر عدد 2876 لسنة 2011 المؤرخ في 5 أكتوبر 2011 والمتعلق باستخلاص المعاليم بالسوق “ذات المصلحة الوطنية” ببئر القصعة، والذي ينص على أن يتم استخلاص 2 بالمائة من قيمة البيوعات اليومية على الخضر والغلال. وتروج السوق، إلى جانب الخضر والغلال المحلية، كميات كبيرة من الغلال المستوردة كان بالإمكان أن تدر على خزينة الدولة أموالا طائلة لو طبق القانون المتعلق بالضريبة على رقم معاملات التجار من خلال تكريس شفافية مسالك التوريد المنتظمة.

وحسب مراد الفقير “يناهز رقم المعاملات في قطاع الغلال المستوردة 130 مليون دينار سنويا على مستوى سوق الجملة ببئر القصعة وحدها و200 مليون دينار على المستوى الوطني” لكن الدولة لا تستفيد من هذا النشاط كما لا تستفيد من أنشطة أخرى بسبب التهريب والتجارة الموازية. لان “مكافحة التهريب” بقيت إلى اليوم مجرد شعار رفعته الحكومات المتتالية في تونس بعد ثورة 17 ديسمبر 2010/ 14 جانفي 2011. لا يخجل كبار المسؤولين في الدولة من التصريح بأن نسبة التجارة الموازية زادت بشكل لافت وتقر وزارة التجارة أن حجم التهريب أصبح يناهز 6ر3 مليار دينار سنويا في دولة مؤسسات من المفترض أن يطبق فيها القانون.
من يطبق القانون على بعض مؤسسات الدولة حين تتحول إلى “مغسلة” للمواد المهربة ؟

ينطبق هذا الطرح، الذي يستغربه العديد من التونسيين، على تجارة الموز، الذي يباع في محلات شركة أسواق الجملة ببئر القصعة من ولاية بن عروس دون التثبت من مصدره أو مراقبة ما تحتويه كراتين هذا المنتوج، التي تاتي محملة بها عشرات الشاحنات يوميا لتلج باب أكبر سوق للبيع بالجملة في البلاد دون حسيب أو رقيب.
يجبر القانون مزودي السوق بالغلال المستوردة على الاستظهار بالوثائق، التي تعرف بمصادر بضاعتهم من اسم المورد والكمية وتاريخ التزود وناقل البضاعة حتى الرقم المنجمي للشاحنة الناقلة للبضاعة.

ويفرد القانون التونسي عملية توريد الموز وبعض الفواكه الاستوائية الأخرى بتراتيب خاصة، لكن القانون يبقى دون تفعيل فلا تستفيد الدولة ولا المجموعة الوطنية من الأموال الطائلة، التي تدرها تجارة هذه الفاكهة المحببة إلى قلوب التونسيين بل تستفيد منها “لوبيات” أحكمت سيطرتها على شركة سوق الجملة فأصبحت تدار حسب هواها.

ويعرف القانون الاساسي لشركة “السوتيماغ” أنها “شركة ذات مصلحة وطنية” وهي علاوة على ذلك مدرجة بالبورصة ومطالبة بالكشف عن قوائمها المالية وتطبيق تمشيات شفافة ورغما عن ذلك تدار شؤون هذه السوق ضد المصلحة العامة ووفق نواميس التجارة الموازية.

تكمن المعضلة الاساسية في عدم تطبيق ترسانة القوانين، التي شرعت لتنظيم ضوابط التعامل على مستوى السوق، وعدم تفعيل نظم المراقبة واتخاذ العقوبات الزجرية الملائمة ضد كل من يستثري على حساب المجموعة الوطنية.

كيف تخرق شركة وطنية القانون وتشجع على التجارة الموازية؟

يستغرب مسؤول سابق في وزارة التجارة، رفض الكشف عن اسمه، كيف تسمح الدولة بهكذا خروقات في سوق ذات مصلحة وطنية ولا تطبق القانون وتخضع لسلطة “بارونات التهريب” و توريد الغلال. وقد بلغت درجة هيمنة العائلة الحاكمة في عهد بن علي على نشاط توريد الموز إلى حد الدفع نحو تنقيح القوانين لصالحها. وتم فعلا التخفيض بنسبة 50 بالمائة في المعاليم الديوانية المستوجبة عند توريد الموز الطازج “من طرف الاشخاص المرخص لهم من قبل المصالح المعنية لوزارة السياحة والتجارة والصناعات التقليدية حينها” (امر مؤرخ في 29 اكتوبر 2002).

ودون تردد يصف مزودو هذه السوق والشركة، التي تديرها ب”بوابة تبييض أموال التهريب” وتابعنا ذلك بعد المشاركة في رحلة التزود واكتشفنا كيف تتم عملية التزويد عبر بوابات كلمة السر فيها “الرشوة”، بوابات تبدو مستعصية أمام تجار اخرين اختاروا أن يطبقوا القوانين.
تسويف ومماطلة في تطبيق الاتفاقيات

عاينا في الجانحين 4 و5 المخصصين لبيع الغلال المحلية دون المستوردة بيع الموز والغلال المستوردة. واستغربنا اسناد فواتيرقانونية لكل الغلال، التي يتم بيعها لتجار التفصيل، بينما يباع الموز والغلال المستوردة دون فواتير أو سند قانوني يثبت أن تاجر التفصيل قد اقتنى هذه الكمية من مسلك تزويد منظم.

“لقد وعدتنا الشركة، في العديد من الجلسات، تخصيص فضاءات لبيع الغلال المستوردة يتم استغلالها من قبل شركات تجارية دون سواها قصد استيعاب جميع الناشطين في القطاع”، يقول محمد مكور، تاجر غلال مستوردة.

ويستحضر المتحدث جلسة عمل التأمت، يوم 15 فيفري 2016، بمقر الشركة التونسية لأسواق الجملة، وبإشراف مديرها العام، خلصت إلى الاتفاق بأن تتعهد الشركة ببناء 10 محلات (بمساحة 32 متر مربع لكل محل) مخصصة لبيع الموز والغلال المستوردة داخل السوق في أقرب الآجال. وبالفعل خصصت ميزانية لتهيئة هذه المحلات تناهز 350 ألف دينار وصادقت عليها سلطة الاشراف (وزارة التجارة) لكنها لم تنفذ ولا يعرف إن كانت ستصرف لنفس الغرض.

ونصت نفس الجلسة على أن يتم ربط هذه المحلات بشبكة إعلامية ومنحها في إطار عقود الشركات التجارية الناشطة في هذا القطاع علاوة على توظيف أداء يتراوح بين 2 و3 بالمائة من رقم معاملاتها.

ويؤكد المكور أن التجار المعنيين قاموا بمراسلة وزارتي التجارة والمالية لتطبيق هذه الاتفاقات ومزيد مراقبة السلع، التي تدخل سوق الجملة ببئر القصعة، ومنع توظيف معلوم دينار واحد عن كل كرتونة غلال مستوردة، لكن دون جدوى. (فيديو 2)

وغير بعيد عن التجاوزات، التي ترتكب في سوق الجملة ببئر القصعة، فإن عدم مراقبة المنتجات التي ترد عليها يمثل خرقا لاتفاقية الصحة والصحة النباتية المبرمة سنة 1994 ودخلت غرة جانفي 1995 حيز التنفيذ على مستوى دول العالم والتي تنص على ضرورة التأكد من سلامة المنتجات الاستهلاكية رعاية لصحة الأفراد والمجتمعات. وما لا يمكن ضمانه في اسواقنا عامة هو مصدر السلع الاستهلاكية وخاصة منها الغلال مع ما تمثله من خطر على صحتنا إذا كانت مهربة.

اترك تعليقاً

Time limit is exhausted. Please reload CAPTCHA.