من أحد الأحياء الشعبية من “حارة” مدينة مدنين ذات التاريخ العريق والرمزية الكبيرة، تحول منزل عتيق شيد منذ ما يفوق ثلاثمائة سنة إلى دار للفنون أطلق عليها مجموعة من المثقفين من جمعية عشاق الركح، “حوش الفنون” أو “حوش دار d’arts “، ليفتح أبوابه معلنا عن انطلاق مولود
ثقافي جديد وتحقيق حلم راود هذه النخبة بهدف تأسيس ممارسة يومية للفعل الثقافي وليكون بادرة نحو دفع الحركة الفنية بالأحياء واستعادة تقاليد ثقافية وفنية كانت
راسخة بحي “الحارة”.
ففي هذا الحي الشعبي وعلى غرار كل الحارات العربية التي تتمتع بخصوصيات فريدة، انتعشت منذ القديم سائر الفنون ونحت الفضاء لنفسه ممارسات ثقافية
معينة، ” إذ انطلقت منه سينما الحائط وعرضت به مسرحيات شتى كعطيل وزينة وعزيزة وكافيشانطا فكان له تاريخ ثقافي ثري لم يستثن الرجل أو الشاب أو المراة
التي كانت تخرج لمواكبة العروض منذ ثلاثينات القرن الماضي”، بحسب ما ذكره رئيس جمعية عشاق الركح بمدنين، ضو العوني.
مشروع “حوش الفنون” الذي يرمي إلى استعادة الرونق والبريق الثقافي بهذا الحي وسائرأحياء مدينة مدنين، احتضن في يومه الافتتاحي أنشطة وفقرات ثقافية
متنوعة، أثثها عدد من الفنانين ليجمعوا فيها بين الغناء والموسيقى والمسرح وسط فضاء ضاهى التحفة الفنية بتزويقه وبنايته وهندسته وحتى اغراضه واثاثه، فامتزج
وتفاعل الاطار بالمحتوى حتى بدا وكأنه يغني “الفن للفن”.
من حوش الفنون كانت الانطلاقة بـ”بنت الحوش”، وهو عرض للفنان خالد لملومي، المدير الفني للمشروع، حاول من خلاله ان يحكي قصة ولادة المشروع من رحم
امرأة تهوى السفر والعلم والمعرفة وتحب التأسيس والبناء وتعشق الفن والإبداع.
يتحدث خالد هذا الشاب ذو الحس الفني المرهف عن هذا الحلم الحقيقة بتأثر بالغ يعكس مدى إيمانه “بقدرة الثقافة على تغيير المجتمع نحو الأفضل والتأسيس
لمجتمع بديل ومواطنة حقيقية والدعوة الى الحياة والمقاومة الفنية والمبادرة الخلاقة ومجابهة الافكار الظلامية والهدامة، في كل حي وفي كل مكان” حسب قوله.
رسم المدير الفني لهذا المشروع، رفقة مجموعة تحمل نفس القناعات والأهداف، طموحات كبيرة ليجعل من هذه البادرة نقطة انطلاق تظاهرة “حومتنا فنانة” التي
يحاول من خلالها أن يدخل أشكالا فنية مختلفة على عدد من البيوت فيرسم على جدار حديقة لوحة ويلقي ببيت قصيدة ويعزف قطعة موسيقية في منزل آخر،
شعاره في ذلك ” نحب نعيش فن”، حسب قوله.
كما ستنتظم، بهذه المناسبة، “تظاهرات في شكل مهرجانات تؤثثها طاقات مبدعة ولكنها في حاجة الى الاحاطة والتأطير مما يساعدها على بلورة طاقاتها الخلاقة
الكامنة والعيش كما تريد وليس كما يراد لها”، وفق نفس المصدر. هذه الأنشطة ستتوج في نهاية السنة في إطار مهرجان مدنين.
الجولة داخل حوش الفنون ستكون بمثابة رحلة في الزمان والمكان تقود الزائر في ثنايا الماضي بين غرف قديمة تم تضمينها بمحاميل فنية أعادت لها الحياة على
غرار “دار سيني” اي دار السينما والمسرح والعرائس والمراوحات الموسيقية متزاوجة الأنغام. وتتواصل الرحلة نحو البهو الذي يضم الركح و”دار دار” (دار d’ arts أو
دار الفنون) وتتفرع عنه عدة غرف للتسجيل السمعي والبصري التي ستتيح الفرصة للمواهب ولورشات التكوين والتأطير في كل الانماط الفنية.
ويحتوي الحوش أيضا على فضاء اخر أطلق عليه “دار دورة” وهي “غرفة دائرية الشكل وغريبة باعتبار أنها تعطي تقنية صوتية غريبة تخلق رجع صدى”، بحسب
رئيس جمعية عشاق الركح بمدنين، فضلا عن “بيت السر” التي ستمثل خلية انصات تؤمنها اخصائية اجتماعية لمساعدة الشباب او المرأة على ابراز الطاقات الفنية
الكامنة لديهم.
أما في فضاء “دار الهناء” فيجد المبدع، الملاذ الهادئ أين يمكنه أن ينتج أدبا أو مسرحا … هذا الفضاء سيحتضن في فترات معينة عروض الحكواتي قصد توثيق
وجمع التراث الللامادي وتكوين بنك للتراث الشفوي من خلال تظاهرة “ألف وواحد حكاية”.
ويفتح حوش الفنون أبوابه الى كل الفنانين والمبتدئين عبر مخابر وورشات يؤطرها مختصون في المجال فضلا عن أكاديميين وفنانين من أصحاب الخبرة للافادة
بتجاربهم إلى جانب انشطة للاطفال، وذلك مساء السبت والاحد عندما تغلق المحاضن ورياض الاطفال. كما سيكون لرواد هذا الفضاس موعد مع عدد من البرامج
الموجهة لكل الاجيال في فضاء اخذ تسمية “الاجيال الاربعة” أو “4g “، بحسب المصدر ذاته.
الرحلة الممتعة بحوش الفنون ستدفع زائرها الى العودة من جديد للبحث والاستمتاع بعبق التاريخ وبرائحة الابداع التي تنبعث من شباب يتقد حماسا وحيوية وحسا فنيا
ورافضا للعنف والافكار الظلامية الهدامة.