يشهد مسار تركيز المجلس الاعلى للقضاء الذي أعلن عن احداثه دستور الجمهورية الثانية في بابه الخامس المتعلق بالسلطة القضائية، تعثرا جليا رغم أن القانون ينص على وجوب انعقاد أولى جلساته بعد شهر من تاريخ إعلان النتائج النهائية لانتخاب اعضائه الصادرة يوم 14 نوفمبر 2016
وقد أُرجع أستاذ القانون الدستوري قيس سعيد، في تصريح لوكالة تونس افريقيا للانباء أسباب تأخر انعقاد المجلس الأعلى للقضاء، إلى ما وصفه
بـ “الصراع الدائر بين السلطة السياسية والقضاة، وبين القضاة أنفسهم”، مضيفا في هذا الصدد، أن “السلطة القضائية التي يفترض أن تكون مستقلة مازالت تتجاذبها رياح السياسة والسياسيين”، على حد تعبيره.
وعلى خلفية هذا التعطيل، يواصل القضاة التونسيون بدعوة من جمعيتهم تحركاتهم الاحتجاجية الأخيرة التي تمتد من 9 إلى 13 جانفي 2017، وذلك
بتأجيل النظر في القضايا وتأخيرها على حالتها، بهدف “التصدي للانحرافات الدستورية والقانونية الحاصلة في مسار تركيز المجلس الاعلى للقضاء والتعجيل باصدار رئيس الحكومة، يوسف الشاهد لأوامر تسمية القضاة طبق قرارات الترشيح الصادرة عن هيئة القضاء العدلي” وفق ما اكده بيان صادر أمس الاربعاء عن جمعية القضاة التونسيين.
ويضم هذا المجلس أربعة هياكل تتمثل في مجلس القضاء العدلي، ومجلس القضاء الإداري، ومجلس القضاء المالي، والجلسة العامة للمجالس القضائية الثلاثة، إلى جانب المحكمة الدستورية التي تضمن الدستور إحداثها وأوكل إليها مهمة مراقبة دستورية مشاريع القوانين.
وقد خصّ الدستور التونسي الجديد للجمهورية الثانية السلطة القضائية بباب يتضمن 23 فصلا (من الفصل 102 إلى الفصل 124)، وعرّف القضاء بأنه “سلطة مستقلة تضمن إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون، وحماية الحقوق والحريات”.
ولتكريس استقلالية المرفق القضائي وحمايته، نص الدستور على إحداث مجلس أعلى للقضاء يتمتع بالاستقلال الإداري والمالي والتسيير الذاتي، وتكون أغلبية أعضائه من المنتخبين لفترة مدتها 6 سنوات.
إلا أن المتابع للتطورات التي رافقت مسار تركيز المجلس الأعلى للقضاء، يلاحظ تعطيلا كبيرا في إحداث هذا الهيكل القضائي الدستوري، تجلى منذ الشروع في إعداد مسودة قانون المجلس الذي سبق وأن طعنت في دستوريته الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانن مرتين.
وكانت المرة الأولى يوم 8 جوان 2015 عندما أصدرت الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية تقريرا أشارت فيه إلى أن “لجنة التشريع العام خلال تعهدها بالمبادرة التشريعة للحكومة المتعلقة بمشروع القانون الأساسي للمجلس الأعلى للقضاء، تولت استبعاد هذا المشروع برمته وقامت بصياغة مشروع قانون أساسي جديد يتعلق بذات الموضوع، مخالف تماما في روحه وفلسفته ومضمونه وبنيته وأجزائه وأقسامه وعدد فصوله، للمشروع المقدم من الحكومة”، ثم أعادت الهيئة الطعن فيه مرة ثانية، وكان ذلك بتاريخ 22 ديسمبر 2015 وتزامن النظر في مشروع هذا القانون من قبل النواب إلى حين المصادقة عليه بالإجماع بـ 132 صوتا في 23 مارس 2016، مع تحركات احتجاجية بأساليب متنوعة نفذها القضاة بمختلف أصنافهم ورتبهم بهدف حماية مسار استقلال القضاء بالبلاد والخوف من العودة بالعدالة إلى مربع ما قبل 14 جانفي 2011
ولئن كانت تحركات القضاة في تلك الفترة لمواجهة ما أسموه بـ “التوافق السياسي البرلماني المغلوط وانقلابه على روح الدستور”، فإن ما رافق الإعلان عن النتائج النهائية لانتخابات المجلس الأعلى للقضاء يوم 14 نوفمبر 2016، قد أثار جدلا واسعا في الأوساط القضائية حول مسألة سدّ الشغورات الحاصلة بتركيبة المجلس والتي تهم القضاة المعينين بالصفة، وليتحول “الصراع” القائم سابقا بين القضاة والبرلمان، إلى صراع حالي بين القضاة فيما بينهم من ناحية (جمعية القضاة التونسيين ونقابة القضاة التونسيين)، وبين القضاة (جمعية القضاة التونسيين) والحكومة التي حملتها جمعية القضاة التونسيين المسؤولية في تأخير تركيز هذا المجلس، ودعتها إلى الإمضاء بالتطابق على القائمة التي أعدتها الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، إلا أن الحكومة لا تزال إلى اللحظة تنتظر مقترحات عملية من القضاة أنفسهم للخروج من هذه الأزمة.
وقد أصدرت المحكمة الإدارية حكما يوم 2 جانفي الجاري، يقضي بتأجيل تنفيذ القرارات المنبثقة عن الاجتماع الذي تم عقده يوم 29 ديسمبر 2016 وحضره 21 عضوا من المجلس، والذي أيدته نقابة القضاة التونسيين مقابل استنكاره بشدة من قبل جمعية القضاة التونسيين والمرصد التونسي لاستقلال القضاء.
//جمعية القضاة متمسكة بالفصل 73 من قانون المجلس الأعلى للقضاءوتعتبر جمعية القضاة التونسيين التي نفذت منذ 14 ديسمبر الماضي سلسلة من التحركات الاحتجاجية المختلفة، أن رئيس الحكومة مدعوّ إلى تطبيق القانون في ما يتعلق بالإمضاء بالتطابق على تسمية القضاة السامين في تركيبة المجلس الأعلى للقضاء، موضحة في هذا الشأن أن عدم إمضاء رئيس الحكومة لأوامر تسمية القضاة السامين يعدّ “تدخلا في القرارات القضائية المتمثلة في ترشيح عدد من القضاة للوظائف السامية من قبل
هيئة القضاء العدلي بصفتها هيئة قضائية مستقلة وإلغاءً لها”.كما اعتبرت جمعية القضاة التونسيين أن هذا “الامتناع” عن الإمضاء فيه “مخالفة” لما درجت عليه الممارسة الحكومية منذ سنة 2014 في احترام كل قرارات الترشيح الصادرة عن هيئة القضاء العدلي وإصدار الأوامر المطابقة لها دون التدخل بتعطيلها أو تغيير مضامينها بتغيير الأسماء المرشحة.وأكدت في بيانات أصدرتها بصفة متتالية، أن “الامتناع” عن إمضاء أوامر التسمية “يثبت مدى تدخل السلطة التنفيذية في استقلالية القضاء والشأن القضائي”، مرجحة أن يزيد ذلك في تعطيل تركيز مؤسسة قضائية أخرى هامة هي المحكمة الدستورية.
وبينت أن “التراجع” الحاصل من الحكومة في إصدار أوامر تسمية القضاة السامين حسب الرأي المطابق لهيئة القضاء العدلي “سيمس لاحقا وبكل تأكيد”، وفق تقديرها، من استقلالية قرارات المجلس الأعلى للقضاء في ترشيح القضاة لهذه الخطط السامية.
وبخصوص اجتماع المجلس الأعلى للقضاء يوم 29 ديسمبر 2016، تؤكد جمعية القضاة التونسيين أن الدعوة إلى عقد هذا الاجتماع “تتنافى مع الدستور والقانون ولم تصدر عن رئيس الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، ودون استكمال تركيبة المجلس وسد الشغورات الحاصلة على مستوى القضاة المعينين بالصفة في مجلس القضاء العدلي”.
وتعتقد الجمعية أن ما تم التسويق له من قرارات صادرة عن الاجتماع المذكور، ونسبتها إلى المجلس الأعلى للقضاء، تندرج في سياق “التضليل والتغطية على الانحراف الحاصل” في مسار إرساء المجلس، معتبرة هذه القرارات “محاولات لفرض سياسة الأمر الواقع خارج أي إطار دستوري”.
ووصفت الجمعية هذه القرارات بـ “الباطلة” واعتبرتها “من قبيل الاعتداء المادي القائم على غصب سلطات المجلس وانتهاكها”، منبهة في السياق ذاته، إلى ما أسمته بـ “خطورة ممارسات الاجتماعات الموازية” في ظل مواصلة هيئة القضاء العدلي والمجلس الأعلى للمحكمة الإدارية والمجلس الأعلى لدائرة المحاسبات لمهامها طبق أحكام الفصل 74 من القانون الأساسي المتعلق بالمجلس الأعلى للقضاء.
وترى جمعية القضاة التونسيين أن المخرج من هذه الأزمة، يبقى في دعوة رئيس الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي لعقد أولى جلسات المجلس الأعلى للقضاء، وذلك وطبقا للفقرة الثانية من الفصل 73 من قانون المجلس الأعلى للقضاء، والتي تنص على أن “رئيس الهيئة الوقتية للإشراف على للقضاء العدلي يدعو لانعقاد أول جلسة للمجلس في أجل أقصاه شهر من تاريخ تسلمه لنتائج الانتخابات”. كما تعول الجمعية على أن يمضي رئيس الحكومة بالتطابق على تسمية القضاة السامين في تركيبة هذا المجلس لسد بقية الشغورات.
نقابة القضاة التونسيين: “إمضاء رئيس الحكومة على تسمية القضاة السامين يمسّ من استقلالية القضاء”
وفي مقابل ما ذهبت إليه جمعية القضاة التونسيين، ترى نقابة القضاة التونسيين أن “مطالبة رئيس الحكومة بالإمضاء على أوامر التسمية هو مطالبة له بالتدخل في القضاء وأن رئيس الحكومة بعدم إمضائه على تلك الأوامر اختار عدم التدخل في الشأن القضائي”.
وأرجعت نقابة القضاة سبب الأزمة الحاصلة في مسار تركيز المجلس الأعلى للقضاء، إلى ما وصفته بـ “تقاعس الهيئة الوقتيّة للإشراف على القضاء العدلي وحسابات رئيسها”، مبرزة أن هيئة القضاء العدلي لم تتولّ سدّ الشغور الذي كان موجودا في القضاء العدلي في خطّة وكيل الدولة العام لدى محكمة التعقيب منذ غرة أوت 2016
واشارت النقابة في بيان لها، الى إن رئيس الهيئة الوقتيّة للإشراف على القضاء العدلي “رفض” الدعوة لانعقاد المجلس الأعلى للقضاء خلال الفترة الفاصلة بين 14 و30 نوفمبر 2016
وترى نقابة القضاة أن ترشيحات الهيئة الوقتيّة للقضاء العدلي “غير شرعيّة”، متعللة في ذلك بتقديم الهيئة الوقتيّة للإشراف على القضاء العدلي مجموعة من الترشيحات في خطط قضائيّة هامّة “في توقيت مريب”، حسب توصيفها، بعد استكمال تركيبة المجلس الأعلى للقضاء،ووصفت هذا الإجراء بـ “خرق فادح للدستور والقانون”.
وتعتقد النقابة أن الهيئة الوقتية للإشراف على القضاء العدلي، قامت بـ “خروقات” بعد إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات عن النتائج النهائية لانتخابات المجلس يوم 14 نوفمبر 2016. وذكرت من بينها أن دور هيئة القضاء العدلي يقتصر على تصريف الأعمال الضروريّة لا غير، مضيفة
أنه لا يمكن للهيئة توظيف صلاحيّاتها بما من شأنه أن “يؤثّر على نتائج الانتخابات، أو يرتهن الاختصاص الذي أصبح موكولا إلى المجلس الأعلى للقضاء صاحب الشرعيّة الانتخابيّة”.
كما اتهمت نقابة القضاة الهيئة الوقتيّة للإشراف على القضاء العدلي بـ “إحداث شغورات جديدة وتولّت التسمية فيها بأن أزاحت أحد أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بالصفة وتولّت ترشيحه بإرادتها المنفردة في خطّة غير ممثّلة بالمجلس الأعلى للقضاء”.
وأبرزت أن أداء أعضاء المجلس لليمين الدستورية يوم 14 ديسمبر 2016، قد “أدّى قانونا إلى اضمحلال الهيئة الوقتيّة للإشراف على القضاء العدلي”.ونبهت من أن رفض المجلس الأعلى للقضاء عقد جلساته ومباشرة صلاحياته، “سيعكّر الوضع وسوف يعطي الفرصة إلى السلطة التنفيذيّة للتدخّل باعتبار أنّها ستتعلّل بحالة الفراغ وبضرورة استمرار سير المرفق العمومي”.
ويكمن الحل وفق نقابة القضاة التونسيين في طيّ صفحة الهيئة الوقتيّة للقضاء العدلي، والالتجاء إلى الفصل 36 من قانون المجلس الأعلى للقضاء، الذي ينص على أن “المجلس يعقد جلساته بدعوة من رئيسه الذي يضبط جدول أعماله، أو بطلب من ثلث أعضاء المجلس”.
دعوة نقابة القضاة التونسيين إلى الالتجاء إلى الفصل 36 من قانون المجلس الأعلى للقضاء، يدحضها المرصد التونسي لاستقلال القضاء، بحجة أن هذا الفصل يهم فقط الجلسات التي تلي عقد أولى جلسات المجلس.
واعتبر رئيس المرصد التونسي لاستقلال القضاء، أحمد الرحموني هذا الإجراء بـ “الانقلاب” على شرعية المجلس، مبينا أن النص القانوني واضح في هذا الشأن ولا يقبل التأويل. وأضاف أنه ينبغي على رئيس الحكومة إصدار التسميات لسد الشغورات الحاصلة في تركيبة المجلس.
وفي ما يلي أهم الأحداث التي رافقت مسار تركيز المجلس الأعلى للقضاء:23 مارس 2016: المصادقة بالإجماع على قانون المجلس الأعلى للقضاء بـ 132 صوتا.
29 أفريل 2016: إصدار قانون المجلس الأعلى للقضاء بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية.
20 جوان 2016: نشر قائمة الناخبين في انتخابات المجلس الأعلى للقضاء.
2 سبتمبر 2016: فتح باب الترشح لعضوية المجلس الأعلى للقضاء.
14 سبتمبر 2016: نشر قائمة المترشحين لعضوية المجلس.
23 أكتوبر 2016: انتخابات المجلس الأعلى للقضاء.
24 أكتوبر 2016: الإعلان عن النتائج الأولية لانتخابات المجلس الأعلى للقضاء.
14 نوفمبر 2016: الإعلان عن النتائج النهائية لانتخابات المجلس الأعلى للقضاء.
14 ديسمبر 2016: أعضاء المجلس الأعلى للقضاء يؤدون اليمين الدستورية أمام رئيس الجمهورية دون اكتمال بقية أعضائه المعينين بالصفة.
20 ديسمبر 2016: محاولة أولى لعقد اجتماع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء في انتظار استكمال تركيبته، لكنها لم تنعقد لعدم اكتمال النصاب القانونية.
29 ديسمبر 2016: اجتماع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء بحضور 21 عضوا دون سد الشغورات الحاصلة فيه، مما خلف جدلا واسعا في الساحة القضائية.
2 جانفي 2017: المحكمة الإدارية تقضي بتأجيل تنفيذ القرارات المنبثقة عن اجتماع المجلس الأعلى للقضاء يوم 29 ديسمبر 2016.